أخبار مهمةمنوعات

(إلى اللقاء يا أمي)….للأديبة فاطمة صالح صالح


يتابع موقع جولان تايمز نشر رواية (إلى اللقاء يا أمي)….للأديبة فاطمة صالح صالح المريقب طرطوس- الاجزاء الثلاثة كاملة

 

666

 

أتذكّرُ، أنني مِتّ ُ على راحَتيها.. كما كنت ُ أحلم..

12313668_920207128067256_2597888237955078668_n-204x300يومَها.. لم يكنْ في البيتِ أحدٌ سوانا..
كنت ُ أحدّثها عنِ الأيامِ الغابرة.. وفجأة ً.. شعرت ُ بدُوار.. وغَمامَة بيضاءَ كثيفة، غطّت ْ على عينَيّ….
لم أكَدْ أشعرُ بالغُربة.. حتى رأيتُ نفسي أسبحُ في مُحيطٍ لامَحدود.. مشاعِرُ منَ الغبطة غَمَرتني.. سعادةٌ.. وارتياح..
بياض ٌ.. يا ابنتي.. بَياض ٌ، يا فاطمة..
أهيَ روحُ والدك ِ التي تُرَفرِفُ فوقَ روحي.. فأبدأ بالارتِعاش.؟!
أكادُ أستيقظُ يا ابنتي..
طالما أكّدْت ِ لي أنني سألتَقيهِ في هذهِ اللحْظة.. لم أشعرْ أبدا ً بالوَحشَة.. ولا حتى بالألم..
هاهيَ نسماتُ طِيبه ِ تمْلأ أنفاسي..
هاهيَ أنفاسُ روحه ِ تغمُرُني.. فأسبَحُ في حَنانها..
هاهوَ يلتقَطني من يَدي، ويرفعُني إليه.. يضمّني ياابنتي.. ابتَعِدي يا فاطمة.. ففي هذهِ اللحظات أرجو أن نكونَ لوَحْدِنا أنا وحَبيبي..
يااااه………. يا صالح..!! أخيرا ً التَقَينا يا حَبيبي.. أخيرا ً تحقّق َ دعاؤك َ يا صالح :
( – ألله جَعْلِك تكوني من نَصيبي كلّ جيل بخْلَقْ فيه يا ماريّا.. )
إنها دعواتُ المؤمِنِ الصادِقَة.. التي لا تنزلُ على أرض..
وكنت ُ أبكيك َ بمُنتَهى الألَمِ يا صالح.. كنت ُ أنظرُ نحْوَ قبْرِك َ المُقابِلِ لبَيتِنا الدافئ وأرَدّدُ بمُنتَهى النّدَم :
( يا أللـــــــــــــــــــــه..!! ولَكْ ليشْ ما قضّيتْ كلّ هالعمر وأنا قول له: يا حَبيبي..؟! ليش..؟! لييييييييييييييييش..؟!)
**************************
كيفَ أبدأ بدايةً تليقُ بكِ، يا أمي..؟!
أبحثُ في خفايا الروحِ، والوجدان.. في تاريخي.. منذ ماقبل ولادتي.. أو، حتى قبل ولادتكِ، أنتِ ياغالية.. أقلّبُ الصفحات، والمواقف.. أحاولُ اختيارَ نقطةٍ في الذاكرة، أراها أنسبَ من غيرها.. لأبدأ حكايةً.. أظنها مختلفة.. لكن.. ربما كانت الحكاياتُ كلها متشابهة.. ومشاعرُ الناسِ تجاهها هي التي تختلف..!!
أمي..
اليوم هو الأربعاء الأول من أيار عام 2013م.. الساعة الثانية والربع بعد الظهر.. الشمسُ في الخارجِ ساطعة.. والجوّ حارّ بعضَ الشيء.. لكنني أجلسُ في غرفتكِ يا أمي.. غرفة أبي… أوضة الشرقية.. على الديفون المقابل للتلفزيون.. ولمرآة أبي المستطيلة..الكبيرة.. التي ثبّتها له على الحائط..الغالي، إبن عمتي الغالية “ندّة “.. ليرى من خلالها مايجري في (الدوّارة ).. وهو جالسٌ في سريرهِ.. أو، مستلقي.. من خلال النافذة الشمالية التي تطلّ على الدّوّارة.. وعلى مقام (الشيخ علي سلمان ).. ومقام (الشيخ صالح العلي ).. وعلى مقبرة الرجال.. ومقبرة النساء.. وعلى الطريق القادم من (الشيخ بدر ) ومن (وادي العيون ).. وتطلّ على ( القدموس ).. وعلى الحارات الشمالية من قريتنا.. و (القلع )..و (الأندروسة ).. و (الرستة ).. و (فيصوع ).. و،حتى على (السّْبيل ).. و (الدَّحْقومِة ).. و (المْسيل ).. و (عين شْعات ).. و (بيت خالي الشيخ محمد ابراهيم عباس ).. و (بيت زرّوف ).. و (بيت أحمِد القرحيلي ).. و (بيت محسن القرحيلي ).. و (بيت الشيخ سلمان غانم ).. و (بيت خَضّور ).. و (الجورَة ).. و (المْغَيْسِلْ ).. ومن أمام النافذة تتفرّع عدّةُ طرق.. أهمّها، الطريقُ الذي يَصِلُ (الشيخ بدر ) ب (شرَيْجِس ).. ومنها إلى (الدّرَيْكيش ) و (وادي العُيون ) وغيرها من المناطق..
سريرُكِ.. إلى شمالي..
أقبّلهُ بين فترةٍ، وأخرى.. أشمّ رائحتكِ من خِلالِه.. الو سادةُ التي كنتُ أضعُها تحتَ ظهركِ، لتسندَه، عندما أقلبُ جسدَكِ الحبيب، نحوَ جهةٍ ما.. ثمّ إلى الجهةِ الثانية.. كي يخفّفَ من ألمِكِ المُبْرح من “الخشكريشا ” اللعينة، الناتجة عن تماسّ جسدِكِ الحبيبِ معَ الفراشِ، لمدّةٍ طويلة.. خَفّفَتْ من شِدّته “فرشة الهوا ” التي أحضرَها إخوتي “كإعارة ” من “صحّة الشيخ بدر “..
سريرُكِ الخشبيّ هذا.. أتذكرين..؟! طبعاً تذكرينَ أنه كانَ من “عَفْشِ ” بيت أخي الغالي، الذي أحضَروهُ من “حلب ” بعد وفاتهِ..
أمي..
بالطبع، تعرفينَ أنّ هذا اليوم يُصادفُ ذكرى رحيلِ الغالي أخي.. الذكرى السابعة والعشرين.. تصوّري..!!
حُلُم… حُلُمٌ، يا أمي…
هكذا هيَ الحياة..
حُلُم..
سبعةٌ وعشرونَ عاماً، مرّت، كأنها بالأمس..
يااااااااه…..!! ياه….. يا زمَن..!!
هِيَ الحياةُ الدنيا هكذا……….
ذِكْرى…. ذِكْرى…
قبلَ مدّة، كتبتُ على جهازيَ الخلويّ، كلماتٍ.. ربما تكونُ مشروعَ قصيدة.. بدأتُها ب “سنُصبحُ ذكرى “.. وهذا مؤكّد.. علّها تكونُ ذِكْرى عَطِرة، يا أمي.. تشبهُ ذِكْراكِ.. وذكراهُ.. وذِكْرى أبي.. رَحِمَهُ الله.. وذِكْرى.. وذِكْرى… وما لا يُعَدّ، ولا يُحصى من الذِّكْرَيات….!!
قلتِ لي –مرّةً – أظنها قبل عدّةِ أشهُر :
-فاطمة.. اكتبي.. اكتبي يا أمي.. اكتبي شيئاً يُسِرّ القلب، ويُفرحُ الروح..
وكنتِ تعانينَ من كآبةٍ مؤلمة.. لا أظنها بدأتْ عقِبَ وفاةِ أبي.. لكنني متأكّدة أنها تضاعَفتْ…. حيثُ بدأتِ تشعرينَ بقلّةِ الأمان، إلى حَدّ كبير..
(- بَدّي بَناتي.. )
فحَضرنا نحنُ الأربعة..
كنا نتسابقُ للبقاءِ بقرْبكِ، يا أمي.. أبناءَ وبنات.. أحفاد وحَفيدات.. (كناين) وأصْهار.. الكلّ متعطّشٌ للبقاءِ معكِ، أيتها الدافئةُ الحَنون.. ياصديقةَ الجميع.. وأمّ الجميع.. وحبيبةَ الجميع… ولا أبالغ..
لكنّ وجودَنا كلّنا لم يستطعْ ملءَ الفراغِ الذي ترَكَهُ أبي في حياتِك..
كانَ سَندَكِ، يا أمي.. وكنتِ سنَدَه..
هذا الشعورُ، حَدَثَ معي ما يُشبههُ، عَقِبَ رَحيلِ أخي الغالي… أذكرُ أنني كنتُ أندبُهُ، وأنا أسيرُ بتثاقُلٍ شديد، خلفَ جنازةِ الغالي.. تسندُني من تحتِ إبطَيّ، امرأتان.. نسيرُ.. ونسيرُ.. ونسيرُ نحوَ مقبرةِ الرجال عند “الشيخ علي سلمان “.. قُرْبَ أجدادنا.. فألتفتُ حولي، وأرى جموعَ المُشيّعينَ، من نساءٍ، ورجال.. أمامي، وخلفي.. وعلى يميني، ويساري.. إلى البعيدِ، البعيد.. أظنّ أننا سِرنا مسافةً طويلةً.. طويلة.. وإذا بنا لم نكنْ قد اجتزنا سوى عِدّةَ أمتار…. كنتُ أشعرُ أنني فقدْتُ أمانَ العالمِ كلّه، بعد رحيلِ أخي.. فأقول : “كشّفتْ لي عن راسي، يا خَيّي.. أللـــه يرحمك.. “..
( هلّق، يا إمي، بدّي اترك الكتابة شويّ.. إرتاح.. وأستمع لأخبار التلفزيون.. لأرى إلى أينَ وصَلتْ أحداثُ بلادنا الغالية.. أرى شريطاً أحمرَ في أسفلِ الشاشة.. )…
نادتني أختي من النافذة.. كانت قادمة بسيارة زوجها مع قسم من العائلة، من “العامريّة ” كانوا يعزّونَ الغالي “محسن ” باستشهاد ابنهِ “علاء ” قبل ثلاثة أيام، في “برزة ” بالسلاح الكيماوي، الذي أطلقهُ عليهِ، وعلى رفاقهِ في الجيش “المُسَلّحونَ ” المُجرمون.. ودُفِنَ أول أمس.. واكتفيتُ أنا بتعزيتهِ على الهاتف، وأنا أبكي بحُرقة..
-فاطمة.. نحنا طالعين نشوف خالي، شويّ.. بتطلعي معنا..؟!
ترَدّدْتُ قليلاً.. ثمّ طلعتُ معهم. قالتْ بنت خالي : – والله نايم.. واعتذرَتْ أنّ علينا أن ندخل إلى عندهِ، بهدوء.. كلّ اثنتين معاً.. كي لا نزعجه..
كان إبن خالي الأصغر عند أبيه.. سلّمَتْ علينا – أيضاً – ابنتُهُ الثانية.. دخلنا الغرفة.. خالي جالسٌ نصفَ جَلسة.. كفّاهُ على جَنبيه.. “السيروم ” في وريد كفهِ اليُمنى.. قبّلنا يدَهُ اليُسرى…. لا حراك..!! لكنه لا يتألّم.. ولا يتكلّم.. وتقولُ ابنتُه أنهُ لا يأكلُ شيئاً يُذكَر.. قلنا : – ألله يهَوّن عليه.. آمين..
أحضرتُ مفتاحَ البيت، من بيت أخي .. كانتْ أختي وزوجُها يتحضّران لشربِ “المتّة ” والغداء عندهم.. فتحتُ بابَ بيتنا.. بيتكم.. بيت أهلي.. يا أمي.. غسَلتُ يديّ، وفمي.. جَفّفتهما بالمنشفة الصغيرة، المُعَلّقة بمسمارٍ، على يمينِ بابِ غرفتكِ الشرقيّة.. وجلستُ أكتب.. بعد أن فتحتُ التلفاز الذي أغلقتُهُ قبلَ أن أطلعَ مع أخواتي.. قرأتُ على “الفضائية السورية ” خبراً يقول أنّ عُمّال الكهرباء في “ساحة الأمويين ” في دمشق.. يؤكّدون للسيد الرئيس الذي كان يتفقّد المكان الذي طالتهُ يدُ الإجرام بالتخريب.. ومعهُ زوجته.. يؤكّد العمال أنهم لن يتوانوا عن عملِ كلّ ما بوُسعهم للحفاظ على البُنية التحتية للوطن.. سالمةً من أيدي العابثين المجرمين المُفسدين في الأرض.. مهما لاقوا من صعوباتٍ، وعَقبات.. ومهما تعرّضوا لهُ من مخاطر..
لم أستغرب الخبر.. هو شعبُنا العربيّ السوريّ الصامد.. المُقاوم.. البطل.. الواعي.. سيواصِلُ قيامَهُ بواجبهِ تجاهَ وطنه، على أكملِ وجه.. قدرَ المُستطاع.. وربما، بشكلٍ مُضاعَف.. لتأمينِ مُتطلّباتِ الحياة، للمواطنين.. إلى جانبِ تضحياتِ، وصمودِ الجيش العربيّ السوريّ، البطلِ، الشريفِ، المقدام.. الذي قدّمَ من الجهدِ، والتضحيات، ما لا تستطيعُ صفحاتُ التاريخِ أن تسجّلَ أشرَفَ منهُ، وأنبلَ، وأكرم.. شهداء.. جرحى.. مُختطَفين.. مفقودين.. جنوداً، وضبّاطاً، وصَفّ ضباطٍ، ومجَنّدين.. الكثير منهم مازالوا غائبين عن بيوتهم وعائلاتهم منذ أشهر، أو سنوات.. لم يأخذوا أيّةَ إجازة.. ليبقوا على رأسِ أعمالهم، في خِدمَةِ الوطنِ الغالي، الذي هو بأمَسّ الحاجة إليهم.. ولكلّ المخلصين من أبنائه.. في هذهِ الحربِ الضروس، القذرة، الظالمة.. وما لا يمكن وصفه لها من إجرامٍ، ونتانة.. والتي تزدادُ ضراوتُها، وشراستُها وعُنفُها.. يوماً، بعدَ يوم.. وشهراً، بعد شهر.. وعاماً، بعدَ عام.. منذ أكثر من سنتين.. ذقنا فيها الأمَرّين.. على أملِ الفرَجِ القريب..

الجزء الثاني

12313668_920207128067256_2597888237955078668_n-204x30011

( بالأمس.. خرَجَ سيّدُ المقاومة “حسن نصر الله ” على تلفزيون “المنار ” في احتفالية الخامسة والعشرين لانطلاق “إذاعة النور “..ليقول، أنّ الدول الصديقة لسوريا.. لن تبقى مكتوفة الأيدي، تتفرّج على مايُهَدّد سوريا بوجودها.. شعباً، وجيشاً، وقيادةً……. وهذا تهديدٌ يفهمُهُ العدوّ، والصديق.. وإنذارٌ لمن يساهمُ في تخريبِ وطننا الغالي.. في محاولةٍ لتقسيمه على أسسٍ عِرقيّة، أو طائفية،أو مذهبية، أو مناطقية.. ليستْ جديدة على المستعمِرين الطغاة البُغاة.. وفي محاولة لتدمير هذا البلد الصامد في وجه الرياح العاتية.. رياح السّموم.. التي تعصف به من كل جهات الأرض.. في هجمة لا أشرسَ.. ولا أظلَم.. على هذا البلد الحبيب الناهض نحو التطور والتقدم.. والتحرر من الإستعمار والتبعية للغرب المستعمر.. أو لأية قوةٍ ظالمة.. ساهَمَ في محاولة تدميره، ويساهم، العَديدُ ممّن كنا نعتبرهم (مواطنين) ـ و (أصدقاء) أو (مغلوبين على أمرهم.. مطرودين من بلادهم.. أو مُجبَرينَ على الخروجِ، هَرَباً من القتلِ، والظلمِ..).. واحتوَتهم بلدي “سوريا ” الغالية.. أكرَمَتهم.. آمَنَتهم من خوف.. أطعَمَتهم، وسَقَتهم.. عَلّمَتهم في مدارسها، وجامعاتها.. طَبّبَتهم في مشافيها ومؤسّساتها الطبية.. فَضّلتهم، في كثيرٍ من الأحيان، على أبنائها.. كي لا يشعروا بالغُربة.. أو، بالمِنّة……. لكن……….!!
للأسف.. لكن… العَديدُ منهم خانوها.. خَدَعوها.. انقلَبوا ضِدّها.. وانجَرّوا وراءَ أطماعهمُ الذاتية.. انضمّوا إلى ماتدعوهمُ الدولة (مُسَلّحين ).. وأنا أدعوهم (مُجرمين ).. قَتَلة.. مُخَرّبين.. مُفسِدينَ في الأرض.. طُغاة.. قُساة.. ظالمين.. ليستْ لديهم أية مَشاعر إنسانية، ولا حيوانية.. فالحيوانُ، إن رأى، أو شَمّ رائحةَ دَمِ حيوانٍ آخرَ من بني جِنسه.. يهتاجُ.. يَعجّ.. ويُبَحّتُ بحافرهِ، مُستنكِراً إراقَةَ دَمِ أبناءِ جِنسِه.. أما أولئكَ القتَلة الطغاة.. فيذبَحونَ أبناءَ جنسهم، بمنتهى برودة الأعصاب.. بل، يُهَلّلونَ، ويُكبّرونَ عند الذبح، وبَعدَ القتل، والقضاء على الضحيّة البريئة من كلّ ذنب، إلاّ.. إلاّ ذنب إخلاصها للوطن، وانتمائها للشعب، وإخوتهم في الوطن، والإنسانية.
سأستريحُ قليلاً، يا أمي..
أختي وزوجها .. مازالا في بيت أخي .. والباقونَ من إخوتي في منازلهم، على ما أظنّ.. زوجي، الذي أوصَيْتِني أن أحترمَهُ كُرْمى لكِ، (هل تشكّين يا أمي..؟! _ لا والله لا أشكّ.. ).. (صَديق سَهراتنا، أنا وأنتِ.. وصَديق “الكلماتِ المُتقاطعة” التي كُنتِ تحبّينها جداً.. ) في البيت فوق في “الضَّهْر”.. كَلّمْتُهُ قبلَ قليلٍ لأخبرَهُ أنني هنا.. وأنّني أصلحْتُ جهازَيّ التحكّم بالتلفاز..
إلى اللقاء.. يا أمي…
الساعةُ الآن الرابعة إلاّ ربع عصراً.
****************************************
اليوم هو الجمعة، العاشر من أيار 2013م..
الساعةُ الآن الثامنة إلاّ عشرِ دقائقَ صَباحاً..
نهَضْتُ من فراشي في منزلنا في “الضَّهْر” في حَوالي السابعة إلاّ ثلثاً.. حاولْتُ أنْ أعودَ إلى النوم، بعدَ خُروجي إلى الحَمّام، دونَ جَدوى.. أعاني من اضطراباتٍ هَضميّةٍ، ومن بعضِ الشعور بالوهن، منذُ الأمس..
كنتُ قد فَكَكْتُ مدفأةَ الحَطَبِ مِنَ الصالون، ووضعتُها في الخارج، على البَرَنْدَة “الشّرْفَةِ” مِنَ الشّرْق.. ووضعتُ البَواري قربَ مَدْخَلِ السِّفْل، عندَ الحَنَفيّة “الصّنبور” الخارجيّة.. وطَوَيْتُ السّجّادةَ الكبيرةَ، التي فرَشْتُها أوّلَ الشتاءِ الذي رَحَلَ للتوّ.. وأخرى تشبهها تماماً، شكلاً، ومَقاساً، كنتُ قد فرَشتُها في الغرفةِ الوُسْطى.. “غرفة بيت عمي” (أمّ علي.. بَدْرَة صالح ) و (الشيخ محمّد علي اسميعيل.. أبو علي “)..
وكان زوجي قد أحضَرَ واحدةً منذُ عِدّةِ سَنواتٍ، من “مِصْياف “.. وعندما رآها أعجَبَتني، أحْضَرَ واحدةً أخرى مُشابهة.. وكلّ واحدةٍ ب ” ثلاثةِ آلافِ ليرةٍ سورية “.. ممّا أسعَدَني حينها.. ترى..!! ما ثمَنُ أيّ منهما الآن..؟! وقد تجاوَزَ سِعْرُ (الدولار الأمريكي) المئة ليرة سورية..!!
على كلٍّ، هما سَجّادتان رَقيقتان بعضَ الشيء، تشبهانِ البساطَ السّميك.. لكنهما جَميلتان.
طَوَيْتُ سَجّادَةَ الصالون.. وأخرَجتُها – جَرّاً – إلى البَرَنْدَة.. إلى جانبِ الأخرى التي كنتُ قد أخرَجتُها، أو بالأحرى، كان الغالي إبن أخي الغالي، الذي يدرسُ(معهد كهرباء) في طرطوس.. قد أخرَجَها لي إلى الشُرْفَة، بَعدَ أن أنزلنا مِدفأةَ المازوتِ التي فوقها في (أوْضَةِ النصّانية) التي طلبتُ من زوجي أن يُعَدّلَ فيها قليلاً – بعد أن عُدْتُ إلى منزلنا، بَعْدَ وَفاتِكِ يا أمي الغالية- بأن يُغلِقَ بابَها الرّديءَ، المُقابلَ للبابِ الخارجيّ، في مُحاذاةِ النافذةِ الخشبيّةِ القديمة..
قلتُ لهُ : – كَي تبقى لي خصوصيّةٌ، إذا وَضَعْتُ الفَرْشةَ الصحّيّةَ السّميكةَ التي أحضَرَها لي إخوَتي وأخَواتي الغَوالي، عندما كنتُ أنامُ عندَكِ يا أمي لمدّةٍ تجاوَزَتِ العامَ، بالتأكيد.. كنتُ، خِلالَها، أكتفي بالطلوعِ إلى منزلنا في (الضَّهْر) بينَ فترةٍ، وأخرى.. أنظّفُ ما أقدرُ عليهِ.. أجْلي الصّحونَ.. وأنظّفُ المَجلى.. والغاز.. والمغسَلتين.. والحَمّام.. والتواليت.. وأبدّلُ البشكير الذي ينشّف به زوجي يديهِ، ووَجهَه.. وقد يفعلُ ذلكَ بعْضُ زوّارِه.. وأحياناً، أبدّلُ أغطيةَ فِراشِهِ.. والملحَفة.. أو أضَعُ وَجْبَةَ غَسيلٍ في الغسّالة الآليّة.. أو أنشرها.. وأجمع الزبالة من الحمام والمطبخ، في كيس واحد، وأنقلها خارج البيت إلى جانب الطريق العام ليأخذها موظفو البلدية بشاحنة الجرّار المخصص لنقل الزبالة من عدة قرى، ثلاثة أيام في الأسبوع، وإفراغها في مكبّ النفايات في سفح الجبل المقابل لقريتنا الغالية، تحت المشفى المنشأ حديثاً.. تمهيداً لحَرقها بين فترةٍ وأخرى ( أظنّ أنهم نقلوا المكبّ بعد اشتغال المشفى ).. وبعضَ الأعمالِ الأخرى البسيطة.. وأحياناً، أصطحبُ معي امرأةً تعملُ في البيوت، لتساعِدَني في تعزيلِ، وتنظيفِ المنزل، تنظيفاً شاملاً، يشرَحُ الصّدْرَ.. ويُسَهّلُ العيشَ.. وأعطيها حوالي ألف ليرة سورية.. وبعضَ الحاجاتِ الزائدة عني.. ثياباً لها ولحَماتها التي تعتني لها بطفليها، عندما تغيبُ.. ولبيتها الذي هو في طورِ الإنشاء والتأسيس.. وبعضَ أدواتِ المطبخِ الزائدةِ عن بيتي.. التي كنتُ قد اشتريتُها ل (المَحَلّ).. واستعملتُها فيه، لعِدّةِ سنوات.. قبلَ أن أغلقَهُ بطلبٍ من أخي الغالي، الذي أرادَ أن يهدمَ البناء القديمَ المُتصَدّعِ كلّه.. ويبني مكانهُ، على أسُسٍ ثابته، بناءً آخرَ.. أجملَ.. وأمتنَ.. ويعطيني مقابلَ تركي للمحلّ الذي كانَ عبئاً مادياً عليّ إلى درجة كبيرة. مَبلغاً من المال.. طول ما أنا حَيّة.. فقبلتُ.. وأعْلَمْتُ زوجي بذلك.. فبارَكَ الموضوع…
كنتَ – يا أبي الغالي – قد تخلّيتَ لي عن مُتنفّسِكَ الوحيد خارج بيتكم.. بيتِ أهلي.. بيتنا.. والذي كان عبارةً عن (محلّ) تجاريّ بسيط.. يديرُهُ (عمّي) أخوكَ الذي لم تلدهُ جَدّتي (خديجة) (أم صالح).. (ابراهيم عباس).. ويبيعُ فيهِ بعضَ الحبوبِ.. والتبغ.. وأشياءَ أخرى لم أعدْ أذكُر ماهي.. وتنزلُ أنتَ إلى عندهِ.. كلّ يوم.. في الصباح.. تشربانِ مع بعضِ المعارفِ والأصدقاء أو الضيوف.. القهوةَ المُرّة… تتسلّيانِ.. قبلَ أن تعودَ إلى البيت بسيّارة (بيك آب) .. بالإجرة… وبالتأكيد لم تكن تدفعُ للسائقِ، الإجرة، فقط… ومازالوا يذكرونَ ذلكَ.. ويترحّمون على روحكَ الطاهرة..
وقبل وفاتك، بأكثر من عام، كنت لا تنزل إلا كل عدة أيام مرة.. فإن رأيت صحتك تحتمل.. تأخذ معك جهاز الهاتف اللاسلكي.. وتخبر أمي، التي تتصل، بدورها، بإخوتي، لتخبرهم أنك نزلت بهذه الطريقة.. فإن ساعدتك صحتك بالوصول، تتصل فور وصولك بأمي، لتطمئنها أنك وصلت.. وكنت تسألها قبل نزولك : أنا نازل.. بدّك شي..؟!
وإن تعبت، ولم تعد تستطيع السير، تجلس، وتتصل بأحد إخوتي، أو أحد السائقين المعروفين، ليأتي من السوق، إلى حيث تجلس.. ويأخذوكَ بالسيارة، إلى (الشيخ بدر)..
أثناءَ غيابكَ هذا الذي كان يمتدّ من حوالي السابعة صباحاً، حتى الثانية عشرة ظهراً.. كانت أمي تعِدّ لكَ الطعام البسيط الذي تحبه.. وتقوم بأعمال البيت، من تنظيف وغيره.. وعند حضورك، كانت تناولكَ إبريق القهوة المُرّة الساخنة، التي كانت تبدأ بتحضيرها منذ استيقاظها.. وتناولكَ الفناجين.. تضعهم أنتَ على الكمودينة الصغيرة قرب جهاز التلفزيون الملوّن.. وتبدأ بتقديمها للضيوفِ الذين يتوافدون إليكَ من كلّ حَدْبٍ، وصَوب.. لكن.. بعد أن تكون قد تناولتَ غداءكَ.. وأخذتَ أدويتك.. وقرأتَ القرآن الكريم.. وصَلّيتَ صلاةَ الظهرِ.. قبل أن تنامَ قليلاً.. قبل حضور الضيوف..وإن حَضروا وأنتَ تقرأ القرآن، أو تصلي.. أو أثناء نومك.. كانت أمي تنبّههم بمنتهى اللطف، أنك (مشغول) أو (نائم).. تتباحَثونَ في أموركم الخاصة.. والأمور العامة.. وأمور الوطن الأغلى… ومشكلات العالم كلّه.. التي تصلكم أخبارها عن طريق التلفزيون والراديو..
منذ سنوات.. وبعد أن ازدادت عليكَ الآلام النفسية والجسدية المُضنية.. لم تعُد قادراً على القيامِ بالأعمالِ المُجهِدة التي كنتَ تؤدّيها أثناء شبابكَ، يا أبي.. واقتصَرَتْ أعمالُكَ على ما تسمح لكَ به صحّتكَ، من أعمال.. كتقطيع الحطب في الشتاء.. أو تقليم الشجر.. أو زراعة بعض الأشجار، أو، الورود.. مثل النبفسج.. والمَضْعَف.. الذي طلبتْ أمي من إخوتي وأصدقائهم أن يزرعوها حول قبركَ الحبيب، لأنكَ كنتَ تحبها جداً.. وتفضّلُ رائحتها.. ففعلوا.. وكثيراً ما كانت تتساءلُ، إن كانوا قد زرعوها.. أو نسوا.. فنطمئنها أنهم لم ينسوا.. وأن البنفسجَ.. والمَضْعَفَ ينمو حولَ قبركَ، ويكادُ يُزهِر.. فينشرحُ صَدرُها.. وتحمد الله.. وتشكرهم.. وتبكيكَ ياغالي.. بحرقةِ عاشقةٍ وَلهى.. وتتذكّرُ آخر يومٍ رأتكَ فيه.. تقول: اتصَلَ بي من صافيتا، ليُطمئنني أنهُ أجرى العملية التنظيرية وخرَجَ منها بسلامة.. وقال لي : شَعّلي النار.. من شان نشوي للميليدة.. ففعَلت.. لكنه لم يذُقها…. يا عيني هوّي يا عيني.. بعد وصوله بساعات.. ساءتْ حالتُهُ الصحّية.. وصارَ يتقيّأ دماً.. فاتصلتُ مع الدكتور (محمد ).. وأخبرتُ إخوتك.. فحضروا جميعاً… سبقهم الدكتور.. وعندما رأى حالتَهُ، قالَ لهم – بأسى – : والله الحالة بدها مشفى بسرعة..
هنا – يا أبي – كنتُ قد وصلتُ إلى بيتكم، في الصباح.. بعد أن كانت أمي الغالية قد طمأنتني بالأمس أنكَ أجريتَ العملية التنظيرية.. وأنّ أحوالكَ جيدة.. بل، ممتازة.. كانت سعيدة جداً.. وأسعَدَتني جداً.. فبكّرتُ بالنزولِ إلى (المَحَل ) لأمرّ عليكما.. وأهنّئكما بالسلامة.. وأشرب المتة مع الغالية أمي.. لكنني فوجئتُ بالوجوهِ المُكفهرّة.. كان الدكتور (محمد) في الصالون مع إخوتي يتكلّمون بألغاز لم أفهمها.. مما زادَ من قلقي واضطرابي.. ماذا جرى يا أمي..؟! ماذا تقولون يا إخوتي..؟! يا دكتور..؟! أخبرتِني يا أمي أنّ أبي قد ساءت حالتُه طوال الليل.. وأنكِ اتصلتِ بإخوتي وبالدكتور.. فبقوا عندكما حتى الصباح.. وأبي يتقيّأ دماً، ويتألّمُ بشدّة.. انطفأتُ، يا أمي الغالية.. جلستُ على التخت في غرفتنا الوسطانية.. وضعتُ كفي على جبهتي.. وأخذتُ أبكي بصمتٍ، وبحُرقة.. شاهَدْتُ أبي يخرجُ من باب البيت الداخليّ لآخرِ مرّة… وإخوتي يساعدوهُ بالخروج.. لم أنطق حتى بكلمة واحدة… دخلتُ الغرفة، وأنا شبه متأكّدة أنني لن أراهُ ثانيةً…. بقيتُ مدةً لا أستطيع تقديرها.. أبكي بصمتٍ حارق.. والكلّ يحتجّ على بكائي.. يحاولون طمأنتي… لكنني لم أقتنع.. ولم أستطع التوقف عن النحيب.. حتى لو أغضبتهم جميعاً..
كانت معاناتُكَ يا أبي، خلال حياتكَ الغالية.. منذ أن وَعَيتُ أنا على الدنيا.. وحتى تلك اللحظة.. تمرّ أمامَ عينيّ.. في شريطٍ طويلٍ.. تستعيدُهُ ذاكرتي مرّاتٍ، ومرّات.. وكلّما وصلتُ إلى محطّة مهمّة.. أوقِفَ الزمنَ عندها.. ويزدادُ نحيبي.. وتتأجّجُ مشاعرُ الحزنِ، والقهرِ في روحي وقلبي وكياني.. فأشهقُ.. وأشهقُ.. ولا يوقفني تأنيبُ مَن حولي.. أن لا داعي لكلّ هذا.. قد يكونُ الأمرُ بسيطاً.. لكنّ الطبيبَ فضّلَ أن يرسله إلى المشفى العسكري في طرطوس، للإطمئنان…. كأنني لم أكن أسمعُ مايقولون.. لأنني لستُ مطمئنة… وقلبي مقهورٌ.. مقهور…)

12313668_920207128067256_2597888237955078668_n-204x30011

( استوقفتني الكثيرُ من المواقف… المحفورةِ في ذاكرتي ووجداني.. كيومِ أتيتَني عندما كنتُ في الصف السادس الإبتدائي.. عام 1966م.. قُبيلَ موعِدِ تقديمِ الطلباتِ لامتحانِ الشهادةِ الإبتدائية.. بصوتِكَ الخفيضِ، المُترَدّد، شبه الخَجِل.. ووجهكَ المضيء الراسخ.. لتسأني – وأنا لوحدي – أقرأ في أحد كتبي المدرسية، بعد أن نامَ أخي الغالي الصغير الرضيع ..
-بدي استشيرك بشغلة..
الأستاذ (المُدير) ميقلّي.. ميقلّي.. إنه يعني لأنك، لأنك متسهري لخيّك بالليل.. ولأنه مو ميصيرلك وقت تتقري كتير.. يعني.. قال… يمكن.. بيتوقّع أنو يمكن ما رح فيكِ تنجحي بالشهادة.. بقا، إذا شايفة حالكِ يا بَيّي إنك يمكن مارح تنجحي.. قلّيلي.. ولا يهمك.. كنت ما ببعتك لطرطوس لتقديم الشهادة.. وما بنصرُف مَصاري.. كنت فوراً بسجّلك مع خَيّك بالمدرسة الخاصة………….!!!!!!
قاطعتُكَ بالبكاءِ الساخطِ المُحتجّ على ماقالهُ الأستاذ – المُدير..
-لا والله مو صحيح يا بَيّي..!! لا والله مو صحيح.. هوّي بيكرهني… وأنا شاطرة.. لا تصدّقه يابَيّي.. بدّي إنجح…
قاطعتني بدفء صوتكَ المُطمْئِن الحبيب:
-خلص.. خلص.. لا بقى تبكي.. أنا ماني مصدّقه.. ماني مصدّقه.. وبعرف إنك شاطرة.. خلص.. يعني بتقدّمي وبتنجحي..؟!
-إي والله يا بَيّي.. بدي قدم.. وبدي إنجح..
تنهّدْتَ بعمق… وقلتَ لي – بثقة بالغة – :
-خلص.. أنا متأكّد من حكيك.. أنا واثق فيكِ.. استعنّا بالله… لا يهمّك…
اجتمعنا في غرفة كان قد استأجرَها عَدَدٌ من طلاّب القرية الذين كانوا يكملون تعليمهم في طرطوس، وقد أخلوها لنا بعد انتهاء عامهم الدراسيّ.. نمنا فيها لمدة يومين.. كنا نقرأ ونحضّر للإمتحان، بجدّية بالغة.. وكان تقديمي أنا في (ثانوية البنات ) التي تعرّفتُ في باحتها على طالبة لطيفة ناعمة.. سألتُها من أين هيَ..؟! ( أنا حشرية كالعادة.. أحبّ التعارف… وما زلتُ يا أبي الغالي ) أجابتْ : من ( الخريبات )… أحببتُها واستلطفتها… ولم أعرف أين تقع (الخريبات ) سوى بعد أن كبرتُ وتزوّجت..
ونجحتُ، يا أبي.. كما كنتُ أؤكّد.. وكما كنتَ تتوقّع..
أثلجْتُ صدركَ يا غالي.. و (فقشت بعين الأستاذ– المُدير – حصرمة)..!! ونجح زميلايَ، وزميلتي.. ودخلنا الصف الأول الإعدادي، الذي كان شعبة واحدة تُنشأ لأوّل مرة في (الشيخ بدر ) كأساس لمدرسة إعدادية رسمية.. درَسنا فيها على حساب (الدولة )…
……………………………. ويوم جئتُكَ أحملُ جلائيَ المدرسي في آخر الفصل الأول من العام الدراسي وأنا في الصف الخامس.. كانت المعلّمة الجديدة.. من (السودا) قد أرسِلتْ لتعلّمنا في غرفة إسمنتية في (بيت عزيز محمد ديب ) في الأندروسة.. لأنّ المدرسة الإبتدائية الوحيدة في (الشيخ بدر) لم تعُدْ تتسع.. أو، لأنهم كانوا لم يكملوا بناءها بعدُ.. المهمّ أنه تبدّل علينا في الصف الخامس عدة شباب لم يكملوا تعليمهم بعدُ.. ليعلّمونا.. وكانت المعلّمة مُجبَرة على تجهيز (الجلاءات) في الموعد المحَدّد.. فأسْرَعتْ لتضعَ العلامات بشكلٍ عشوائي – على ما أظن – لأنها لم تكنْ قد تعرّفتْ علينا بشكلٍ جيد.. ولم تعلّمنا سوى أيام أو أسابيع قليلة.. لم أكن أدركُ هذا إلاّ بعد أن كبرتُ.. وبقيتُ أكرهها لأنها ظلمتني.. ووضعتْ لي شائبتين على جلائي.. (وسط) في مادة (الرياضيات) وأخرى في مادة (اللغة العربية).. لم أعتدْ حتى ذلك الحين، أن آخذ (وسط) في أية مادّة.. فصُدِمْتُ….. لم أكنْ أخافُ من عقابكَ على ذلكَ يا أبي الغالي.. لأنني ما اعتدْتُ سوى على تشجيعِكَ، ومُبارَكتكَ لتفوّقي في المدرسة، وفخركَ بي.. لكنني كنتُ خجِلة جداً.. وأشعرُ بالظلمِ، والعار.. وأنني سأسبّبُ لكَ الإحباط.. لأنني أخذتُ (وسط) في تلك المادّتين، على غير عادتي.. فبقيتُ أبكي بسُخطٍ، وخجل.. وبصوتٍ مرتفع.. وأنا صاعدة على الطريق الذي كان ما يزالُ ترابياً.. من المدرسة (الغرفة) إلى بيتنا في وسط (المريقب ).. مع باقي الطلاب والطالبات.. وأخي الأغلى (اسماعيل ) الذي كان يكبرني بعامٍ، وثلاثة أشهر.. وبصفٍّ واحد.. يحضنني.. ويكادُ يبكي على بُكائي.. ويطمئنني أنّ أبي سوف لن يعاقبَكِ.. فلا تخافي.. ولا تبكِ يا(فاطمة)………..
عندما وصلنا إلى عند دكّان خالي (الشيخ ابراهيم ) في أول القرية.. وصلتْ حَماسةُ الغالي أخي، وحِرصُهُ عليّ.. أن تناوَلَ مني (جلائي ) كأنهُ يحملُ عني عِبءاً ثقيلاً.. يريدُ أن يريحني منه.. كعادته..
رحمك الله يا أغلى الغوالي.. يا أخي وصديقي.. وروح قلبي ونور عينيّ وسندي ودفء حياتي.. الذي سلبَهُ مني الموتُ.. قبلَ أن يكمِلَ الرابعة والثلاثينَ من عمرهِ الغضّ..
ناوَلكَ أخي الجلاءَ، وهو يكادُ يبكي.. ويكادُ يخفيني خلفَ ظهرهِ.. كنتَ تبتسمُ في وجهنا يا أبي.. وأنتَ تتناوَلُ الجلاء، وتضعهُ خلفَ ظهركَ، دون أن تنظرَ إليهِ، أو تقرأ ما فيه.. كانت ابتسامتُك الدافئة، المطمئنة، تزيد من خجلي وبكائي وإحساسي بالعار.. توَجّهتَ بكلامِكَ نحوي.. عابراً أخي الغالي بنظراتك الحانية.. تبتسم، وتقول لي:
( – إي ماني مْصَدّق.. ماني مْصَدّقهم… لا بقا تبكي… خلص..)
مما جعَل أخي يسترخي.. ويعود الإطمئنانُ إلى روحه الغالية… لكنني لم أنقطع عن البكاء، والخجلِ من النظر في وجهك الغالي مباشرةً…
…………….. تذكّرتُ يومَ أخبرتني أمي الغالية، أنكَ كنتَ في أحد الأيام تنتقدُ بعضَ التقصير من أبنائكَ وبناتكَ واحداً واحداً.. وواحدةً واحدة… كنتَ تريدنا نماذجَ لاتخطئ، ولا تتوانى.. مكتملين.. كما كنتَ تحلم يوم تزوّجتَ أمي.. (أتمنى من الله أن يرزقني سبعة شباب).. لكنها أخبرتني – أيضاً – أنكَ كنتَ تحضرُ مَجمَعَينِ من الشوكولا، حين تُرزقانِ بابنة أنثى.. ومَجْمَعاً واحداً، حين تُرزقانِ بصبيّ ذكَر… كانوا جميعاً غائبين.. وأنتَ وأمي لوحدكما.. حتى وصلتَ بانتقادكَ لاسمي.. فتوقّفتَ، وقلت : ( وفاطمة…………. بس والله فاطمة ما بيطلعلنا معها….!!! كم كنتُ سعيدة يا أبي الغالي عندما أخبرتني أمي أنكَ قلتَ ذلك..!! أما زلتَ تثقُ بي يا أبي الأغلى..؟!! الحمد لله ثم الحمد لله.. كنتُ أعودُ وأحلّفُ أمي أن تقول الحقيقة وألاّ تجاملني.. هل قلتَ (والله فاطمة ما بيطلعلنا معها )..؟!! فتُقسِمُ الغالية أمي أن ذلك حَصَل…. فأبكي من فرحي.. وأحمد الله كثيراً أنكَ تقدّرُ ظروفي..
تذكّرتُ، أيضاً، يوم (فَسّدَ) علينا أحَدُ جيراننا، الذي كان أخي (اسماعيل) يُقسِمُ أنّ له عينينِ إضافيّتينِ في رأسهِ منَ الخلف.. لكثرة ماكان يرى الأذى، ويخبر به…. بأنهُ رأى (غزال، وكحال ) يرعيان في (الأذى ) في حقل جيراننا، عندما شَرَدا، ونحن نرعاهما مع بقيّة الدوابّ في (البستان) تحت بيت جدّي (الشيخ سليم) في الضهر… غافَلَنا الثورانِ الضخمانِ، ونحن نلعب.. وراحا يأكلانِ بنَهَمٍ شديد من زَرعِ بيت جيراننا الغضّ الأخضر…. قبل أن ننتبه، ونردّهما إلى حقلنا… وعند عودتنا من (الرّعيّة) أمسكتَني من يدي اليسرى وأخذتَ تضربني بكفّكَ القويّة على ظهري.. وتأمرني ألاّ أعيدها… كنتُ خجلة جداً، أكثر مما كنتُ أتألّم، لأنّ جارَنا كان حاضراً…. وكنتُ أقتربُ من مرحلةِ الصّبا…
………….. ويوم قفزتَ من أمام (المقصَف) حيثُ كنتَ تجلسُ فوق دَرجهِ، بعد أن بناهُ صاحبُهُ على أرضنا التي بِعتَهُ إياها أثناءَ إحدى الضائقاتِ المالية الكبرى.. ( بستان الزيتون ).. لم أكنّ أدركُ، وأنا أقفُ في منتصفِ الشارع الرئيسيّ، بقدرةِ قادر.. حائرة، ماذا أفعل..؟! وكيفَ أتصرّفُ في أحرَجِ موقفٍ مَرّ بي إلى حينها.. كان زوجي قد سافرَ بعد أن أنهى إجازته القصيرة.. وعادَ إلى قطعته في الجيش.. وَدّعتُهُ في (بيت عمتي فاطمة ) الذي كانت تسكنهُ عمتي الغالية (ندّة) وعائلتُها، قبل أن يغادروهُ تاركينَ أغراضهم فيه، ويسافروا إلى (الرّقّة) حيثُ عُيّنَ زوجها (أبو نزار ) معلّماً فيها.. وتركت الغالية عمتي (ندّة) مفتاحهُ معي.. لأنتبهَ لها على أغراضها.. وأشَمّسَ الفُرشَ.. كي لا تتعَفّن… ودّعنا بعضنا، وسافرَ زوجي في (سيّارة بديع) اللاندروفر.. الوحيدة في (الشيخ بدر) التي تُقِلّ الركّابَ إلى (طرطوس).. ومن ثَمّ تُقِلّهم سيارة أخرى ( قد تكون باص علي محمود، وسليم حبيب ) إلى (حمص) ومنها يركبان سيارةً أخرى إلى دمشق.. وبعدها إلى حدودنا مع العدوّ الصهيونيّ، حيث كان زوجي يخدم.. في (رَخَم).. نزلتُ بَعدَهُ.. بعد أن تبادَلنا القُبَلَ الحارّة.. وكانت دورتي الشهرية في بدايتها.. فتناولتُ قطعةَ قماشٍ قديمة من بيت عمتي.. طويتُها جيداً، وجعلتُها (حِفاضاً) بدون أن أثبّتها ب (شنكل ).. ولم أصلْ إلى الشارع حتى كادت تقع…. فتجَمّدْتُ في مكاني.. حائرة.. مُحرَجة… لا أعرفُ كيفَ أتصرّف… لم أكنْ أعرفُ أنكَ كنتَ هناك.. ولا أنّكَ كنتَ تراقبني يا أبي الغالي… لم أرَ إلاّ شَبَحاً لشخصٍ يقفزُ من فوق دَرَجِ المقصف.. ليلتقطني من ساعديّ بقوّةٍ وحنان… (- تعي تعي معي.. لا تخافي.. شو بيجعكْ يا بَيّي..؟! ).. (دايخة.. دايخة شويّ.. جايتني الدّوْرَة.. ).. ( تعي.. على مَهلِكْ.. اقعدي معي بالمقصف.. ارتاحي شوي.. لا يهمك.. لا تخافي..!! ).. لم أكدْ أجلس على الكرسيّ أمام إحدى الطاولات في مكانٍ مُريحٍ اختَرتَهُ أنتَ يا أبي، حتى طلبتَ لي زجاجة (كازوز ) من النادِل.. أرخَيتَ زندي.. عندما اطمأننتَ أنني جلستُ جيداً.. لكنني طلبتُ أن أدخلَ (الحَمّام ) رافقتَني إلى بابه.. وانتظرتني في الخارج.. سَوّيتُ الخرقةَ جيداً.. جَعَلتُ طرفيها يخرجانِ قليلاً، فوق بطني وظهري.. ليمسكهما جيداً (المطّيط).. وخرجتُ.. واحتسيتُ (الكازوزة ) وأنتَ بجانبي.. تداريني كي لا أشعرَ بالمزيدِ من الخجلِ، أو الخوف……………..!!
تذكّرْتُ، أيضاً، حادثةً مازالوا يروونها كلّما ذُكِرَتْ تلكَ الأيام.. يوم مَرَرْتَ، وأنتَ ترعى الماعزَ، والخراف..من أمام بيت (رئيس المخفر)في (الأندروسة)فقالتْ لكَ (مَرت رئيس المخفر):(ولاك…!! جيب هالعنزة بدي احلب منها شويّة حليب…………..!! فأجَبَتَها: (- أنتِ، وليكْ…!! ما رَح جيبها..!!)
فاستشاطتْ غضَباً.. وأمرتْ الشرطة أن يحبسوكَ في المخفر.. وبسرعةٍ بالغة، وصلَ الخبَرُ إلى أبيك (المجاهد البطل، العقيد، في ثورة المجاهد الشيخ صالح العلي ) فنزلَ مُسْرِعاً، ليحلّ المشكلة.. فزجّوهُ، أيضاً، في السجن.. لأنه كان يدافعُ عنكَ.. ياغالي… فوصَلَ الخبَرُ إلى أهل القرية.. الذين كانوا يدرسون زرعَهُم على البيادر.. فأسرعَ كلّ منهم حاملاً ما تيسّرَ له من سلاح… قظمة.. رفش.. منكوش.. مهدّة.. غربال.. فأس.. مدري.. حجر.. عَصا.. خشبة.. إلخ… وأحاطوا بالمخفر من كلّ الجهات.. مُهَدّدين رئيس المخفر والشرطة، أن يفرجوا عنكما.. وإلاّ سيحرقون المخفر بمن فيه، ومافيه… فطلَبَ رئيس المخفر النجدَةَ من طرطوس.. فجاءَتهُ.. وحاصَرَتِ الآليّاتُ العسكريّةُ المخفَرَ من كلّ الجِهات، مُهَدّدَةً، مُتَوَعِّدَة…… فأرسَلَ جدّي رجُلاً يخبرُ (الشيخ صالح) الذي كان في قريةٍ بعيدة.. فجاءهُ الردّ القاهر، وغيرِ المُقنِع.. ( خلّوه.. بلكي بتلين نفسه شويّ ).. وبعد الحادثة بمدّة، تأكّدَ أنّ الخبرَ لم يصل إلى (الشيخ صالح).. وإنما فُبرِكَ رَدُّه…..!!!!!!! كانت عمتي (ندّة) تخبرني أنكَ كنتَ الإبنَ المفضّل، والمُدَلّل، عند أبيك.. وأنكَ كنتَ أمله، وفخرَه.. وبعد وفاتكَ، يا أبي الغالي، أخبرني أحدُ إخوتي، أنكَ بقيتَ تنفقُ عن روحِ أبويك.. إلى حين وفاتك.. وأنكَ أرسلتَ معهُ، قبلَ وفاتكَ بقليل، كمية من النقود ليعطيها ل (عمّي) صَديقكَ، في (كوكِب) لأنكَ ظنَنتَ أنكَ لم تفِهم حَقّهم، هم الذين كانوا يهتمّون بأبيكَ أثناءَ مرضِهِ بالشلل النصفيّ.. حيث كان يمشي أحياناً.. ولا يستطيعُ أقوى الرجال أن يردّوه.. وأحياناً يصلُ إلى (كوكِب) حيثُ كانت له ذكرياتٌ لا تُنسى مع رجالها المجاهدين، أثناءَ (الثورة ) ضدّ الغزاة الفرنسيين.. كنتَ في الأرجنتين… في تلكَ الغُربةِ البعيدة، أثناء مرضِ أبيك… وكان الغالي أخي، ابنكَ البِكْر، بعُمرِ أشهر.. حين أتاكَ الخبرُ القاهر.. كانت (عمتي فاطمة ) التي تكبرُكَ بعامين، أو أكثر.. والتي أدخَلَها جدّي المدرسة مع الصبيان، آنذاك.. لكنها لم تلبث فيها سوى سنواتٍ قليلة.. حيث خَرَجَت من تلقاء نفسها… كانت شخصيّتها قويّة.. وماتزال.. كما رَبّاها أبوها.. واحتجّتْ أنها لا تريدُ البقاءَ لوحدها تدرسُ مع الذكور… مما أزعَجَ جدّي.. لكنهُ رضخَ لرأيها… وهي التي عانتْ معهُ أثناءَ مرضه، أكثر مما عانى الجميع… إلى دَرَجة أنّ البعض ظنّ أنها سوف لن تنجب.. أو أنها ستبقى مُرهَقة الجسد إلى درجة الإعياء طول حياتها.. لكثرة ما تعبتْ في بيت أهلها.. ومع أبيها المريض، الذي منحَها الثقة التامّة… خصوصاً أنكَ الأملُ الغائبُ البعيدُ، يا أبي الغالي…
تذكَرْتُ ماحَدّثتني بهِ حبيبتُك.. أمي الغالية… أنهُ ، ذات يوم.. بعد الغروبِ بقليل.. كنا أنا وأخي (اسماعيل) نلاقي لكَ، وأنتَ عائدٌ من (الفلاحة) تحملُ (النّيرَ) على كتفِك الصّلب.. وتسوقُ أمامَكَ الثورَين الضّخمَين، المُجهَدَين.. كنا نُمسِكُ بيدِ بَعضِنا، ونسيرُ غرباً نحوَ (بَيدَر الخاليّة) ويبدو أننا نحنُ الصغيرَين، خفنا منَ الظلام.. وعندما بدَوْتَ لنا، قابَلناكَ بابتسامةِ فرَحٍ، وفَرَجٍ، قائِلَين: (والله يا بَيّي، فكّرناكْ جَكَل “جَقَل” ..!!) فضَحكتَ لنا، ياغالي.. وحَمَلتَنا كلّاً على زَند، حتى أوصَلتَنا إلى أمامِ البيت… وحَدّثتَ أمي بما جرى….)

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق