أخبار مهمةمنوعات

الى اللقاء يا امي الجزء الرابع


يتابع موقع جولان تايمز نشر رواية (إلى اللقاء يا أمي)….للأديبة فاطمة صالح صالح المريقب- الجزء الرابع

……………………… تذكّرتُ يوم رنّ الهاتفُ في بيتنا في الضهر، قبل مطلعِ الفجر في الثالثة صباح يوم الجمعة الثاني من أيار عام 1986م………………………… آآآآآآآآآآآخ…..!! الحمد لله……….. أسرَعَ زوجي ليردّ على الهاتف… بينما أنا بقيتُ في السرير أنتفض.. وقلبي يكادُ يخرجُ من صدري.. لا أستطيعُ النهوض.. راحَ زوجي يتلمّسُ صدرَهُ، ويحرّك رجليهِ حركاتٍ متتابعة لا إرادية.. وتخرجُ من صدرهِ كلمة ( يا ألله.. يا ألله.. يا ألله ) وهو يستمعُ إليكَ من الجانب الآخر من الشريط الهاتفيّ… كنتَ تخبره بوفاة الغالي……… خِفتُ عليهِ، أكثرَ مما خِفتُ على نفسي، يا أبي… عندما أرخى السماعة وراحَ يمشي في الغرفة ويزفر ( يا ألله ).. نهضتُ من سريري، مستعدّةً لكلّ الإحتمالات… وأنا أكادُ لاأحتملُ شيئاً أكثر مما كان بي يا أبي… حضنتُ جذعي بساعديَ الأيسر… وبالأيمن كنتُ أربتُ على كتفِ زوجي.. وأرجوهُ التماسُك… ( يموتوا كلّ العالم، بس أنت ما يصرلك شي ياحبيبي…. بس أخبرني… قل لي: اخواتي؟!! والاّ خواتك…؟!! قل لي..!! خواتي ولاّ خواتك..؟!! ( ولكْ يا فاطمة ليش خواتك مانن خواتي….؟! .. ( خيّي اسماعيل..؟؟!! )…. ( إي )…. (اغتيال..؟! )….. (لا… حادث سيارة.. ).. ( يعني.. راح..؟!!! ).. ( لا.. يمكن ميقولوا إنه اساه بالمشفى بس حالته خطرة )… ( لا….. لا…. راح…. راح خيّي…… آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ……….آآآآآآآآآآآآآآآخ………. ولك كيف بدي قولا..؟؟!! كيف……؟؟!!! آآآآآآآآآآآآآآآخ يا خيّي.. آآآآخ…. ألله… ولك آخ….. أللــــــــه… آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ….. ألله يرحمك………… آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ ياخيّي…..!!!! )
لم أكن أريد النزول إلى بيت أهلي.. لا أحتمل السير على قدميّ في الأيام العادية.. فكيف أستطيعُ ذلك بعد فقداني لما تبقّى من طاقتي على التحمّل….؟!! لكن زوجي شجعني وقال : كيف .؟ ما فيكِ غير تنزلي.. أنا أسندك…
وعندما وصلنا إلى أمام بيتنا.. بيتكم.. بيت أهلي.. كان أبي يصلّي رائحاً غادياً على البرندة الغربية، بتوتّرٍ بالغ.. وحين رآني.. ركضَ نحوي نازلاً دَرَج البرندة بسرعةٍ بالغة كأنه مازالَ شاباً عشرينياً.. احتضنني بقوّة، وهو يبكي.. ضمّني إلى صدره القويّ الحنون.. وراح يقبّلني ويقبّلني كأنه يحميني من الموت المؤكّد الذي كان يتوقعه لي، عند سماعي خبر أخي الغالي الذي كان يرتبط اسمه باسمي (اسماعيل وفاطمة ).. كأننا توأم.. قبل ذهابه إلى الكلّية الحربية في (حمص) وقبلَ زواجي.. دخلتُ البيتَ يسندني أبي وزوجي.. وجدتُ بقيّةَ أهلي مجتمعين.. والدكتور (صالح).. فوجئتُ بوجود زوجة الغالي، وطفلته ذات السنتين ونصف، وطفلهِ، الذي لم يكن قد تجاوَزَ الخمسة والأربعين يوماً.. أخبروني أنهُ أرسلهم صباح الأمس من حلب.. ودّعهم بحرارةٍ ودموعٍ سخيّة.. وأوصى السائق ألاّ يسرع.. وأخبرَ زوجته أنه لن يستطيعَ اصطحابهم.. لأنّ أحوال البلاد على أسوأ مايرام.. التفجيرات.. والإغتيالات.. ولم يكن قد مضى سوى عدة أيام على تفجير الباصات التي كانت قادمة من دمشق إلى الساحل، عشيّة عطلة (عيد الجلاء) في السادس عشر من نيسان 1986م.. وحوالي يومين على تفجير القطار الذاهب من حلب إلى اللاذقية.. وقبلها مجزرة (مدرسة المدفعية).. وغيرها.. وغيرها.. أخبرتَ زوجتكَ أنكَ ستسافر إلى (جبلة) لتعزّي بضابطَينِ صديقينِ حَميمَن.. من أشرَف من أنجبتْ سوريا.. كانا قد اغتيلا منذ عدة أيام، ولم تستطع تركَ عملكَ، لتأديةِ آخرِ واجبٍ من واجباتكَ تجاههما.. وهو تعزية أهلهما باستشهادهما.. سهرتَ حتى قُبيلَ الفجرِ مع زوجتك.. كنتَ تبكي بحُرقةٍ، وأنتَ تذكرُ المآسي التي شاهدتها، وأنتَ تقومُ بواجبكَ تجاهَ وطنكَ الأغلى مع رفاقكَ في الجيش.. وأنتم تبحثونَ بين الأشلاءِ المُبعثرة.. أخبرتها: ( ولِكْ يا(سلوى ى ى ى ى ى) …!! لو إنكْ شفتي الجثث كيف كانت، يا (سلوى)…!! ولكْ آآآآآآآآآآآآآخ…..!! كدنا ننتهي من مَهَمّتنا تلك، ونعودُ إلى حلب.. لكننا سمعنا بكاءَ طفلٍ يستغيث من بعيد… شنّفنا آذاننا.. واستعنّا بالأضواءِ الكاشفة التي نحملها.. لنتأكّد من مكانِ الصراخ.. ظننا أنها أصواتُ الرياح الشمالية الجافّة، القاسية.. لكننا عُدنا وتأكّدنا أنه صراخُ طفل….. وبعد لأيٍ، وبحثٍ في كلّ مكان.. صار أوضح.. فصرنا نقتربُ من مصدره، حتى وصلنا… وإذا بطفلةٍ صغيرة…. صغيرة جداً، يا (سَلوى)… تصوّري….!! كانت ترتعدُ من البردِ، والخوف.. وهي شبه عارية.. قذفتها شدّةُ الإنفجارِ، من بين أحضان والديها.. إلى مسافةٍ بعيدة… بقي لها عمر… أسرَعَ أحدُ الضبّاط، وخلعَ (الفيلت) العسكري الذي كان يرتديه.. ولفّ الطفلةَ به.. وحملناها إلى السيارة.. وانطلقنا بها إلى المشفى في (حلب)…. آآآآآآآآخ… يا(سلوى)…!! آخ…!! إذ صار لي شي.. انتبهي عالولاد.. !!)
أخي….
بعدَ وفاتِكَ بدقائق.. أذاعت إحدى الإذاعات العِراقيّة التحريضيّة، أنهُ (قُضيَ على……………… إلخ)…..
ألله يقضي على الظالمين….. ياااااارب….
****************************************
وكيف دخلتَ الغرفة مساءَ أحد الأيام التي تَلَتْ رحيل الغالي، عندما سمعتَ أصواتنا تعلو.. كان أخي الغالي، العائد حديثاً من (رومانيا) مُحْضِراً معهُ شهادته الجامعية في (الهندسة المدنية).. كان يلومني لأنني أقبّل الشباب رفاق أخي الغالي، ونحن نبكي وهم يعزونني بوفاته.. كنتُ أواسيهم، وأقول : ألله يرحمه.. وألله يعوّضنا سلامتكم أنتم.. لأنكم بدائل عن أخي.. وجَدتني أبكي بحُرقة… وكنتَ تعرفُ أنه لم تكنْ تنقصني حُرقة.. بل، كنتَ تظنّ أنني سأموتُ، فور سماعِ نبأ رحيل شقيقي وتوأم روحي.. فاستشطتَ غضَباً، ( أيها القاسي)…!!!!!!! آخ….!! ونهَرْتَ أخي، ألاّ يزعجني بأية كلمة… (.. هادي بتّي… بتّي…. فهمتْ شو يعني بتّي….؟؟!! أقسم بالذي لا إله إلاّ هو، مابقا تزعجها بكلمة، بدّي اكسر تمّك… فهمتْ ولاك..؟!!)..قلتُ لك : (مو مَيزعجني يا بَيّي.. مو مَيزعجني.. بس أنا مقهورة كتير… ).. وهَدّدتَهُ، إن عادَ ورفعَ صوتهُ في وجهي.. أو إن لم يلتزم أدَبَه.. ولا يحترم الجميع ( وإلاّ.. اطلعْ برّا هالبيت.. ولا بقا ترجع ).. وكان قد عادَ من (رومانيا) ناقماً على مايحدث في البلاد .. لم يكن حاضراً ليشهَدَ قتلَ الضباط.. والعلماء.. والأساتذة الجامعيين.. والإعلاميين.. والمُحامين (د. محمد الفاضل) مثلاً.. وغيرِه.. وغيرِه.. من كلّ (الطوائف) والإنتماءات… كما يحدث الآن.. وغير ذلكَ من أحداث القتل، والتفجيرِ، والتخريب.. لكنّ وسائلَ الإعلام لم تكن تصلنا بهذه القوّة.. وهذا الوضوح.. وهذا التوثيق.. كان أخي صادقاً جداً.. نبيلاً جداً.. كان يدرُسُ جيداً.. في الوقت الذي كان زملاؤهُ في الشقة، يشترون شهاداتهم بالنقود.. ويتفرّغون لملذّاتهم.. ويسخرون من (جِدّيته).. فينهرهم بقوله: ( ولاك، أنا بَيّي ميعلّم عشرة بالمدرسة.. ) لكنه – في الفترة الأخيرة- قُبيلَ عَودَته.. طلبَ منكَ كمية من النقود.. استدَنتَها يا أبي… وأرسلتَها له… وعندما عادَ من غُربَتِه.. سألتَهُ لماذا طلَبَها..؟! لكنهُ لم يخبرك.. لم تكنْ تشكّ، يوماً، بنزاهَتِه… لأنكَ تعرفُ مَن رَبّيت.. وكيف.. وعلى أيّة قِيَمٍ نبيلة ربّيتنا.. لكن كان من حقّكَ عليهِ أن تعرف أينَ صَرَف تلكَ النقود.. لكنه أبى أن يقول…….!! مما أثارَ حفيظتكَ، وحفيظة الجميع… وبدأتِ المشاكلُ تكبرُ، وتكبر بينهُ وبينكَ وبينهُ وبين العائلة…. وفي أثناء هذا التأزّم.. توفي الغالي……
تذكّرْتُ رسالتًكَ التشجيعيّةَ لي، عندما كنا أنا وزوجي في (المَغرِب) ردّاً على رسالةٍ مني، أخبرُكَ فيها أنني أقضي وقتَ فراغي بدِراسةِ اللغةِ الإنكليزية.. الجزء الأول من (سلسلة بي بي سي) الذي استأذنتُ زوجي، فشجّعَني، وأعطاني نقوداً.. فاشتريتُها من دمشق (وهي عبارة عن كتاب، وأربعة أشرطة كاسيت، تعلّمُ اللفظ الصحيح”..)
أذكُرُ سُرورَكَ البالغ، البادي في تلك الرسالة، لأنني أملأ فراغي بأشياءَ مُفيدة.. (إن شاء الله، ستكونينَ مَرْجِعاً لإخوتِك، في اللغة الإنكليزية، عندما تعودون بالسلامة إلى الوطن..)
……………………………………………
شريطٌ من الذكرياتِ، عَبَرَ، وأقامَ في روحي.. أو أنهُ بالأصل لم يبرَحْها حتى ولو للحظة.. أحاولُ أن أفرِغَ بعضاً من نزيفِهِ على هذه الصفحات.. لأعطيكَ بعْضَ بَعْضِ حقّكَ، الذي لم يُعْطِكَ إياهُ أحدٌ في حياتكَ يا أبي.. لكن… آآآآآآآخ…!! حاولتُ أن أفهِمَكَ بعضَ الأحيان، وأنتَ بيننا، أنني لا أحبّكَ – فقط – لأنكَ أبي.. ولا أحترمُكَ – فقط – لأنك أبي أيضاً.. وبالمُقابل.. لا أؤلّهُكَ.. ولا أؤلّهُ غيرَك… لكنّ الحوارَ بيننا كان قليلاً جداً.. لذلك… لم نفهم بَعضَنا جيداً، يا أبي…. فظلَمنا بعضنا.. وأتَحْنا للآخرين أن يظلمونا…………………..
كنتَ، بينَ فترةٍ، وأخرى.. عندما يصبحُ معكَ بعضَ النقود.. إما من بيع قطعة أرض.. أو من إنتاج (المدجنة).. أو بيع أو تأجير محلّ بَنيتَهُ لنفس الغرض في (الشيخ بدر).. كنتَ تجمعنا نحن بناتكَ الأربعة.. تناولنا بالتساوي كميّةً منها.. ألفين لكلّ ابنة.. أو خمسة.. أو عشرة.. أو خمسة عشر.. أو.. أو… حسبَ طاقتك… وتقول لنا : اصرفوها على أنفسكنّ.. ولا تخبرنَ أزواجَكُنّ…………………..
عندما قبَضتْ أختي أوّلَ راتب من (مصفاة بانياس).. حاوَلتْ أن تعطيكَ من راتبها.. وأن تعطي أمي… لكنّكَ رفضْتَ رفضاً قاطعاً، أيها الأبيّ الشهم.. قائلاً لها : لا تُعيديها أنتِ أو أيّ أحدٍ من إخوتك… نحن ربّيناكم وعلّمناكم كواجبٍ علينا، لأنكم أبناؤنا وبناتُنا… ولا نريدُ على ذلك جزاءً، ولا شُكورا………….. كونوا بخير….. ولا تفكّروا بنا……. وبقيتَ تساعِدَنا مادياً.. ومعنوياً.. حسبَ طاقتكَ التي بدأتْ تضعفُ بالتدريج… إلى أن وصَل الأمر أن كتبتَ باسمِ كلّ ابنةٍ منا قطعةَ أرضٍ في (أرض الوَتد) قربَ (وادي وَروَر) بنفسِ المساحة تقريباً.. وتركتَ بيننا قطعة لك.. قلتَ أنه ربما سيمرّ فيها، يوماً ما ، طريقٌ يقطعُها.. فليأخذ الطريقُ أرضَك.. ولا يمَسّ أرضنا… ياغالي………………….. قلتُ لكَ، وأنا أبكي حينها… وأنا أراكَ تُجْهِدُ نفسكَ المُجهَدَة بالأصل، لتضعَ أحجاراً كبيرةً بين كلّ قطعةٍ، وقطعة.. بمساعدة صهريّ : – بأيّ حَقّ تعطينا هذا يا أبي..؟! أجَبتَني، والعرَقُ يتصبّبُ من وجهكَ الطاهر، وجبينكَ الأسمر : – بحقّ أنكنّ – بواسطتنا – أتيتنّ إلى هذه الدنيا…. وعندما نموت، سيكون أيضاً لكُنّ حَقّ من الإرث.. ولكُنّ أيضاً حقوقٌ من أزواجكنّ…………… وازادَ نحيبي وقهري وفخري، وقلَقي عليكَ، فقلتُ لك : – من يدري..؟! قد نموتُ قبلَكَ بخمسين سنة… ألم يفعَلها أخي (اسماعيل) قبلنا..؟!! ثمّ إنكَ أعطيتَنا حقوقنا وأكثر، من زماااان.. يا أبي… غصَصْتُ.. غَصَصْتُ.. وأنا أنظرُ إلى وجهكَ المُرهَق، وجَسَدِكَ الحبيبِ، المُتهالك…. وأقرأ في تعابيرهما شقاءَ عمرٍ قضيتَهُ في الكفاح من أجل الحياة الحرّةِ الكريمة.. لكَ، ولنا، وللوطن الغالي، ولكلّ مَن عرفت……………… لكَ المجدُ والرحمة.. أيها الرجلُ، الرجل……………… أرجو أن تكون سعيداً حيثُ أنتَ ياغالي.. وأن تحظى بسعادَةً وراحةً أبديّة… تستحقّها يا أبي الغالي………………….
كلّما اختصمتْ زوجَةٌ مع زوجها.. تلجأ إليكَ، حتى لو كنتَ نائماً، أو مريضاً، أو مُتعَباً.. لا يهمّ….. ولم تخذل أحداً….. ما أزالُ أذكرُ أنكَ كنتَ بعدَ كلّ صلاة.. تخرجُ إلى السطح ( أيام كان البيتُ طينياً ) وإلى الشرفة الغربية ( بعد أن بنيتَ لنا بيتنا الإسمنتيّ الحاليّ عام 1967م ) تتمشّى.. جيئةً، وذهاباً.. لمدةٍ طويلة.. لا يُقلقُ خلوّكَ إلى نفسكَ أحد.. أو أنكَ لم تكن تسمحُ لأحدٍ أن يقطَعَ عليكَ سلسلةَ أفكاركَ، وأنتَ تقرأ وتفتّشُ وتمحّص.. وتعودُ لتستنجدَ بالقرآن الكريم، وبالكتبِ الموروثة عن الآباءِ والأجداد.. لتجدَ الحلولَ الأسلم.. والأكثرَ عدلاً… وتوصي لصاحب، أو صاحبة المُشكلة.. فيحضروا… فتشرَح لهم موقف العُرْفِ، والقانونِ، والدين.. من مشاكلهم… وتفتي لهم بطريقةِ حَلّها…. قراراً غيرَ مُلزمٍ لأحد.. لكنّه الأكثرَ عدْلاً.. حسبَ معرفتك…. تحضر لهم أمي الغالية، الضيافة.. قد تكون غداءً.. أو فطوراً.. أو عشاءً.. أو.. قهوة.. أو متة.. أو شاياً.. أو بعضَ الفواكه… أو كلّها….. قبل أن يغادروا بيتكَ العامر بالخير.. يا أبي الأغلى………………….
ناهيكَ عن استقبالِ الضيوف الآخرين من القرى البعيدة، الذين يأتونكَ زائرين.. أو طالبيّ حاجة مادّية، أو معنويّة… وقد ينامون في بيتنا يوماً، أو أكثر.. قبل أن يعودوا إلى قراهم.. أو مُدُنهم……….بعضهم كان يأتي من (طرابلس ) في (لبنان).. وبعضهم من (طرطوس) ومن (اللاذقية) و (جَبلة) ومن (بلاد الشرق ).. و(حماه )، و(إدلب).. وغيرها…..
ويومَ أخبرتني الغالية أمي، أنّ دموعك نزلتْ، وأنت تنهى (صديقكَ) عن اصطحاب زوجته إلى (الجرد) ليعود ويسكن معها في بيتهم القديم في قريته الأصلية التي تركها مع عائلته منذ عشرات السنين، واشتروا أرضاً في (الشيخ بدر) فوق السوق الرئيسيّ.. وبنى هو وإخوته وأخواته بيوتاً فيها.. واكتسبوا سمعة طيبة.. وكانت زوجَتُهُ محبوبة جداً من جاراتها، ومحترمة.. فرحتَ ترجو زوجها (صديقك) ألاّ يفعل.. وألاّ يجعلها تترك بيئةً كانت قد انسجمت فيها.. وجيراناً، وصُحبةً اعتادتهم، واعتادوها.. بيئةً غنيّةً بالتنوّع.. وعامرة بالألفة.. والإحترام المُتبادَل.. كانت تظنّها أبديّة…..
**************
تذكّرتُ يومَ اكتَشَفْتَ، صُدفةً، أنّ ابنتَكَ شاعرة.. أمسَكْتَ دفتري، ورحتَ تقلّبُ صفحاتِهِ، وتقرأ بإعجابٍ بالغٍ، بعضَ قصائدي.. وأكثر قصيدة أثارتْ إعجابكَ، هي قصيدتي عن حفيدِكَ الأوّل، الغالي (فادي).. تهَلّلَ وَجهُكَ النورانيّ الأسمر.. ( دائماً، كانوا يقولونَ لي أنني أشبهُكَ، يا أبي الغالي ) وأنتَ تروحُ وتجيءُ في بيتنا في (الضَّهر) وتُنشِدُ أبياتَ القصيدةِ العموديّة.. وكنتَ تعشقُ الشعرَ العموديّ، وتكتُبُه.. تردّدها على مسامِعِ زوجي وصديقكما.. وترَدّدُ – كَمَنِ اكتَشَفَ سِرّاً خَفيّاً : ( وإذا كانتِ النفوسُ كباراً…. تَعِبَتْ – في مُرادِها – الأجسامُ )..
……………………… تذكّرتُ يوم رنّ الهاتفُ في بيتنا في الضهر، قبل مطلعِ الفجر في الثالثة صباح يوم الجمعة الثاني من أيار عام 1986م………………………… آآآآآآآآآآآخ…..!! الحمد لله……….. أسرَعَ زوجي ليردّ على الهاتف… بينما أنا بقيتُ في السرير أنتفض.. وقلبي يكادُ يخرجُ من صدري.. لا أستطيعُ النهوض.. راحَ زوجي يتلمّسُ صدرَهُ، ويحرّك رجليهِ حركاتٍ متتابعة لا إرادية.. وتخرجُ من صدرهِ كلمة ( يا ألله.. يا ألله.. يا ألله ) وهو يستمعُ إليكَ من الجانب الآخر من الشريط الهاتفيّ… كنتَ تخبره بوفاة الغالي……… خِفتُ عليهِ، أكثرَ مما خِفتُ على نفسي، يا أبي… عندما أرخى السماعة وراحَ يمشي في الغرفة ويزفر ( يا ألله ).. نهضتُ من سريري، مستعدّةً لكلّ الإحتمالات… وأنا أكادُ لاأحتملُ شيئاً أكثر مما كان بي يا أبي… حضنتُ جذعي بساعديَ الأيسر… وبالأيمن كنتُ أربتُ على كتفِ زوجي.. وأرجوهُ التماسُك… ( يموتوا كلّ العالم، بس أنت ما يصرلك شي ياحبيبي…. بس أخبرني… قل لي: اخواتي؟!! والاّ خواتك…؟!! قل لي..!! خواتي ولاّ خواتك..؟!! ( ولكْ يا فاطمة ليش خواتك مانن خواتي….؟! .. ( خيّي اسماعيل..؟؟!! )…. ( إي )…. (اغتيال..؟! )….. (لا… حادث سيارة.. ).. ( يعني.. راح..؟!!! ).. ( لا.. يمكن ميقولوا إنه اساه بالمشفى بس حالته خطرة )… ( لا….. لا…. راح…. راح خيّي…… آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ……….آآآآآآآآآآآآآآآخ………. ولك كيف بدي قولا..؟؟!! كيف……؟؟!!! آآآآآآآآآآآآآآآخ يا خيّي.. آآآآخ…. ألله… ولك آخ….. أللــــــــه… آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ….. ألله يرحمك………… آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ ياخيّي…..!!!! )
لم أكن أريد النزول إلى بيت أهلي.. لا أحتمل السير على قدميّ في الأيام العادية.. فكيف أستطيعُ ذلك بعد فقداني لما تبقّى من طاقتي على التحمّل….؟!! لكن زوجي شجعني وقال : كيف .؟ ما فيكِ غير تنزلي.. أنا أسندك…
وعندما وصلنا إلى أمام بيتنا.. بيتكم.. بيت أهلي.. كان أبي يصلّي رائحاً غادياً على البرندة الغربية، بتوتّرٍ بالغ.. وحين رآني.. ركضَ نحوي نازلاً دَرَج البرندة بسرعةٍ بالغة كأنه مازالَ شاباً عشرينياً.. احتضنني بقوّة، وهو يبكي.. ضمّني إلى صدره القويّ الحنون.. وراح يقبّلني ويقبّلني كأنه يحميني من الموت المؤكّد الذي كان يتوقعه لي، عند سماعي خبر أخي الغالي الذي كان يرتبط اسمه باسمي (اسماعيل وفاطمة ).. كأننا توأم.. قبل ذهابه إلى الكلّية الحربية في (حمص) وقبلَ زواجي.. دخلتُ البيتَ يسندني أبي وزوجي.. وجدتُ بقيّةَ أهلي مجتمعين.. والدكتور (صالح).. فوجئتُ بوجود زوجة الغالي، وطفلته ذات السنتين ونصف، وطفلهِ، الذي لم يكن قد تجاوَزَ الخمسة والأربعين يوماً.. أخبروني أنهُ أرسلهم صباح الأمس من حلب.. ودّعهم بحرارةٍ ودموعٍ سخيّة.. وأوصى السائق ألاّ يسرع.. وأخبرَ زوجته أنه لن يستطيعَ اصطحابهم.. لأنّ أحوال البلاد على أسوأ مايرام.. التفجيرات.. والإغتيالات.. ولم يكن قد مضى سوى عدة أيام على تفجير الباصات التي كانت قادمة من دمشق إلى الساحل، عشيّة عطلة (عيد الجلاء) في السادس عشر من نيسان 1986م.. وحوالي يومين على تفجير القطار الذاهب من حلب إلى اللاذقية.. وقبلها مجزرة (مدرسة المدفعية).. وغيرها.. وغيرها.. أخبرتَ زوجتكَ أنكَ ستسافر إلى (جبلة) لتعزّي بضابطَينِ صديقينِ حَميمَن.. من أشرَف من أنجبتْ سوريا.. كانا قد اغتيلا منذ عدة أيام، ولم تستطع تركَ عملكَ، لتأديةِ آخرِ واجبٍ من واجباتكَ تجاههما.. وهو تعزية أهلهما باستشهادهما.. سهرتَ حتى قُبيلَ الفجرِ مع زوجتك.. كنتَ تبكي بحُرقةٍ، وأنتَ تذكرُ المآسي التي شاهدتها، وأنتَ تقومُ بواجبكَ تجاهَ وطنكَ الأغلى مع رفاقكَ في الجيش.. وأنتم تبحثونَ بين الأشلاءِ المُبعثرة.. أخبرتها: ( ولِكْ يا(سلوى ى ى ى ى ى) …!! لو إنكْ شفتي الجثث كيف كانت، يا (سلوى)…!! ولكْ آآآآآآآآآآآآآخ…..!! كدنا ننتهي من مَهَمّتنا تلك، ونعودُ إلى حلب.. لكننا سمعنا بكاءَ طفلٍ يستغيث من بعيد… شنّفنا آذاننا.. واستعنّا بالأضواءِ الكاشفة التي نحملها.. لنتأكّد من مكانِ الصراخ.. ظننا أنها أصواتُ الرياح الشمالية الجافّة، القاسية.. لكننا عُدنا وتأكّدنا أنه صراخُ طفل….. وبعد لأيٍ، وبحثٍ في كلّ مكان.. صار أوضح.. فصرنا نقتربُ من مصدره، حتى وصلنا… وإذا بطفلةٍ صغيرة…. صغيرة جداً، يا (سَلوى)… تصوّري….!! كانت ترتعدُ من البردِ، والخوف.. وهي شبه عارية.. قذفتها شدّةُ الإنفجارِ، من بين أحضان والديها.. إلى مسافةٍ بعيدة… بقي لها عمر… أسرَعَ أحدُ الضبّاط، وخلعَ (الفيلت) العسكري الذي كان يرتديه.. ولفّ الطفلةَ به.. وحملناها إلى السيارة.. وانطلقنا بها إلى المشفى في (حلب)…. آآآآآآآآخ… يا(سلوى)…!! آخ…!! إذ صار لي شي.. انتبهي عالولاد.. !!)
أخي….
بعدَ وفاتِكَ بدقائق.. أذاعت إحدى الإذاعات العِراقيّة التحريضيّة، أنهُ (قُضيَ على……………… إلخ)…..
ألله يقضي على الظالمين….. ياااااارب….
****************************************
وكيف دخلتَ الغرفة مساءَ أحد الأيام التي تَلَتْ رحيل الغالي، عندما سمعتَ أصواتنا تعلو.. كان أخي الغالي، العائد حديثاً من (رومانيا) مُحْضِراً معهُ شهادته الجامعية في (الهندسة المدنية).. كان يلومني لأنني أقبّل الشباب رفاق أخي الغالي، ونحن نبكي وهم يعزونني بوفاته.. كنتُ أواسيهم، وأقول : ألله يرحمه.. وألله يعوّضنا سلامتكم أنتم.. لأنكم بدائل عن أخي.. وجَدتني أبكي بحُرقة… وكنتَ تعرفُ أنه لم تكنْ تنقصني حُرقة.. بل، كنتَ تظنّ أنني سأموتُ، فور سماعِ نبأ رحيل شقيقي وتوأم روحي.. فاستشطتَ غضَباً، ( أيها القاسي)…!!!!!!! آخ….!! ونهَرْتَ أخي، ألاّ يزعجني بأية كلمة… (.. هادي بتّي… بتّي…. فهمتْ شو يعني بتّي….؟؟!! أقسم بالذي لا إله إلاّ هو، مابقا تزعجها بكلمة، بدّي اكسر تمّك… فهمتْ ولاك..؟!!)..قلتُ لك : (مو مَيزعجني يا بَيّي.. مو مَيزعجني.. بس أنا مقهورة كتير… ).. وهَدّدتَهُ، إن عادَ ورفعَ صوتهُ في وجهي.. أو إن لم يلتزم أدَبَه.. ولا يحترم الجميع ( وإلاّ.. اطلعْ برّا هالبيت.. ولا بقا ترجع ).. وكان قد عادَ من (رومانيا) ناقماً على مايحدث في البلاد .. لم يكن حاضراً ليشهَدَ قتلَ الضباط.. والعلماء.. والأساتذة الجامعيين.. والإعلاميين.. والمُحامين (د. محمد الفاضل) مثلاً.. وغيرِه.. وغيرِه.. من كلّ (الطوائف) والإنتماءات… كما يحدث الآن.. وغير ذلكَ من أحداث القتل، والتفجيرِ، والتخريب.. لكنّ وسائلَ الإعلام لم تكن تصلنا بهذه القوّة.. وهذا الوضوح.. وهذا التوثيق.. كان أخي صادقاً جداً.. نبيلاً جداً.. كان يدرُسُ جيداً.. في الوقت الذي كان زملاؤهُ في الشقة، يشترون شهاداتهم بالنقود.. ويتفرّغون لملذّاتهم.. ويسخرون من (جِدّيته).. فينهرهم بقوله: ( ولاك، أنا بَيّي ميعلّم عشرة بالمدرسة.. ) لكنه – في الفترة الأخيرة- قُبيلَ عَودَته.. طلبَ منكَ كمية من النقود.. استدَنتَها يا أبي… وأرسلتَها له… وعندما عادَ من غُربَتِه.. سألتَهُ لماذا طلَبَها..؟! لكنهُ لم يخبرك.. لم تكنْ تشكّ، يوماً، بنزاهَتِه… لأنكَ تعرفُ مَن رَبّيت.. وكيف.. وعلى أيّة قِيَمٍ نبيلة ربّيتنا.. لكن كان من حقّكَ عليهِ أن تعرف أينَ صَرَف تلكَ النقود.. لكنه أبى أن يقول…….!! مما أثارَ حفيظتكَ، وحفيظة الجميع… وبدأتِ المشاكلُ تكبرُ، وتكبر بينهُ وبينكَ وبينهُ وبين العائلة…. وفي أثناء هذا التأزّم.. توفي الغالي……
تذكّرْتُ رسالتًكَ التشجيعيّةَ لي، عندما كنا أنا وزوجي في (المَغرِب) ردّاً على رسالةٍ مني، أخبرُكَ فيها أنني أقضي وقتَ فراغي بدِراسةِ اللغةِ الإنكليزية.. الجزء الأول من (سلسلة بي بي سي) الذي استأذنتُ زوجي، فشجّعَني، وأعطاني نقوداً.. فاشتريتُها من دمشق (وهي عبارة عن كتاب، وأربعة أشرطة كاسيت، تعلّمُ اللفظ الصحيح”..)
أذكُرُ سُرورَكَ البالغ، البادي في تلك الرسالة، لأنني أملأ فراغي بأشياءَ مُفيدة.. (إن شاء الله، ستكونينَ مَرْجِعاً لإخوتِك، في اللغة الإنكليزية، عندما تعودون بالسلامة إلى الوطن..)
……………………………………………
شريطٌ من الذكرياتِ، عَبَرَ، وأقامَ في روحي.. أو أنهُ بالأصل لم يبرَحْها حتى ولو للحظة.. أحاولُ أن أفرِغَ بعضاً من نزيفِهِ على هذه الصفحات.. لأعطيكَ بعْضَ بَعْضِ حقّكَ، الذي لم يُعْطِكَ إياهُ أحدٌ في حياتكَ يا أبي.. لكن… آآآآآآآخ…!! حاولتُ أن أفهِمَكَ بعضَ الأحيان، وأنتَ بيننا، أنني لا أحبّكَ – فقط – لأنكَ أبي.. ولا أحترمُكَ – فقط – لأنك أبي أيضاً.. وبالمُقابل.. لا أؤلّهُكَ.. ولا أؤلّهُ غيرَك… لكنّ الحوارَ بيننا كان قليلاً جداً.. لذلك… لم نفهم بَعضَنا جيداً، يا أبي…. فظلَمنا بعضنا.. وأتَحْنا للآخرين أن يظلمونا…………………..
كنتَ، بينَ فترةٍ، وأخرى.. عندما يصبحُ معكَ بعضَ النقود.. إما من بيع قطعة أرض.. أو من إنتاج (المدجنة).. أو بيع أو تأجير محلّ بَنيتَهُ لنفس الغرض في (الشيخ بدر).. كنتَ تجمعنا نحن بناتكَ الأربعة.. تناولنا بالتساوي كميّةً منها.. ألفين لكلّ ابنة.. أو خمسة.. أو عشرة.. أو خمسة عشر.. أو.. أو… حسبَ طاقتك… وتقول لنا : اصرفوها على أنفسكنّ.. ولا تخبرنَ أزواجَكُنّ…………………..
عندما قبَضتْ أختي أوّلَ راتب من (مصفاة بانياس).. حاوَلتْ أن تعطيكَ من راتبها.. وأن تعطي أمي… لكنّكَ رفضْتَ رفضاً قاطعاً، أيها الأبيّ الشهم.. قائلاً لها : لا تُعيديها أنتِ أو أيّ أحدٍ من إخوتك… نحن ربّيناكم وعلّمناكم كواجبٍ علينا، لأنكم أبناؤنا وبناتُنا… ولا نريدُ على ذلك جزاءً، ولا شُكورا………….. كونوا بخير….. ولا تفكّروا بنا……. وبقيتَ تساعِدَنا مادياً.. ومعنوياً.. حسبَ طاقتكَ التي بدأتْ تضعفُ بالتدريج… إلى أن وصَل الأمر أن كتبتَ باسمِ كلّ ابنةٍ منا قطعةَ أرضٍ في (أرض الوَتد) قربَ (وادي وَروَر) بنفسِ المساحة تقريباً.. وتركتَ بيننا قطعة لك.. قلتَ أنه ربما سيمرّ فيها، يوماً ما ، طريقٌ يقطعُها.. فليأخذ الطريقُ أرضَك.. ولا يمَسّ أرضنا… ياغالي………………….. قلتُ لكَ، وأنا أبكي حينها… وأنا أراكَ تُجْهِدُ نفسكَ المُجهَدَة بالأصل، لتضعَ أحجاراً كبيرةً بين كلّ قطعةٍ، وقطعة.. بمساعدة صهريّ : – بأيّ حَقّ تعطينا هذا يا أبي..؟! أجَبتَني، والعرَقُ يتصبّبُ من وجهكَ الطاهر، وجبينكَ الأسمر : – بحقّ أنكنّ – بواسطتنا – أتيتنّ إلى هذه الدنيا…. وعندما نموت، سيكون أيضاً لكُنّ حَقّ من الإرث.. ولكُنّ أيضاً حقوقٌ من أزواجكنّ…………… وازادَ نحيبي وقهري وفخري، وقلَقي عليكَ، فقلتُ لك : – من يدري..؟! قد نموتُ قبلَكَ بخمسين سنة… ألم يفعَلها أخي (اسماعيل) قبلنا..؟!! ثمّ إنكَ أعطيتَنا حقوقنا وأكثر، من زماااان.. يا أبي… غصَصْتُ.. غَصَصْتُ.. وأنا أنظرُ إلى وجهكَ المُرهَق، وجَسَدِكَ الحبيبِ، المُتهالك…. وأقرأ في تعابيرهما شقاءَ عمرٍ قضيتَهُ في الكفاح من أجل الحياة الحرّةِ الكريمة.. لكَ، ولنا، وللوطن الغالي، ولكلّ مَن عرفت……………… لكَ المجدُ والرحمة.. أيها الرجلُ، الرجل……………… أرجو أن تكون سعيداً حيثُ أنتَ ياغالي.. وأن تحظى بسعادَةً وراحةً أبديّة… تستحقّها يا أبي الغالي………………….
كلّما اختصمتْ زوجَةٌ مع زوجها.. تلجأ إليكَ، حتى لو كنتَ نائماً، أو مريضاً، أو مُتعَباً.. لا يهمّ….. ولم تخذل أحداً….. ما أزالُ أذكرُ أنكَ كنتَ بعدَ كلّ صلاة.. تخرجُ إلى السطح ( أيام كان البيتُ طينياً ) وإلى الشرفة الغربية ( بعد أن بنيتَ لنا بيتنا الإسمنتيّ الحاليّ عام 1967م ) تتمشّى.. جيئةً، وذهاباً.. لمدةٍ طويلة.. لا يُقلقُ خلوّكَ إلى نفسكَ أحد.. أو أنكَ لم تكن تسمحُ لأحدٍ أن يقطَعَ عليكَ سلسلةَ أفكاركَ، وأنتَ تقرأ وتفتّشُ وتمحّص.. وتعودُ لتستنجدَ بالقرآن الكريم، وبالكتبِ الموروثة عن الآباءِ والأجداد.. لتجدَ الحلولَ الأسلم.. والأكثرَ عدلاً… وتوصي لصاحب، أو صاحبة المُشكلة.. فيحضروا… فتشرَح لهم موقف العُرْفِ، والقانونِ، والدين.. من مشاكلهم… وتفتي لهم بطريقةِ حَلّها…. قراراً غيرَ مُلزمٍ لأحد.. لكنّه الأكثرَ عدْلاً.. حسبَ معرفتك…. تحضر لهم أمي الغالية، الضيافة.. قد تكون غداءً.. أو فطوراً.. أو عشاءً.. أو.. قهوة.. أو متة.. أو شاياً.. أو بعضَ الفواكه… أو كلّها….. قبل أن يغادروا بيتكَ العامر بالخير.. يا أبي الأغلى………………….
ناهيكَ عن استقبالِ الضيوف الآخرين من القرى البعيدة، الذين يأتونكَ زائرين.. أو طالبيّ حاجة مادّية، أو معنويّة… وقد ينامون في بيتنا يوماً، أو أكثر.. قبل أن يعودوا إلى قراهم.. أو مُدُنهم……….بعضهم كان يأتي من (طرابلس ) في (لبنان).. وبعضهم من (طرطوس) ومن (اللاذقية) و (جَبلة) ومن (بلاد الشرق ).. و(حماه )، و(إدلب).. وغيرها…..
ويومَ أخبرتني الغالية أمي، أنّ دموعك نزلتْ، وأنت تنهى (صديقكَ) عن اصطحاب زوجته إلى (الجرد) ليعود ويسكن معها في بيتهم القديم في قريته الأصلية التي تركها مع عائلته منذ عشرات السنين، واشتروا أرضاً في (الشيخ بدر) فوق السوق الرئيسيّ.. وبنى هو وإخوته وأخواته بيوتاً فيها.. واكتسبوا سمعة طيبة.. وكانت زوجَتُهُ محبوبة جداً من جاراتها، ومحترمة.. فرحتَ ترجو زوجها (صديقك) ألاّ يفعل.. وألاّ يجعلها تترك بيئةً كانت قد انسجمت فيها.. وجيراناً، وصُحبةً اعتادتهم، واعتادوها.. بيئةً غنيّةً بالتنوّع.. وعامرة بالألفة.. والإحترام المُتبادَل.. كانت تظنّها أبديّة…..
**************
تذكّرتُ يومَ اكتَشَفْتَ، صُدفةً، أنّ ابنتَكَ شاعرة.. أمسَكْتَ دفتري، ورحتَ تقلّبُ صفحاتِهِ، وتقرأ بإعجابٍ بالغٍ، بعضَ قصائدي.. وأكثر قصيدة أثارتْ إعجابكَ، هي قصيدتي عن حفيدِكَ الأوّل، الغالي (فادي).. تهَلّلَ وَجهُكَ النورانيّ الأسمر.. ( دائماً، كانوا يقولونَ لي أنني أشبهُكَ، يا أبي الغالي ) وأنتَ تروحُ وتجيءُ في بيتنا في (الضَّهر) وتُنشِدُ أبياتَ القصيدةِ العموديّة.. وكنتَ تعشقُ الشعرَ العموديّ، وتكتُبُه.. تردّدها على مسامِعِ زوجي وصديقكما.. وترَدّدُ – كَمَنِ اكتَشَفَ سِرّاً خَفيّاً : ( وإذا كانتِ النفوسُ كباراً…. تَعِبَتْ – في مُرادِها – الأجسامُ )..


الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق