فاطمة صالح إلى اللقاء يا أمي الاجزاء 8+9+10

- جولان تايمز
الجزء الثامن من ( إلى اللقاء يا أمي )
_____________________________
اليوم، يا أمي الغالية، هو الجمعة الثاني عشر من تمّوز 2013م الثالث من رمضان المبارك..
لستُ صائمة، يا أمي.. صُمْتُ اليوم الأول من هذا الشهر الفضيل، براحة، ودون سحور.. مع أنني كنتُ أخشى كثيراً من عدَم قدرتي على تحمّلِ العطش.. فما تزالُ نوباتُ التعرّقِ تداهمني، يومياً، ولفتراتٍ متفاوتة.. خصوصاً عند القيامِ بأعمالٍ تحتاجُ جَهداً كبيراً، كالمشي، أو الحَفر في الأرض، أو الزراعة،أو التسوّق، أو أعمال المنزل من تنظيف وغيره.. والدواءُ الذي أتناولهُ يومياً لحماية معدتي من التقرّح ومن القلَس، الذي ظلّ لمدّة عشرات السنين يكوي المريء لدَيّ.. ويؤلمني جداً، ويوتّرني، ويمنعني من تناول الكثير من الأطعمة.. حتى وأنا صائمة.. كثيراً ما كان القلَسُ يحرقني في صدري، وينتقلُ الألمُ الشديدُ والضاغِطُ إلى ظهري، ويتوزّعُ على جانبيّ صدري من الأعلى، ورقبتي وذقني وحَنَكي.. ويُضطرّني لأخذِ الأدوية المُخَفّفة له، والموصوفة من قِبَلِ الأطباء المختصّين، بعد التأكّد من سلامة التشخيص، عن طريق التنظير الهضمي للمعدة والمريء والإثنيّ عشري.. أجريته ثلاث مرات في حياتي، حتى الآن، كان آخرها في (مشفى الباسل) الحكوميّ في طرطوس، أثناءَ مرضكِ ياغالية.. حيث داهَمني سُعالٌ شديدٌ، شبه متواصل، مع آلام شديدة في صدري، وبردٌ وارتجاف.. قال لي الدكتور (محمد) أنه من هذا (الكريب) الجائحة، التي أصابتِ الكثيرين والكثيرات، فيروسيّ السبب.. أعطاني خافضَ حرارة ومسكّناً للألم، حبتين كل ستّ ساعات، وشراباً مُضادّاً للسعال ومُقشّع.. دون جدوى تُذكَر.. انهَدّ حيلي.. نمتُ في الصالون في بيتنا- بيتكم يا أمي، في غرفة الغالي إبن الغالي، كي لا أعديكِ.. أنتِ التي لم يكن ينقصكِ مُعاناة، يا أمي..
جَهّزَ لي ابنُ أخي الديفون المُقابل لسريره.. فرَشَهُ، ووضعَ لي فوقه شرشفاً وعِدّةَ وِسادات.. وبعد يومين أو ثلاثة، أوقدَ لي مدفأةَ الحطبِ التي كان قد ثبّتها في الزاوية الشمالية الغربية من الصالون- غرفته، التي كان ينامُ فيها منذ عدّةِ أشهر، بعد أن ينزل إلى دوامهِ في طرطوس، من السابعة والنصف صباحاً، حتى ما بعد السادسة، أو السابعة مساءً.. أو أكثر. وكان عَمُّهُ، حبيب قلبك، قد طلبَ منه أن يبقى قريباً منا.. أنا، وأنتِ ياغالية.. على الأقلّ في الليل، إذا احتجنا إلى مساعدة.. كان – أحياناً – يساعدني على إنهاضِكِ، أو قلبِكِ في سريركِ من جهة إلى أخرى.. أما الحمّام، فغالباً كُنتُ أحَمّمُكِ بمُفرَدي، وأحياناً قليلة، كانت تساعدني أختي الغالية، بَعْدَ انتهاءِ دَوامِها في المَدرَسَة….
كنتُ أحضنكِ من تحتِ إبطيكِ الغاليين المتداعيَين، و أُنهِضُكِ من فوق السرير، لأجلسكِ على الكرسيّ البلاستيكيّ البُنيّ، الذي ثقبَهُ حفيدُكِ من وَسَطه بطلبٍ مني، وألصَقتُ أنا حولَ حوافّهِ، بشكلٍ دائريّ طبقة من الإسفنج غلّفتها بالنايلون، كي تكون جَلْسَتُكِ فوقهُ مُريحةً، ياغالية.. كنتُ ألصِقُ هذا الكرسيّ بسريرك، كي لا يسقطَ جسمُكِ الحبيب المُتهالك من بين يديّ.. أو يؤلمني ظهري جداً عندما أنهِضُكِ.. وعندما أفلِحُ في إجلاسِكِ عليهِ بأمان، أحَمّمُكِ، وأكونُ قد حَضّرتُ الماءَ الساخنَ، وبعضَ الباردَ من الحَمّام إلى الغرفة بواسطة عدّة أواني بلاستيكية، أو طناجر من الستنلس، والليفة، والشامبو، أو الصابون المصنوع من زيت الزيتون، زيت (مَهْل) الزيتون من عندكم.. يرسله أبي إلى أحد الخبراء في صنع الصابون في قرية أخرى.. يغلونهُ، ويفرشون السائلَ المُضاف إليه موادّ أخرى (قَلو) يصبّونهُ فوقَ مَدّة من القماش، أو النايلون، أو ورَق الجرائد.. ثمّ يقطّعونهُ قِطعاً، قِطَعاً، بواسطةِ أخشابٍ المُستطيلة، ويجففونهُ، ثم يصفّون ألواحَهُ في كيسٍ قماشيّ، ويرسلونهُ إليكم، فيصفّهُ أبي الغالي بسحاحيرَ بلاستيكية.. تخزّنونهُ كمؤونة، وتستحمّون بهِ طيلةَ أيامِ السنة.. وقد تهدوننا أو تهدوا غيرنا من الأقارب بعضَ الألواح….. لكن، منذ سنوات، كنتما توصيانِ أختي، أن تُحضِرَ لكما من طرطوس، صابوناً سائلاً (شامبو) خاصّاً بحَمّام الرأس والجسم معاً..كنتما تستخدمانهِ للحمّام .. كانَ أبي، بعدما كبرَ بالعمر، وصعبَ عليهِ الإستحمام بنفسه، يطلبُ منكِ، أو من أحدِ إخوتي أن يُحَمِّمَهُ. أو، على الأقلّ، يفركُ لهُ ظهرَهُ بالليفة والشامبو.. كما كنتِ تفعلين.
أمي..
نويتُ اليومَ أن أوَجّهَ كلامي للغالية زوجة عمي، حماتي.. رحمةُ اللهِ عليها.. لكنني عَدَلْتُ عن ذلك.. لا أعرفُ لماذا.. !!
أحبّها جداً، يا أمي.. وكانتْ أيضاً تحبني جداً، وتشفقُ عَليّ………………………….. هنا سأختصرُ مَقطَعاً من روايتي هذه…….
أمي.. والله أحبكِ جداً..
تضحكين..!! وأنا أضحكُ من هذا الكلام المباشَر البديهيّ الساذج الصادق..
حينَ أمرُّ قربَ (مقامكِ) الحبيبِ، الذي يدعونهُ (قبراً) أبتسمُ، وأشعرُ – غالباً – بالفرَحِ، والسعادة.. لأنني أشمّ رائحتَكِ يا أمي.. أحياناً قليلة، لا أستطيعُ سوى أن أصعَدَ إلى مقامِكِ، شمال مقام عمتي الغالية (ندّة) أمي الثانية.. وعلى جنوبها مقام زوجة عمي (محمد) رحمها الله (مريم عباس – أم رامي) أقرأ الفاتحةَ على روحكِ الطاهرة.. أكلّمكِ.. وأذرفُ الدموع.. أشعرُ بالحنينِ إليكِ.. وبشعورٍ لا يمكنُ وَصفُهُ من الحبّ، والحنان، والإستئناس بحضورِكِ معي.. أمي.. وأطلبُ منكِ أن تدعي لي بالتوفيقِ، والحمايةِ، والهدايةِ إلى الخير.. وأنا متأكّدةً أنكِ تسمعينني، وتشعرينَ بما أشعرُ به، وتعرفينَ حاجاتي، وتدعينَ لي القوّة الخالقة للكون (الروح الكلّيّة) التي امتزَجْتِ بها، فجْرَ يومِ الثلاثاء، الرابع والعشرين من شهر نيسان من هذا العام 2013م.
زوجي نزلَ قبلَ أكثر من ساعة، يمكن إلى السوق (الشيخ بدر) لا..لا.. إلى صلاةِ الجمعة في جامع (الشيخ علي سلمان) قدّس سِرّه. أو، ربما، في (الدَّرْوِة) الجامع الذي حَلمتِ أن تزوريهِ في حياتِكِ الدنيويّة.. لكن.. للأسف.. لم تستطيعي.. رغمَ أنّ أخي أخذكِ إلى قربه.. قرب (دَرْوَة الشيخ علي سلمان) ليُحَقّقَ لكِ حُلمَكِ برؤيةِ الغرفة (الجامع) التي بناها أبناؤكِ، ورفاقُهم من شبابِ القرية الغوالي، في المكانِ المُقَدَّسِ، التي ماتزالُ تعبَقُ في أرجائهِ اللامَحدودة، صَلواتُ المُقدّس (الشيخ علي سلمان) حيثُ كانَ يأوي إلى صخرةٍ في ذلك المكان، جنوبي قريتنا الغالية (المريقب) الذي عُرِفَ بها (الشيخ علي سلمان المريقب) يتأمّلُ بِخَلقِ اللهِ تعالى.. بقدرَتِه.. بقوّته.. بربوبيّته.. فيسبحُ في بحارِ القَداسةِ، والحبّ، والخيرِ، والسعادة اللامَحدودة.. من خلالِ تواصُلِهِ الروحيّ الصّوفيّ التأمُّليّ، مع القوّة الأقوى، والأعظَم، والأقدَر، والأرحَم، والأعْدَل.. القوّة المُطلَقة.. الخالقة للكون.. التي هي (الله)..
سَحَرني لقائي هذا معكِ هذا الصباح، يا أميَ الغالية..
كنتُ سأكتبُ غيرَ ماكتبتُ الآن.. لكنّني آثرْتُ أن أتركَ روحي تكتبُ ماتشاءُ بحُرّيةٍ لا مَحدودة.. يُترجمُها قلَمي هذا إلى حُروف، وترسمُها عضلاتُ أصابعي، بأمرٍ من عقلي وروحي، على صفحات هذا الدفتر الزهريّ اللونِ، الأبيض الصفحات، والذي كنتُ قد حَضّرتُهُ لأكتبَ عليهِ (قطوفاً من مُطالَعاتي)..
سأنقلُ ما أكتبُ إلى شاشةِ الكمبيوتر العجوز، إذا تكرّمَ عليّ، وابتسَمَ في وجهي مُرَحّباً، عبْرَ شاشتهِ البخيلة، التي لا تفتحُ إلاّ على كيفها، وبمُنتهى حُرّيتها، ومتى شاءت.. لتعزفَ باقةً صغيرةً من الموسيقا، وتفتحَ فمَها لتقولَ لي ضاحكةً (مرحبا…. ) فيتهَلّلُ وجهي.. إذن.. سمَحَتْ لي هذه الشاشة الصغيرة، بالدخولِ من نافذةِ روحِها الصّنعيّة، التي أنتجَها العقلُ البشريّ، منذ عدّة عقود.. استطعتُ التواصُلَ بواسطتها مع العالم أجمَع، عن طريق (الأنترنيت) ومؤخّراً (الفيسبوك) و (اليوتيوب) لأعَبّرَ من خلالها عن ذاتي.. وأعرفَ الآخرين أكثر.. من خلال التواصُلِ الحَذِرِ معهم.. لأنّ هذه الشبكة العنكبوتية من صُنعِ التكنولوجيّين العالميين، الذين قد يستخدمون التكنولوجيا للسيطرةِ على الآخرين، بعدَ الإحاطةِ بكلّ المعلوماتِ عنهم، وإيهامِهم أحياناً أنهم غيرُ مُراقَبين.. فليُعَبّروا عَمّا يريدونَ، عبرَ (شَبكةِ التواصُلِ الإجتماعيّ) (الفيسبوك) والتي يُقالُ أنّ مالِكَها، أو صانِعَها أمريكيّ يهوديّ صهيونيّ.. وبأنّها (أضخّم شركةِ تجسّسٍ في العالم)..!! لكن – حَسبَ رأيي- لها فوائدُها، ومَضارّها.. مثل كلّ الصناعات في العالم.. يستطيعُ المُدرِكونَ لخفاياها أن يستخدموها ويوظّفوها لخدمةِ الإنسانية.. كما لفنائها.. أو لخدمةِ مصالحِهمُ الشخصيّة…… وهكذا….!!
منذ ساعة، أيّ، في الواحدة ظهراً، جاء التيارُ الكهربائيّ.. واشتغَلتِ الغسّالة الآليّة التي كنتُ قد وضَعتُ فيها (وَجبَةَ) غسيلٍ مُلَوّن.. واشتغَلَ البرّادان، الكبير، والصغير الذي أهدَتني إياهُ الغالية الحبيبة أختي، منذ عِدّة أعوام، لأستخدمَهُ في (المَحَلّ) (المكتبة).. والآن، أضعُهُ في غرفة النوم..
الساعة الواحدة ظهر الجمعة 12/7/2013م
الساعة الآن الثانية إلاّ سبع دقائق بعد ظهرِ الجمعة..
تركتُ الكتابة قبل قليل، واتصلتُ بصديقتي الغالية المهندسة.. لم أجدْها في بيتها.. اتصلتُ بالغالية (نهى) أجابَ زوجُها.. وبعدَ أن تبادَلنا التهنئة بقدوم الشهر الفضيل، والأمنيات والدعاء أن يُعادَ علينا وعلى كلّ الطيبينَ في العالم، وعلى هذا الوطنِ الأغلى، بالصحة والعافية والسلامة والسلام والأمان.. نادى زوجتَه.. جاءتْ (نهى) تبادَلنا المحَبّة، والهمومَ الخاصّةَ والعامّةَ، الصحّيةَ، والنفسيةَ، والإجتماعية، والحالة العامّة في الوطن.. أخبَرَتني أنّ (إبن الأستاذ محمد غانم) استُشهِد.. أذاعوا اليوم في الجامع عن خبر استشهاده (متزوّج، ولهُ ثلاثة أولاد.. زوجته من وادي العيون.. هو ضابط في الجيش والقوّات المُسَلّحة العربية السورية ) قالتْ: لم يقدروا عليهِ في كلّ المحافظات.. كان بطلاً.. ألله يرحمه.. وإنسانيّاً جداً.. إلى أن استهدَفوهُ في (تلّكَلَخ)..
جاءَ زوجي.. دخلَ البيت.. بَدّلَ ثيابَهُ في الغرفة الشماليةِ، وخرَجَ إلى الشّرفة.. جلسَ في ظلّ شجرةِ الكينا العاليةِ الوارفة.. كنتُ بعدَ انتهاء مكالمَتي مع جارتي، أتمشّى ضمنَ البيت، وأنا أشتغلُ الصوف.. (الإسلام السياسيّ، هو عدوّ الإسلام الحقيقيّ.. الحوار هو الحَلّ.. لماذا لا يتكلّمونَ عن أحداثِ (حَماه) في الثمانينات..؟! مَن تبقى لديهِ أحقادٌ من الثمانينات، كيفَ تجلسُ معهُ على طاولة الحوار، وهو مايزالُ حاقداً منذ ذلك الوقت..؟! تُفتَحُ خلالَهُ كلّ الملفّات، لتظهَرَ الحقائقُ كما هيَ.. يتوَضّح الخطأ من أيّ طرَفٍ كان، يا (أستاذ طارق) لم يبدأ الحوار.. الحوار الوطني بمَن حَضَر.. (لجنة مُتابعة الحوار الوطني.. ليس بالشأن السياسي فقط.. بل، في المجال الإقتصادي، والإجتماعي.. وكلّ شيء.. اجتمَعَت.. للتحضير للحوار.. الحوار عمليّة استمرارية في دمشق وفي كلّ المحافظات.. ينحكي بكلّ الأخطاء.. ويُنقَل على الهواء مباشرةً ).. هذه مُقتَطَفات ممّا يدورُ بينَ المُذيعة في التلفزيون العربي السوري (الفضائية السورية) و ضيفها (المحلل السياسي)..
(حلب تتعرّض لحِصار حقيقي من كلّ النواحي….) (أنا مع تسيير القوافل التي تسمّى (SNj) ..) ( أنتَ مع معركة الرأي العام ) (الرأي العام مع الدولة، وليس مع النظام..) (برأيكَ، لم يعرف الرأي العام ماذا يجري في حلب، لحدّ الآن..؟! – لا………… ).. يركّزون على ما يحصل في حلب. يُطالبُ المُحاوِرُ أن يحكي أهل “حلب” عمّا يجري في مدينتهم.. كي لا ندَع للقنوات المُغرِضة تشويهَ الواقع.. هذه مسألة تراكُميّة.. (كلّ إنسان الآن داخل سوريا، هو مُقاتِل.. هو عُنصُر صمود..) (حلب، الآن مُحاصَرة..).
(نسبة القنْص على بعض الأتسترادات 90%.. هل يسألُ القَنّاصُ: هذا مُوالي.. وهذا مُعارض..؟! ) (هم يريدونَ قَتْلَ الحياةِ في سوريا.. )
كلّ هذا ممّا يجري من حِوار على شاشة (الفضائية السورية) بين المُذيعة، والمُحاوِر.. السيد (طارق…)
_________________________________________________________
اليوم، يا أمي، أحضَروا جُثمانَ الشهيد البطل العَقيد (نضال محمد غانم سلمان) سمعتُ من بيتنا – بيتكم – أصواتَ الرصاصِ الناعي..
كنتُ قد طلبتُ تاكسي من بيتكم –بيتنا – صباحاً، وذهبتُ إلى المركز الثقافي، لأحضِرَ رواية (قصّة موت مُعلَن) للكاتب الكولومبيّ المعروف (غابرييل غارسيّا ماركيز).. انتظرَني السائق، حتى أحضَرْتُ الكتابَ من مكتبةِ المركز، ثمّ أقَلّني إلى عيادةِ صديقتي.. وصَلتُ قبلَها بعِدّة دقائق.. كانت الساعةُ حوالي التاسعة والنصف صباحاً.. كانت تنتظرُها مَريضة.. وكانت مُتعَبة، وعليها أن تذهَبَ إلى المَشفى، لأنها مُناوِبَة.. شربتُ عندها كأساً من الشاي الأخضر، كنتُ قد أحضَرْتُ وَرقاتَهُ الخضراء معي.. اتصَلَتْ معي الغالية (يارا) بنت أخي، وطلبتْ مني أن أحضَرَ إلى بيتهم، لتراني وأراها.. أمس، حَضَرَتْ من (دمشق) إجازة لعِدّة أيام.. فطلبْتُ تاكسي مرّةً ثانية، وطلعتُ إلى بيتهم..
كانَ أخي موجوداً هو و (يارا) وأختُها وزوجُها.. زوجتُه كانتْ في تشييعِ الشهيد (رحمهُ الله)..
أمس، كنتُ أنشُرُ الغسيلَ غربيّ البيت.. ناداني زوجي:
-يتكّلّمونَ معَكِ من (دمشق)..
-مَن..؟!
-تقولُ أنّ اسمَها (ميساء يونس)..
-المُذيعة..؟!
-لا أعرف.
استفسَرْتُ منَ المُتصِلة :
– هل أنتِ المُذيعة..؟!
قالت : – نعم..
أخبَرَتني أنها تقدّمُ برنامَجاً اسمُهُ (وَقفة مع كتاب) يقَدَّمُ عَبْرَ (إذاعة صوت الشعب) فقط، في رمضان، الساعة الثامنة والربع مساءَ كلّ يوم.. وهو برنامَجٌ جديد، يهدفُ إلى المُساهَمةِ بتشجيعِ الناسِ على القراءة.. وأنها أخذَتْ رقمي من ابنةِ صديقتي، التي عَرّفَتها عليها زميلتُها..
فاخترْتُ كتاب (داغستان بلدي) للكاتب الداغستانيّ المَحبوب (رسول حمزتوف) لكنني – في اليوم التالي – عندما اتصَلَ بي المُخرِج (حكمت الشيخ بكري) كنتُ قد استبدَلتُهُ برواية (قصة موت مُعلَن) للكاتب الكولومبيّ (غابرييل غارسيا ماركيز).. لصغرِ حَجم الرواية.. ولسهولة استعادةِ أحداثِها، ولأهَمّيتِها أيضاً..
_________________________________________________________
واستُشهِدَ (أحمد)…
أخبَرَتني زوجةُ أخي، على الهاتف..
بكيتُ.. بكيتُ…
نزلتُ إلى عند أهلهِ، وزوجته، التي كانت تجلسُ على سريرِهِما المُزدَوج، وفي حُضْنِها طفلةٌ صغيرةٌ، لا أظنها أكمَلتِ العامَين.. وفي السريرِ الصغيرِ، إلى جانبها، طفلةٌ أخرى حديثةُ الولادة..
هل رأيتَ طفلَتَكَ الثانية، يا أحمد..؟!
لا أظنّ، يا حبيبي..
اتصَلْتُ على رقمِكَ الخَلَويّ.. يرنّ.. يرنّ.. يرنّ…. ولا مُجيب…….!!
أينَ ترقُدُ الآنَ يا أحمد..؟! في بَرّادِ أيِّ مَشفى يا حبيبي..؟! (تشرين العسكري) في دمشق..؟! أم في (إبن النفيس) الذي تعمل فيه أختُكَ كمُمَرّضة..؟! اتصلتُ بها.. أجابَتني ابنتُها.. قالتْ أنهم في (المريقب).. لم أرَها عندما ذهبتُ هذا الصباح إلى بيتكم ياغالي.. رأيتُ إخوتَكَ أمامَ بابِ الدار.. وبعض شباب القرية.. دخَلتُ البيت، أو، البيوت المبنيّة حديثاً.. آآآآآآآآآآه……!! كم كانَ بيتُكم بائساً، يا أحمد..!! آه…………..!!
لكن.. بعدَ أن اشتغَلتُم في (الخليج)… أحضرتَ بعضَ المال.. واشتريتَ سيارةً شاحنةً صغيرةً كُحليّةَ اللون.. واشتغلتَ بأعمالِ البناءِ، والدّهان.. إلى أن استطعْتَ إكمالَ بناءِ بيتِكَ الصغير، ياغالي.. وعندها قرّرْتَ أن تتزوّج.. أحبَبْتَ فتاةً بسيطةً فقيرة من (شريجس) وعندما أخبرتَني بذلك، أرسَلتُ لها معكَ بعضاً من رواياتي، لتقرأها.. لكنّكَ أخبرتَني أنها لا تهوى القراءة.. قلتُ لك : المهمّ أنني أهدَيتُها لها لأنها تحبّكَ، يا أحمد.. وكنتَ قد أوقَفتَ سيارتَكَ الشاحنةَ بعْدَ القريةِ بقليل، كنتُ نازلة سيراً على الأقدام إلى السوق.. قلتَ لي: تفضّلي.. كم كنتُ سعيدَةً برؤيتِكَ ياغالي..!! سألتكَ إن كانتِ السيارةُ لك، فأخبرتني أنكَ اشترَيتَها، ومازالَ عليكَ الكثير منَ الدّين، لكنكَ تعمل بالدّهان، لتؤمِنَ باقي ثَمَنَها، وتكملَ بناءَ بيتِكَ الصغير.. وأخبرتني أنكَ تحبني جداً، وأنكَ لا تنسى كم كنتُ لطيفةً معكَ، في طفولتِك.. ترَحّمنا على الغالية (فَهيمة) أختكَ التي كنتَ ترافقُها دائماً، كأنكَ قِطٌّ صغيرٌ يرافقُ صاحبتَة.. وضحكنا.. أنزلتَني في السوق.. وحلّفتني إنِ احتجتُ شيئاً من السوق (الشيخ بدر) أو، احتجْتُكَ لأيّ شيءٍ بإمكانكَ عمَله ( -أمانة.. لا تترَدّدي في طلَبي.. أنا بالخدمة.. اعتبريني ابنَكِ..).. لي الشرَف، ياغالي..
حبيبي.. يا أحمد.. ألله يرحم روحَك يا حبيبي..
دَعَوتُ اللهَ أن تكونَ استُشهِدْتَ فوراً، دونَ أن يخطفوك، ودونَ أن يُعَذّبوك، ودونَ أن يجرَحوا جَسَدَكَ الغَضّ الطريّ الجميل، يا أحمد.. تمنّيتُ ألاّ تكونَ قد تألّمْتَ قبلَ استشهادِك..
آآآآآآآآآآخ.. يا أحمد…!!
أمّكَ البائسة المريضة العجوز الهزيلة الشاحبة، كانت تجلسُ على يمينِ بابِ بيتهم الصغير الحديث، المُقابل لبيتكَ المُشابه، من جهة الشرق (الرّوَيسة).. عَزّيتُها، وأنا أبكي بمَرارةٍ حارِقة.. كانت عدّةُ نساءٍ تجلسُ في غرفةِ زوجتك، التي تطلبُ ألاّ نعزّيها ( أحمد لم يمتْ.. لا.. لا.. ما مات.. لا تعزّوني.. أرجوكم.. لا تعزّوني.. سوف يحضرُ الآن.. والله أنا لا أستطيعُ العيشَ بدونه.. والله.. والله.. لا أستطيعُ العيشَ بدونِه…….) وتهزّ الطفلةَ في حضنِها، والوَليدَةُ تنامُ في سريرِها الصغير…
كان في الغرفة، أيضاً، بعضُ النسوة.. قالت لي إحداهُنّ : أنتِ التي كنتِ تعزّيننا، وتقوّيننا يافاطمة..!! فأجَبْتُها : والله أحبهُ جداً.. والله أحبهُ جداً..
سألتُ عن أمّكَ وأخواتِك.. أخبروني أنهنّ في بيتهم المقابل لبيتكَ، على بُعدِ أمتار قليلة.. بحثتُ عن أختكَ المَفجوعة (نجوى) كانت عيناها محمرّتان.. مَذهولتان.. غير مُصَدّقة.. قبّلتُها، وضَمَمتُها.. عَزّيتُها، وقلت : (يا أللــــــــه..!! بعدَ كلِّ دعائِنا له..؟! ) أستغفرُ اللهَ العليّ العظيم..
دَقّت لي الغالية صديقتي، وهي قادمة من قريتهم، لألاقي لها إلى أمام بيت أهلي.. لتصطحبني معها بسيّارتها إلى حيثُ أكتبُ هذه السطور (عيادتها).. قبل قليل، أذاعوا نبأ استشهادِكَ ياغالي، من مئذنة جامع (الشيخ بدر) مُعلنينَ أنّ مَوعِدَ دَفنِكَ غير معروف..!! وقبل حوالي نصف ساعة مَرّتْ جنازةُ شهيدٍ آخر من (برمانة المشايخ) قرية (مجبر).. والآن، تقرأ الدكتورة على الفيسبوك نبأ استشهادِ شابٍّ آخر من قرية (برمانة رعد).. رحمكم الله أجمعين.. وألهَمَ أهلكم ومُحبّيكم الصبرَ الجميل…
ودااااااعاً…. يا أحمد…..
في الطريقِ إلى هنا، رأيتُ مجموعةً من شبابِ القرية، ومنهم أخاك، يحفرونَ لكَ القبر..
آآآآآآآآآآآخ….. الحمد لله…
(كلُّ مَن عليها فان. ويبقى وَجْهُ رَبّكَ ذو الجلالِ والإكرام )
قبل ظهر الأربعاء 22 رمضان المبارك/31 تموز 2013م
_________________________________________________________
أخبَرَتني زوجة أخيك، ونحنُ نسيرُ مع مئاتِ المُشَيّعين والمُشيّعات خلفَ جنازتكَ ياغالي، أنكَ اتصلتَ بأخيك، وأخبَرتَهُ أنكم مُحاصَرون، وأنّ عَددَ القتَلةِ المجرمين كبير.. طمأنكَ أنهُ لا بُدّ أن تأتيكم نجدة.. لكنكَ أخبرتَهُ أنّكم قِلّة.. والمجرمون كثُر.. ويهجمونَ بهَمَجيّةٍ كبيرة.. وأخبرتَهُ أنّ عليكَ كمية من الدَّينِ هنا، وكمية من الدَّين هناك.. أوصَيتهُ أن يوَفّيها عنكَ بعدَ استشهادِك.. وأن يهتمّوا بطفلتيكَ، وزوجتكَ الصغيرة.. قالت أنّ أخاكَ أخبَرَهم أنهم كانوا يهاجمونكم من تحتِ البناية، إلى أعلاها.. حيث كنتم في الطابقِ الثالث من المبنى.. وأنهم أصابوكَ من خاصرتكَ صعوداً نحوَ كتفك، أو رقبتك، عبرَ صَدركَ الطريّ ياغالي.. هل أصابوكَ في القلبِ، يا أحمد..؟! هم عصابات إجرامية مُدَرّبَة بشكلٍ عالي.. دَخلوا هذا الوطنَ الأغلى (على غَفلةٍ، أو على خيانة ) وقال أنّ فريقَ النجدة التي قدِمَت إليكم، سَحَبوكَ، وأسعَفوكَ تحتَ وابلِ القَنص، إلى (مشفى المزة العسكري)، بعد أن بقيتَ تنزفُ ربما لساعات، قبل أن يتمكنوا من الوصولِ إليك.. وأنّ زميلَكَ (من وادي العيون) كان قد التقطَ جهازكَ الخلوي بعد إصابتك، وأخبَرَ أخاكَ أنّ إصابتكَ طفيفة، لكنهُ بعد قليل، عاد وأخبَرَهُ أنكَ استُشْهِدتَ ياغالي..
فجرَ يومِ الأربعاء الثلاثين من تموز 2013م
حِرمانٌ في الحياة.. ثمّ حِرمانٌ مِنَ الحياة، يا أحمد…!!
دفنوكَ اليوم يا حبيبي بعد الظهر بقليل..
رحمكَ الله.. إلى جِنانِ الخُلدِ، أيها البطل..
______________________________
الجزء التاسع من (إلى اللقاء يا أمي )
_________________________
اليوم هو الأربعاء الثامن والعشرين من آب 2013م..
منذ يوم أمس، والعالَمُ يترَقّبُ عُدواناً أمريكياً مُباشِراً على سوريا، بتأييدٍ من الدّوَلِ الإستعمارية، وفي مُقدّمَتِها ( تركيا والكيان الصهيونيّ) بحِجّةٍ باطِلة، أنّ (قوّات النظام) أي (الجيش العربي السوري) قد ضَرَبَتِ المواطِنينَ بالأسلحة الكيماوية (غاز السارين)..!!
أجلسُ على الشرفةِ الغربيّة من بيتنا – بيتكم، يا أمي.. قلتِ لي أنني وُلِدْتُ في (بيت الوسطاني) عند مطلعِ فجرِ يوم الأربعاء الرابع عشر من تشرين الأوّل عام 1953م، الموافق للسادس من صفَر عام 1373هجرية.. كما دَوّنَ عمي الغالي (علي ) في دفتر يومياتهِ الصغير.. وهو عبارة عن مفكّرة صغيرة اقتطعْتُ منها الورقة المدوّن عليها تاريخ ميلادي، وغير ذلك.. (اليوم وُلِدَت لأخي ابنة.. جعَلَها اللهُ من أبناءِ الحياة).. كان ذلكَ بعدَ وصولكم من الأرجنتين أنتِ والغالي أبي والغالي أخي بخمسةٍ وعشرينَ يوماً..
أظنّ أن مَوقِع (بيت الوسطاني) هنا، حيث أجلس، أذكرهُ كالحُلُم، كانت لهُ (بَوّابة) من الشرق، مُقابل دار (بيت الشرقي)..
هل هذا هو سرُّ شعوري بالدفءِ والأمان، هنا في هذا المكان، أكثرَ من أيّ مكانٍ في العالم..؟! أم أنهُ الوطن..؟! هنا خُلِقْتُ.. وهنا ترَبّيتُ.. لعِبتُ مع الأطفال في (الدّوّارة) هنا، أمامَ بيتنا في وسط (المريقب) وفي (الزاروب).. وعلى (الرّوَيْسة) وعلى (بيدَر الضيعة) الذي بُنيَتْ على أنقاضِهِ مَدرسةٌ ابتدائيةٌ، منذ سنوات.. في (الحاكورة) مكان بيت أخي، الحاليّ، حيث كنا نلعبُ أنا وإخوتي وبعض الأطفال تحتَ دالية (قلب الطير) وكانَ غصنٌ طويلٌ ثخينٌ منها يتفرّعُ بشكلٍ شبه أفقيّ ليصِلَ إلى أعلى شجرةِ التوتِ الكبيرة، التي كانت تستقيمٌ بشموخٍ بموازاةِ أخواتها في أوّلِ، وعلى جانب الطريقِ التي تصلُ (المريقب) ب (الأندروسة).. كانَ الغصنُ يشكّلُ في وسطهِ حَرف سبعة (7) تسمحُ لنا بامتطائهِ، والتأرجُحِ فوقهُ، والقفزِ من فوقِهِ.. نتشبّثُ بالغصنِ المَرِنِ المتأرجحِ، ونقفزُ من تحتهِ بعِدّةِ سنتمترات.. نُدخِلُ رؤوسَنا الصغيرة بينهُ وبينَ ساعِدَينا المُتمَسّكَينِ بالغصنِ بقوّة، ونقفزُ بالمقلوب.. ونرتمي على الأرضِ واقفينَ، على الأغلب.. في مباراتٍ رائعة، تُسعِدُ قلوبَنا الغضّة.. وتمرّنُ عضلاتنا ومفاصلنا وعظامَنا على التأقلُمِ والتكيّفِ مع طبيعةِ الجبالِ التي نعيشُ فيها.. أحياناً يسقطُ أحَدُنا من فوقِ الغصنِ، و (ينفشخ) ويسيلُ بعضُ الدمِ من رأسِهِ من خلالِ شَعرهِ الكثيف.. فيبكي قليلاً.. وهو ذاهبٌ إلى أمهِ لتغسلَ جرحَهُ بالماء.. ثم تدهنهُ ب(الدوا الحمرة) وتضغط عليهِ بقطعةِ قماشٍ بيضاءَ نظيفة، تلفّها على مَدارِ رأسِهِ الصغير، وتعقدها من الخلف، حتى ينقطعَ النزيفُ ويشفى الجرحُ بعد عدّةِ أيام.. وأنّ البعضَ كانت تُكسَرُ يدهُ.. أو ساعده، نتيجةَ تلكَ القفزات..
على البيادر، كنا نحلمُ أن تسمحَ لنا جَدّتي (أم صالح) أو عمتي (ندّة) أو (آمنة) أن نجلسَ على (المرج) الذي تجرّهُ بقرتانِ، أو ثورانِ، أو حماران.. يدورانِ فوقَ الزرعِ المَشرورِ بشكلٍ دائريّ على البيدر، دَوراتٍ عديدة.. حتى تفَتّتَ البحصاتُ المُثبّتة في أسفلِ (المرج) أغصانَ الحنطةِ، أو الشعير، أو (القطانة) .. الحمّص.. أو العديس.. أو الجلبانة.. أو الكرسَنّة.. وغيرها من البقول.. وعندما تصبحُ أغصانُ الزرْعِ ناعمةً (تبن) تنفصلُ عنها الحُبوبُ.. فتُذَرّى تلالُ (التبن) وتُفصَلُ عنها (القَصْرينة) الخشنة، وتُجمَعُ الحبوبُ فوق البيادرِ، وتُنقَلُ على ظهورِ الدوابّ في (عُدولٍ) منَ الخَيشِ، حيثُ تفرَّغُ داخلَ البيوتِ الطينيّةِ، المُطَيّنة حديثاً.. فوق (السيباط) في كلّ بيت.. أو على الأسطحة.. وتغربِلُها النسوة ب (المَسْرَد) ثمّ ب (الغربال) من (العَين الواسعة) إلى (العَين الضيّقة) ثمّ تُنَقّى الحبوبُ من الحصى الصغيرة، ومن الحبوب الأخرى الناتجة عن الأعشاب الضارّة.. و (تُصَوّلُ ) الحنطةُ المُعَدّة للسلَلْقِ.. كل عائلة حسبَ حاجَتها السنوية من (تنكات) الحنطة (البلَديّة) السمراء، أو (الطليانية) الفاتحة، لتحويلها إلى (برغل).. فتُسلَقُ في (مَرَدّات) من (قَصّات البراميل) الحديدية.. توقَدُ تحتها أغصانُ الأشجارِ اليابسة، و (قرامي) الحطب الجافّة، وتُشوى على جَمْرِها بعضُ (عرانيس) الذرة الصفراء.. وتؤكَل.. وبَعْدَ السّلقِ، تُرفَعُ الحنطةُ المسلوقةُ من الماءِ الغالي، لتوضَعَ في (قَفِف) مَصنوعة يدوياً من أغصان الريحان (الآس) المُتداخِلة، فتُصَفّى من الماءِ، ثمّ تُرفَعُ إلى الأسطُحِ، على الأكتافِ.. تصعَدُ المرأةُ أو الرّجُلُ وهم يحملونَ (القفّةَ) على دَرَجاتِ سُلّمٍ خشبيّ، حتى تُصبِحَ أكتافُهم مُوازية للسطح، فيتناوَلُ (القَفِفَ) بعضُ الشباب، أو الرجال، ويفرشونَ الحنطةَ المسلوقةَ الحارّةَ، فوقَ أرضِ الأسطُحِ المُطَيَنةِ بعنايةٍ، بالترابِ الأبيضِ الناعمِ، وتُترَكُ لتجفّ تحتَ أشعّةِ الشمسِ، عدّةَ أيام، تُحَرّكُ كلّ يومٍ عدّةَ مرّاتٍ، بواسطةِ الأقدامِ المَغسولةِ جيداً، لتجفّ بسرعةٍ أكبر.. فترتسمُ دُروبٌ رائحَةٌ، وغادية فوقَ الحنطةِ المَفروشة..
كم كنتُ أستمتعُ (بتحريكِ السّليقة) أو (البرغل)..!!
كانتِ الحنطة الجافة تُجمَعُ في (عُدولٍ) من الخيشِ الأسمر، وتُحَمّلُ على ظهور الحميرِ، بعدَ رَبطِها بقوّة، وتؤخَذُ إلى (طاحون الشيخ) عند (نهر البلّوطة) أو (طاحون الشيخ بدر) عند (نبع الحلو).. فتُجرَشُ، وتُعادُ بنفسِ الطريقة، إلى البيوتِ، وتُرفَعُ إلى السطوحِ، وتُشَمَّسُ بنفسِ الطريقةِ، ثمّ يُنقّى (البرغل) مرّةً ثانية، ويُنَخَّلُ، حتى يُفصَلَ البُرْغُلُ الناعمُ، عن البُرْغُلِ الخشِن.. ولكلٍ استعمالاتُهُ الخاصّة..
( المسارد) و (الغرابيل) و (المناخل) كان أهلُ القريةِ يشترونها من (الرّيّاس)..
_________________________________________________________
كانت (المريقب) عبارة عن عِدّة حارات.. (حارة الضهر) مؤلّفة من ثلاث بيوت.. (بيت الشيخ محمد علي اسميعيل) و (بيت الشيخ محمد صالح) و (بيت الشيخ ياسين سلامي)…… و.. (حارة بيدر الخاليّة) فيها (بيت الشيخ علي عبد اللطيف سلامي).. و.. (بيت علي هاشم ونوس) وعلى سفح (بيدر الخاليّة) كانت هناك عدّة صناديق حجَرية مبنيّة فوق قبور.. وفيما بَعد، بُنيت فوق القبور، قِبّة.. وصارت تُدعى (قِبّة الشيخ عبد الرحمن سلامي).. وعلى ارتفاع عِدّة أمتار، من الغرب، كانت هناكَ عِدّة بيوت (بيت محمد ديب العجي) و (بيت علي محمد ديب العجي) و (بيت عزيز محمد ديب العجي).. وفوقها بِعِدّة أمتار، (بيت الشيخ علي حسَن عبد الرحمن سلامي) و (بيت كامل حسَن عبد الرحمن سلامي ) و فوقها (بيت جَدّي الشيخ سليم صالح صالح).. وبقايا (مْصِيف).. و (بئر ) و قربَهُ (جرنٌ ) حجَريّ أسود، ذو حَوضَين بعُمقِ حوالي متر.. وعَرضٍ مشابه.. كانَ أحدُ الحَوضَينِ مكسوراً.. والحوضُ الآخرُ صالحاً للإستعمال.. وفي أعلى قِمّةِ الجبَل (جَبَل المريقب) أو (ضهر المريقب) تترَبّعُ عِدّةُ قبورٍ، أقدَمُها قبر (الشيخ محمد ال بالضهر ) مَبنيٌّ فوقَهُ صندوقٌ حَجَريٌّ رماديُّ اللون.. ومؤخّراً بَنى أحَدُ المُغترِبين (الشيخ يحي عبد الرحمن سلامي ) فوقَ القبرِ، قُبّةً إسمنتيّة.. وهي عبارة عن غرفة واسعة تحوي القبور الموجودة هناك.. ويمكنُ للمُصَلّينَ أو الزوّارِ، أن يدخلونها ويُصَلّونَ فيها.. ويوقِدونَ البَخورَ.. ويقرؤونَ القرآن.. ويدعونَ اللهَ العَليّ القديرَ، أن يُحَقّقَ لهم ما يرجونهُ من خير.. لهم، ولأحِبّتهم، ولكلّ الناسِ الطيّبين..
كانتْ هناكَ، أيضاً (حارة المْحَطّة) وفيها (بيت علي حَبيب حَسِن) و (بيت محمد سلمان اسميعيل) و (بيت عَليا مرت علي محمود سليمان حَمّود) الذي بناهُ لها ولأولادهما، زوجها بعدَ أن تزوّجَ امرأةً ثانية، وسكنَ في (الأندروسة).. و (حارة بيت خَضّور) وفيها (بيت محمود عيسي خَضّور) و (بيت سليمان سْعيد خضور) و (بيت محمد سليمان سْعيد خضور) و (بيت علي أحمد سْعيد خضور) و (بيت محمود علي اسميعيل ).. و (حارَة بيت زرّوف) وفيها (بيت جوهْرة القرحيليّة) و (بيت أحمد علي زرّوف) و (بيت عبد الرحمن زرّوف) و (بيت الشيخ سلمان غانم محمد) و (بيت خالي الشيخ محمد ابراهيم عباس) وبَعدَها باتجاه الشمال (حارة بيت القرحيلي) وفيها (بيت أحمد القرحيلي) و (بيت محسن القرحيلي).. ولنعُدْ قليلاً نحوَ الجنوب، إلى قربِ (بيت خضور) و (بيت زرّوف) وعلى مَرجٍ، يترَبّعُ (جامع الشيخ علي سلمان المريقب) وعلى تَلّةٍ صغيرة غربيّ الجامع، مَقبَرَةُ الرجال، التابعة لقرية (المريقب).. أما مقبَرةُ النساء، فهيَ أقرَبُ إلى مَركَزِ القرية (المريقب) على ورْكِ (جَبَل المريقب) تحت (بيدَر الخاليّة) في منطقة تُدعى (الرّامة) لكونِ (رامَةٍ) من الماءِ كانت تتجمّعُ شماليّ المقبَرة.. في أسفلها نبعٌ ماءٍ ضَحْل.. كانتِ (الرّامة) تتجلّدُ في الشتاء.. وأحياناً يكونُ الجَليدُ سميكاً جداً، لدَرَجَةِ أننا كنا نحن تلاميذ وتلميذات الصفوفِ الإبتدائيّة، (نتزلّجُ) فوقها.. ونحاولُ تكسيرَ الجليدِ السميكِ الذي يُغطّيها، بالحِجارة، بكلّ ما أوتينا من قوّة.. أتذكّرُ أخي (اسماعيل).. عندما كانَ يَجْهَدُ في تكسيرِ جَليدِها، ونحنُ نازلونَ إلى المَدرسة، يحملُ كلُّ طفلٍ منا (قِرمة) حَطَب، للتدفئة على مدفأة الحطب في المدرسة.. أحياناً تفلتُ (القِرْمَةُ) من أيدينا الصغيرة (المُكَرْفِحة) من البرد…. كانت هناكَ، أيضاً (حارَةُ الصّفحة) تحت (حارة الضهر) من جهةِ الجنوب.. كانَ فيها بَيتان (بيت خالي الشيخ ابراهيم ابراهيم عباس) و (بيت علي محمد عباس).. والحارة الأمّ في (المْرَيْقِب) كان بيت أهلي، وما يزال، في مَرْكَزِها.. على جانبهِ من الجنوب (بيت علي ابراهيم اسميعيل) ومن الجنوب الشرقي (بيت حبيب حسن/السْكيف، وزوجته جوهرة) و (بيت محمد حبيب حسن/السْكيف) وكان أمام بيتهم من الجنوب (مْصيف بيت حبيب) وفوق (بيت حبيب) من الشمال، كان، ومايزال (بيت أهلي.. بيتنا.. بيت الشرقي) الذي كان لجدّي أبو أمي (الشيخ سليمان صالح صالح.. وزوجته، وطفلهُ الذي لم يرَه) ومقابل (بيت الشرقي) مَنّ الغرب، كان هناك (بيت الوسطاني) الذي وُلِدْتُ فيه.. وكان لجَدّي (الشيخ محمد صالح صالح، وزوجته حَبّوب، وابنتهما الوحيدة، عمّتي خديجة) و بَعدَه باتجاهِ الغرب (بيت الغربي) وهو بيت جَدّي (الشيخ علي صالح صالح، وزوجته، (قنوع عبد الرحمن سلامي)، وابنتيهما ستّي سَعدة، وفضّة زوجة محمود علي اسميعيل، وابنهما الوحيد، يحي علي صالح) الذي تزوّجَ ابنةَ عَمّه(عمتي خديجة) ورُزِقا طفلة لم تعش سوى عِدّة أشهر.. توفيَ أبوها بعدها.. وبقيتْ (عمتي خديجة) و أمها (أمّي حَبّوب) محتميتانِ بكَنَفِ جَدّي (الشيخ سليم) إلى أن تزوّجَتْ (عمتي خديجة) من (الشيخ علي حسن ) الأرمل، الذي عندهُ عدّة أبناء وبنات، وهو من قرية (بْجَنّة) في الجرد..
أمام بيت أهلي، من الشمال.. كانت، وما تزال (الدّوّارة).. و(بيت ابراهيم علي حَسِن”الإسكافيّ”) شرقيّها.. وكان (دُكّانهُ) مقابل (الدّوّارة) من الشرق.. وبينهُ وبين بيتهم، كان هناكَ دارٌ واسعة، فيها بئرٌ خاصّ لهم، عليه (طْرُمْبة) يخرجون الماءَ منهُ بواسطتها.. وتحت (بيت ابراهيم) من الشمال (بيت اسميعيل خضور، وابنه الوحيد”ابراهيم” وزوجته الأولى “مَريِم” التي أنجَبَتْ لهُ ثلاث بَنات “سْعَيْدِة” و “مَرّوش” و “فاطمة”..).. أمّا (الزّاروب) الذي يتخلّلُ القرية من وسَطِها، فكان، ومايزالُ يبدأ من بين بيت أهلي وبيت ابراهيم.. مُتّجِهاً نحوَ الشرق.. مارّاً خلفَ (بيت الشرقي) على يمينهِ (بيت كامل غْبيسو – ونّوس) وله أخ (أحمد غْبيسو – وَنّوس) يسكن بيتاً منفرداً، بين (عين شْعات) و (المْغَيْسِل)…… و (بيت محمود سليمان حَمّود) وعلى يسارهِ (بيت أحمِد العجي) و (بيت حْسان العجي).. وعلى يمينهِ أيضاً (بيت حَسِن) و (بيت عباس حَسِن) و (بيت عزيز حسِن) وبيت أمّهِما الأرمَلة (كَلتوم) وابنتُها (حَفيظة).. وجَدّتهما التي كنّا ندعوها (ختيارة بيت حَسِن) .. ومن يسار الزاروب أيضاً (بيت محمد حَسِن العجي، وزوجته سليمَة) و (بيت محمود محمد حَسِن العجي).. ومن يمين الزاروب، أيضاً (بيت جدّي الشيخ أحمد غانم محمد، وزوجته فضّة) ومن يسار الزاروب أيضاً (بيت ابراهيم علي حْسان، وابنه صالح ابراهيم علي حسان “صالح ديبة”).. تليه (الرَوَيْسة).. تلكَ التلّة الخضراء الذي يتربّع فوقها صندوقُ قديمٌ لوَليّ صالح (الشيخ سلمان) وحَولهُ عدّة قبور.. وتحتَهُ من جِهةِ الجنوب، شرقيّ (بيت الشيخ أحمد غانم) هناكَ مقام (الشيخ جمعة) وحَولهُ عدّة قبور، أيضاً.. وقد بُنيَتْ فوقهُ قُبّه.. وهي عبارة عن غرفة مطليّة باللونِ الأبيض، تضمّ القبور، لها سقفٌ من قُبّةٍ خضراء…
لنعُدْ إلى غربيّ بيتنا – بيت أهلي..
هناكَ (بيت يوسف محمد عباس) وغربيّه (بيت كامل محمد عباس) وغربيّه (بيت جدّي الشيخ سليمان صالح،وزوجته” كفى” من “القليعات” ) وفوقهُ (بيت علي سليمان صالح) وتحت بيت علي سليمان، من الجنوب (بيت جدّي الشيخ عباس أحمد عباس).. شرقيّهُ (بيت محمد عباس أحمد عباس، وزوجته كاملة سلمان غانم محمد).. وفوقهُ من الشمال، كانت هناكَ غرفة كبيرة، قديمة “بيت” تسكنُهُ (ستّي أم عباس) (حْمامة) وهي أمّ (ستّي أم صالح) أيضاً.. ثمّ.. (بيت علي ابراهيم اسميعيل) من الشرق.. وتحتَ القرية من الجنوب كان (بيدَر الضّيعة).
***********************************************
ما رأيُكِ، أن نقرأ بعضاً من مشروع رواية لم تكتمل، كنتُ قد كتبتُها عام 2007م، ثم ألغيتُها، وكتبتُ ( مجنونةُ الخصيبة )..؟؟!
أعرف أنكِ ترغبين… فطالما كانت تمتعكِ كتاباتي..
هيّا .. يا غالية ..أخبريني عندما تمَلّين..
( سألتني:
– كيف أصِل إليهم..؟!
أجبتُها:
– سيري نحوهم..ولابدّ أن تصِلي..
قالتْ:
– أنتِ دائماً حالِمة..
قلتُ:
– وما العيب في ذلك..؟!
ردّتْ بنزق:
– الأحلامُ أوهام..
أجبتُها بصوتٍ مرتفع :
– بل هي مُقَدّمةٌ للواقع.. )
– مَلَلْتِ، يا أمي..؟!
– مَلَلت..!! اقرئي.. اقرئي..
-يا الله..
( – روتْ لي/ حبيبة/.. أحاديثَ.. عادية.. بعضها ممكن.. وبعضها يحمل من الغرابة الكثير.. لدرجة أنكَ لو سمعتَها.. قد لاتصدّقها..
لكنها تنفعلُ بشكلٍ عنيف..عندما تراني أشكّ بما تقول..
لذلكَ.. كثيراً ما ألتزمُ الصمتَ.. كأغلب النساء في بلادي.. وأدّعي الموافقة.. وأنني أصدّقها كما تصدّق أية امرأة أحاديث الرجال..أو كما يدّعي الأبناء /المطيعون/أمام آبائهم..أنهم مقتنعون بما يُملونه عليهم من أوامر..ونواهي..أو كمايدّعي أيّ مقموع..أمام أية سلطة قامعة.. موافقته.. بل إذعانه لمطالب هذه السلطة..المتسلّطة..هي تُملي فقط.. وعلى الآخرين الإمضاء.. والموافقة../دون شروط مُسْبَقة/..أي دون سماع الرأي الآخر..أو بالأحرى عدم الاعتراف بحقيقةٍ بديهيّة طبيعيّة..هي ببساطة.. حقّ الآخر..أياً كان هذا الآخر.. بالوجود.. والتعبير عن ذاته.. وخصوصيّته.. وفرادته..التي لا تنفي.. ولا يمكن لها أن تنفي الآخر..الموجود بالقوّة الطبيعية.. قوّة الحقّ..
والتي لاتقبل الاعتراف بحقيقة موضوعيّة..أن لكلّ إنسان.. خصوصيّة فرديّة.. تختلف عن خصوصيّة الإنسان الآخر..اختلافاً يُثري الحياة.. ويمنع عن الناس جميعاً..الشعور بالملل والعُقم..نتيجة التشابُه..والنرجسيّة..الناتجين عن الاستبداد..والتسلط..ومحاولة إلغاء الآخر..
أوافقها مُرْغمة..ولا أتعِبُ نفسي كثيراً لأستقصي صِدقها..أو عَدَمه..لذلكَ أبقى مُتفرّجةً سلبيّة..أنفعل بما أسمع..أو أرى..ولا أفعلُ شيئاً..
كانتْ جدّاتنا../رحمهُنّ الله/.. يُرَدّدنَ دائماً هذه المقولة../ألله يستر.. من حُكم المحكوم../..
فالمَحكومُ بالصمت..لا بُدّ – مهما طالتْ مُدّةُ حُكمِه -..أن ينفجرَ صَمْتُهُ – يوماً- كما تنفجرُ البراكين.. تتحدّدُ قوّةُ انفجاركلّ بُركانٍ بمقدار الضغطِ الموجودِ داخله.. وبمقدار ما يستطيع هذا البركان أن يُحْدِث من اتساعٍ.. كوّنَه على شكل فُتحَةٍ في القشرة الأرضيّة.. ليقذِفَ حِمَمَهُ منها..
ولا يهمّهُ عند ما يحدث هذا الانفجار.. متى يقع ..أو أين يقعُ..أو مَنْ يُصيب..
المهمّ عندها .. أن يُفرّغ طاقته.. التي فاقتْ قدرته المحدودة بالفِطرة.. على الاحتمال .. )
(- كنتُ أقذفهُ بالحجارة..متعبةً..مرهقة..
كدتُ أسقط ..بل سقطت عدة مرات ..ونهضت..
عاد أكثرهم من مسافات متباينة..حتى ظننت أنني ربما أصبح وحدي..
كان هذا الشعور يزيد من إحساسي بالضعف والإنهاك..لكنني –رغم ذلك- كنت أتابعُ رَجْمَه ..غير عابئة ..
عصرت قلبي..نزفتْ عيناي ماتبقى من أنين وغصص حارقة..
كنت ألهث..وألهث..عندما سمعتُ حفيفَ ثوبه..
ووسط نصف التفاتة..ألقى بكَفّهِ فوق كتفي..وأخذ يناولني حجراً..ويقذفُ آخر..
شعرتُ بالقوة..
– إذاً..لستُ بمفردي..
ساورني شكّ من وجوده..تباطأت يداي..
حثني:
– تابعي..أنا معكِ..
ازدادت حيرتي..
– هل من المعقول أنك مختلف عنهم..؟!
شدّ على كتفي..ومن ثَمّ..على ساعديّ..
– اطمئني..إنني صديق..
التفتّ إلى الخلف..كانوا جميعاً يتبعثرون في تفرّعات الطرق الراجعة..
تطلّعتُ نحو الأفق الأماميّ..
كادتِ الشمسُ تغرب.. ولا يزال الغولُ يستشيط.. وينفثُ سمومَه نحوَنا.. يرغي ويزبدُ كلما رأى أحداً يتراجع.. وتزدادُ شراستُه في وجهي عندما يراني وَحيدة ..
– ولا يهمّكِ.. حتى لو لم يبق أحدٌ إلا أنا وأنتِ.. سنطرده ..
شعرتُ بالقوةِ تُبعث في روحي وجسدي .. كما لم تكن من قبل..
التقطتُ حجراً أكبر.. ثم حجارة..
وحتى الآن.. لم أتعب.. )
هههههههه تعِبْتِ أنتِ يا أمي..؟!
لا عليكِ…. سأتوقّفُ عن القراءة الآن..
الجزء العاشر من (إلى اللقاء يا أمي )
__________________________
أغوصُ في تلك الأعماق، مسافاتٍ متفاوتة.. واتساعات مختلفة.. أو انفراجات.. تبدو هناك أشكالٌ واضحة.. وأخرى غائمة.. وبعضها بين النور والظلمة.. ظلالٌ، وأعشاب.. شمسٌ، وغيوم.. مطرٌ، وجفاف.. بردٌ، وقيظ.. حربٌ، وسلام.. و، بين بين.. ضياعٌ، ووجود………………….
هاهي ملامحُ شيخٍ جليلٍ، يعتمرُ لبّادةً، على رأسه، تدلّ على مرتبةٍ دينيةٍ رفيعة، يتنقلّ على دابّتهِ بين القرى المتناثرة على أكتاف تلك الجبال.. بهمّةٍ عالية.. وإحساسٍ جسيمٍ بثقلِ المسؤولية.. وبالواجب المترتّبِ عليه، في تلكَ الظروفِ العصيبة.. يرافقُ الشيخ، رجلان قويّا البُنية، إلى حَدّ ما.. يقطعان معه الدروب الضيقةَ.. المُحَصّاة.. والمُتربة.. والمُعْشبة.. وأحراش السنديان، والبلوط، وشجيراتِ الريحان (الآس )، التي تبدو فوق أغصانها الحانية، بعضُ حبّاتِ الآس (حنبلاس ) الخضراء… والتي يميلُ بعضُها إلى البياض…. يتغذّون منها ومن ثمر السنديان العتيق (الدوّام ).. حين يعضّهم الجوع.. وتبعُد المسافة بين القرى المقصودة..
على الشيخ مَهَمّاتٌ كثيرةٌ.. سيؤدّيها على أكملِ وجهٍ، قدرَ المُستطاع.. كما فعلَ آباؤهُ، وأجدادُه.. لم تكنْ تثنيهم عن أداء الأمانات، والقيامِ بالواجبات.. أيةُ ظروفٍ.. مهما قسَتْ.. أو، سهلتْ.. هي الأمانة، التي عجزتْ عن حَمْلها الجبال…!! فكيفَ يحملونها دون أن يسلّموها إلى أصحابها على أكملِ وجه..؟! ناكرينَ ذواتهم.. مُكتفينَ بالحَدّ الأدني من حقوقهم المادّية، من هذه الدنيا الفانية..
إنني أراهُ يركبُ دابّتَهُ، ويقطعُ الأحراشَ، والجبالَ، والوديان.. يرافقهُ اثنانِ من أتباعِهِ، يحرُسانه من الأعداء.. فقد كانَ قَتْلُ العُلماءِ أهَمّ عندهم بكثير من قتل الناسِ العاديين (العَوامّ ).. كان كلّما وصَلَ إلى قريةٍ،أو مزرَعَةٍ صغيرة.. يحيطُ بهِ الناسُ بالكثيرِ من السرّية.. يحاولونَ كَتْمَ خبرِ وصوله عن الناسِ البسطاء، خوفاً من إفشاءِ سعادَتهم، فلا يستطيعونَ إخفاء شعورهم بالأمان، والقوة.. والحماية.
هاهو ينزلُ عن (البغلة ) بقنبازهِ الأبيضِ، المُخَطّط بخيوطٍ من القصَبِ اللامع، مفتوح الجانبين من أسفلِ الكاحل، إلى منتصفِ الساق.. يظهرُ تحتَهُ (شنتيانهِ) القطنيّ الأبيض.. يتوكّأ على عصاهُ القويّة.. يسوّي (اللبّادة ) البيضاء التي تحيطُ برأسهِ، تتوسّطها من الأعلى دائرةٌ حمراء.. يُحَيّي المُستقبِلينَ، بصوتٍ خفيض.. يُدْخِلُهُ بَعضُ الرجالِ، (المَضافة).. بينما يقودُ أحدُ الحارسَينِ الدابّةَ، ويربطها بأحَدِ الأوتادِ، خلفَ جُدران صَمّاء. يُهرَعُ أحدُهم ليسقيها بدَلوٍ مَعدنيّ، للتوّ أحضَرَهُ من النبعِ القريب.. ثمّ يخلطُ بعضَ (التبنِ)، ببعضِ الشعير، ويديرُها فوقَ (المَعلف) أو (الجّرْفة) الخشبية.. ينتظهرها حتى تشبع.. ويحرُسُها (متل عين الرّمْدانة).. ويعتني بالسّرْجِ المُثبّتِ فوقَ ظهرها، وجَيبيهِ، من الجانبَين..
وحينَ يُنهي الشيخُ مَواعظَهُ، ويُلقي على الناسِ (العامّة) أو (العوام) بعضَ علومه.. ويستمع – بكلّ اهتمام – إلى أهَمّ المشاكل التي يعاني منها الناسُ هناك.. ويُفتي لهم بأكثرِ الحلولِ الملائمةِ لها.. ويقرأ مع بعض الرجال الآخرين الموثوقين، فاتحةَ الشباب الراغبين بالزواج (على سُنّةِ اللهِ، ورسوله ).. ويعقِدُ قرانهم على الفتياتِ اللاتي قبلنَ بهم أزواجاً.. ولا ينسى – بعدَ أن يدفعَ لهُ البعضُ زكاةَ أمواله – أن يوزّعها على أكثرِ الناسِ فقراً، وأكثرِهم حاجةً.. لأنهُ يُعتبَر بمثابة (بيت مال المُسلمين).. عندها – وبنفسِ السرّيّة – يخرجُ الشيخُ مُحاطاً بالرجال.. وبسرعةِ البرق، يركبُ (بَغلتَه) وينزلُ مع الحارسَينِ، باتجاهِ قريةٍ، أو مَزرَعةٍ أخرى.. وعن قِمَمِ التلالِ المُحيطة، يخفرُهم أقوى الرجال، وأكثرُهم أمانةً، وثقة.. حتى يختفون عن الأنظار.. داخلَ الأحراشِ.. وبين أحضانِ الوديانِ، والتلال.
_________________________________________________________
في أحدِ الأيام.. عندما كان (الشيخُ العالِم) يزورُ قريتهُ التي وُلِدَ فيها، ليطمئنّ على أسرته، وجيرانه.. ناوَلَهُ أحدُ البُسطاءِ قطعةً دائريّةً بحجم كَفّ الرجل، من (التين المُهَبّل).. (هَبّولْ تين ).. قبلَ أن يودّعَ أهلَهُ وأبناءَ قريته، على أمَلِ العودةِ بين فترةٍ، وأخرى.. حين تسمحُ لهُ الظروف.. فهوَ لم يُهْمِلهم يوماً.. لكنّ تأخّرَهُ بالقدوم، كانَ بسببِ مَشاغِلِهِ الكثيرة في قرى أخرى.
كانَ يتقاسَمُ المناطقَ مع بعضِ العلماءِ الآخرين، المُتنوّرين.. لتشملَ رعايتهم كلّ الرعيّة.. لم يَنسَ أحدُهم – يوماً – الحديث الشريف (كلّكم راعٍ.. وكلّكم مسؤولٌ عن رَعيّتِه )..
استدارَتِ الفرسُ بسرعة.. ركَلها بكَعبيهِ رَكلَتين.. قبلَ أن تندفعَ مُسرِعَةً من تلكَ الساحة الواسعة أمام بيته الذي يتوسّطُ القرية.. حيثُ كانَ يجتمعُ أهلُ قريته، التي يشعرُ فيها بالأمان أكثرَ من أيّ مكانٍ آخر.. فالكلّ، إمّا أقارب.. أو جيران.. أو مَعارف.. أو أحباب.. والقريةُ بسيطةٌ جداً، على أيةِ حال.. فهيَ صغيرة.. وبيوتُها بائسة.. مثلها مثل أغلب القرى والمَزارع.. أثخَنَتهمُ الحروب.. وألّفَ بينهمُ الظلمُ الذي لم يستثنِ أحَداً منهم.. فبنوا بيوتاً من حجارةٍ، وطين.. متلاصقة.. يتخلّلُ القريةَ (زاروبٌ) بعَرضِ أربعةِ أمتارٍ، على الأكثر.. يتيحُ للناسِ الدخولَ إلى بيوتهم،والخروجَ منها.. من الجانبين.. ويصلُ (الزاروب) إلى تلّةٍ في آخر القرية من الشرق.. اسمها (الرّوَيْسة).. حيثُ يعتلي قِمّتَها مَقامَينِ لوَليّينِ صالحَين، يرقدانِ فيهما منذ مئات السنين.. مقام (الشيخ جمعة).. ومقام (الشيخ سلمان).. وهُما من أقدَم عُلماء، ومَشايخ القرية، والمنطقة.
جميعُ أهل القرية،يعرفونَ بعضَهم.. ويتعاوَنونَ فيما بينهم.. ويتكافَلون.. ونادراً ما يُعْرَفُ فيها مُراوِغ..
لم تبتعِد (البَغلةُ) كثيراً.. كانت قد قطَعَت تَلّتينِ، أو ثلاث.. ولم يكنِ (الشيخُ العالِمُ) قد أكَلَ أكثرَ من نصفِ (الهَبّول)، حينَ شعَرَ بالمَغصِ الشديدِ، والدّوار.. وبالحاجةِ المُلِحّةِ للإقياء.. توقّفَ عن المَضْغ.. و بقدرةِ قادرٍ، توقّفتِ البغلة.. دَقّت بحافريها الأرضَ بقوّةٍ، وصهَلتْ، وفرائصُها ترتعد.. صهيلاً متواصلاً.. كأنهُ إنذارٌ بمُصيبةٍ عظيمة حَلّتْ براكبها، الذي نزلَ عن ظهرها مُتكئاً على كتفيّ مُرافقَيه.. ارتمى فوقَ الترابِ، وراحَ مافي أحشائهِ يخرجُ من أعلى ومن أسفل.. بلونهِ الأخضر المائلِ إلى السواد…
-ديروني على القِبْلة…
-دخيلك يا شيخ..!!
-ديروني…. ولا تتّهِموا أحداً..
-دخيلك يا (شيخ صالح) دخيلك يا سيدنا..!!
-إنهُ قضاءُ اللهِ، الذي لا رادّ لحُكْمه…. تماسَكوا… ولا تعاقبوه..!!
-فَعَلها (عَبّوس)..؟! أقسمُ أنني……….!
-لا… لاااااااااتفعلْ، ياأحمد….!! إنها مشيئةُ الله تعالى… وما شاءَ فعَل.. إنه القضاءُ المحتوم.
وأخذَ (الشيخ صالح) يصلّي، بما تبقّى لديهِ من قوّة.. ويقرأ الفاتحة.. ويتشاهد.. وجسدُهُ المُتهالكُ مُتّجهٌ إلى القِبلة… حتى غارتْ عيناهُ.. واصفرّ وجهُهُ النورانيّ، حتى صارَ بلونٍ التراب… كانتْ آخر كلماتهِ التي سمعها بوضوح مُرافقَيه.. (أحمد) و (علي).. وهُما يندبانِ سيّدَهما.. ويمسحانِ عرَقَهُ، ومفرزات جسَدهِ الرغويّةِ المدمّاة..
(أشهدُ أن لا إلهَ إلاّ الله.. وأشهدُ أنّ محمّداً رسولُ الله )
ارتجّتِ الأرضُ من تحتِ أقدامهما.. وصاحَتْ كلّ ديوكِ القرى، بصوتٍ واحد… و (دَقّتِ الخليلة )… ثمّ سادَ السكونُ الجليل..
عندما سمعَ الأهالي صوتَ الصهيل.. وعرفوا أنّ دابّةَ الشيخِ قادمةٌ نحو القريةِ، جامحةٌ.. وهائجة… لم يكنْ على ظهرها المُرتعِد سوى السرجُ الفارغ.. تنادَوا هَلِعين… واجتمعوا في ساحةِ القرية أمام بيت (الشيخ صالح) حيثُ وقفتِ الدابّةُ المهتاجة.. وراحت تضربُ الأرضَ بحافرَيها.. وصهيلها المُلتاع يخرقُ عِنانَ السماء.. ويوقظُ، حتى الصغار..
صاحتْ (أمّ صالح):
-راح صالح…….!!
صرَختِ الزوجةُ الحاملُ بطفلها الأول:
-لا… لااااااااا…. لااااااا…
لكنّ زوجة عمّها – حماتها- هدّأتها:
-الحمد لله يا ابنتي.. الحمد لله… ولا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بالله العليّ العظيم..
_________________________________________________________
تمَسّكَ أهلُ القريةِ التي كانَ يقصدُها الشيخُ قُبيلَ وفاته.. تمسّكوا بجسمانه الطاهر.. وأقسَموا أن يدفنوهُ في أرضِ قريتهم، تيمّناً، وبرَكة.. ولم يُمانع أحدٌ من أسرته… فالشيخ الجليلُ لم يكنْ يعني فئةً دون أخرى.. أو عائلةً دون أخرى.. أو قريةً دونَ أخرى… إنه شيخُ الجميع.. وعَلاّمَةُ الجميع.. ورمزُ الجميع.. وبركةُ الجميع.. بعلمهِ الواسع الذي كان يخدمُ بهِ الجميع.. وبزُهدِهِ بمَتاعِ الدنيا الفانية..
أثناءَ تشييعِ الشيخ، اجتمعَ كلّ مَن استطاعَ السيرَ على قدَميهِ، من رجالٍ، ونساء، وأطفال.. دفنوهُ – في مَوكِبٍ مَهيب – تحتَ سنديانةٍ مُعَمّرَة.. كانَ قد أوصاهم ألاّ يقطعوها.. وأن يتركوا الأشجارَ التي حَولها تنمو، .. لتعودَ الخُضرةُ إلى تلكَ القِمّة، بعدَ أن أحالَها الجَرادُ، والقحطُ، والحروبُ إلى شبهِ موات.. وبنوا حولَ قبرهِ ( صندوقاً) من الحجارةِ البيضاء التي تفنّنَ الحَجّارون بزخرفتها، وتدويرِ أطرافها.. ونقشوا عليها (سورةَ الفاتحة) وأرّخوا بالشعرِ لميلادِ الشيخِ، ووفاته.. بالتقويم الهِجريّ.. ونقشوا اسمَ المؤرّخِ، أيضاً.. وصارَ مقامُ الشيخِ مَزاراً لكلّ مَن عرفهُ.. وكلّ مَن استفادَ من عِلمهِ، وخِدمته، وإنسانيّته.. ونكرانهِ لذاتهِ.. وتفانيهِ في خِدمةِ الآخرين.
هُرِعَ أحدُهم، يحملُ سكّيناً، ويحاولُ أن يغرزها في قلبِ مَن أعطى الشيخ العلاّمةَ (هَبّول التين).. لكنّ الآخرينَ رَدَعوه.. ألم تكنْ وَصيّةُ الشيخِ لهم، ألاّ يُعاقِبوا الفاعِل..؟! كانَ متأكّداً أنهُ إنسانٌ بسيط.. وأنّهُ أعطاهُ التينَ، بمُنتهى صفاءِ النيّة.. لكن.. من أينَ جاءَ بالتينِ المسموم..؟! واعترفَ (عَبّوس) أنّ قريبَهُ (الإقطاعيّ) الذي يأتمرُ بأمرِ أسيادِهِ الغرباء.. هو الذي طلبَ منهُ أن يناولهُ للشيخ.
وعلى مدى عقود.. صار السنديانُ ينمو، ويكبر، ويزدادُ اخضراراً، دونَ أن يَمَسّوه بأذى.. ظلّ – كما خلقه الله- شجراً طبيعياً.. وشكّلَ غاباتٍ كثيفة متداخلة الأغصان.. ساهَمَتْ بالتوازنِ البيئيّ.. تنشرُ أشرعةَ خضرتها، لتُمتعَ الناظرين، وتثمِرَ (الدّوّام) الذي كانوا – في المَجاعات – يطحنونهُ، ويمزجونَ طحينَهُ بالماء، ويخبزونَ منهُ أرغفةً ليأكلونها.. ويتفيّؤون ظلالَها أثناءَ الراحةِ من الحَرّ الشديد، عند عَودتهم من أعمالهم الشاقّة.. أو يختبئون في أدغالها من الأعداء.
وكم مرّةٍ، حَلُمَ بعضُهم أنّ (الشيخ) يعاقبُهُ عقاباً شديداً، لأنهُ تجرّأ على قطعِ غصنٍ من أشجارِ (الوقْف).. مُخالفاً وَصيّةَ (الشيخِ العالم).. الذي أتيحَ لهُ الحصولُ على الكثير من العلوم والمعارف، لم تُتَح لل (عَوام ) منهم..!! وكم كانَ يسخرُ منهُ الآخرون، ويبقى موضعَ شماتتهم، لاستباحَتِهِ الحُرُمات..!!
صارتْ قِمَمُ الجبالِ مُزدانةً بمساحاتٍ واسعةٍ من الأشجار.. وأغلبها من السنديانِ المُعَمّر.. وصارَ يؤمّ المزارات عَدَدٌ كبيرٌ من الناس (الزوّار).. ليتبرّكوا بالأولياء.. ويطلبوا الدعاءَ والإستغفارَ والشفاءَ والرحمةَ والنصرةَ على الأعداء.. بل، وشفاءَ العُقم.. واستعادَة الأشياء المفقودة.. والإعتراف بالخطايا.. وطلب المغفرة والسّترَة.
صارَ مقامُ الشيخِ مزاراً للبائسين، المُستضعَفينَ من رَعيّته.. ومن باقي الرعايا.. وحتى من إخوانهِ العلماء….كان الإخوانُ يبكونَ فقدانَ كنزٍ من كنوز الوطنِ، والمنطقة.. وأخاً لهم وسنداً.. والرعايا صاروا يبكونَ حاجَتَهم إليه، ويعتبرون خسارته، خسارةً لهم مادّية، ومعنوية.. فمازالوا بحاجةٍ إلى المزيدِ من الدعمِ، والحماية.. والعدلِ، والإهتمام.. كانت تنقصهم أغلبُ حاجاتِ معيشتهم.. كما ينقصهم تنظيمُ هذه الحاجات.. والتوزيع العادل للثروةِ الشحيحة المتبقيّة والمُنتزَعة من قِبَلِ الأبطالِ المؤمنين الصابرين المتفانين الشجعان.. من أفواهِ المُعتدينَ الفاغرة..
_________________________________________________________
أسلافُهُم، كانوا أيضاً، في زمَنِ المَجاعاتِ، والجَرادِ، والقَحْطِ، قد أفتَوا بتحْريمِ أكلِ أنثى الحيواناتِ، للحِفاظِ على الأرحامِ، التي ستَلِدُ لهمُ المَزيدَ منَ الرؤوس.. وبذلكَ استطاعوا أن يكفَلوا المَزيدَ من مَصادِرِ الطعامِ، والكِساءِ، وغيرَ ذلكَ من حاجاتِ مَعيشتهم.. وكلّما لا حَظوا أنّ نوعاً من أنواعِ الحيواناتِ البَرّيّةِ، أو الطيورِ، قد قَلّ تواجُدُهُ.. وخافوا من انقراضه.. كانوا يُسارِعونَ بالإفتاءِ بتحريمِ صَيدِهِ، أو أكلِ لَحْمِه.. فيكفَلونَ بذلكَ دَرَجَةَ من دَرَجاتِ التوازُنِ البيئيّ، الضروريّ للحياة، ولنظامِ الكونِ البَديع..
(عَبّوس) وأمثالُهُ، كانوا يستجيبونَ لمِثْلِ هذهِ الإفتاءاتِ، والقوانينِ الوَضْعيّةِ، الظّرْفيّةِ، بشكلٍ بَبّغائيٍّ، قاطِع.. كانوا مَحْدوديّ الفهمِ، ويتّبِعونَ أقوالَ فُقَهائهم، وعُلَمائهم، ومشايخِهمُ الثقاة.. بشكلٍ تلقائيٍّ.. لأنهم يثقونَ بهم ثِقَةً مُطلَقة، ومتأكّدونَ أنهم لا يُفتونَ بأمرٍ، إلاّ ويكونونَ قد تأكّدوا أنهُ لمَصْلَحَةِ الجميع..
في مُناسَباتِهُمُ السّعيدة، والمُحْزِنة، كانوا يحتفِلونَ بها بالدّعْوَةِ إلى صَلاةِ الجَماعَة، التي تزيدُ من ترابُطِهِم، وتآلُفِهِم.. يؤدّونَها قَبْلَ أن يتناوَلوا أطايِبَ الطعامِ، الذي يَحْرِمُهُم منها العَوَزُ، والفاقَةُ، في الأيّامِ، والأشهُرِ العاديّة.. ولا يَسْمَحُ الفقهاءُ بتذَوّقِ لُقْمَةٍ واحدةٍ، قبلَ انقِضاءِ الصَّلاةِ، وتناوُلِ أحَدِ الشيوخِ اللقمَةَ الأولى، التي تُعْلِنُ ابتداءَ توزيعِ الطعامِ على العامّةِ، والخاصّةِ، من الناس، دونَ السّماحِ لجَشَعِ، أو لِشِدّةِ جوعِ أحَدِهِم، أن تجعَلَهُ يأتي على الكثيرِ منَ الطعامِ، وتَرْكِ البَقيّةِ جائعين، دونَ أن يحصَلوا على حِصّتِهِم وَحَقّهِم، كغَيْرِهِم..
وأثناءَ هذهِ المُناسَباتِ، الأعيادِ، أو المآتِمِ، أو، حتّى النذور، كانَ أحَدُ الثِّقاةِ يَجْمَعُ الزكاةَ منَ جَميعِ القادِرين، كلٌّ حَسْبَ طاقَتِه.. ويحتفِظُ بها حتى انتهاءِ الجميعِ من تناوُلِ الطعام.. ثمّ يَجْمَعُ العامّةَ، صِغاراً، وكِباراً، نساءً، ورجالاً.. ويوَزّعُ عليهمُ الزكاةَ، بالتساوي.. فتبلغُ حِصّةُ الشخصِ، حَسْبَ مِقدارِ الزكاةِ المَجموعة.. ولا بأسَ أحياناً، من أن يُمنَحَ الذينَ يقومونَ بأعباءَ أكبَر، نصيباً أكبَرَ منَ الطعامِ، ومنَ الزكاة.. فقُوّتُهُ، أو ضَعْفُهُ، ينعَكِسانِ مُباشَرَةً على المُجتمَعِ (الرّعيّة).. ولم يكنْ أحدٌ يعترِضُ على ذلك.. فهذا حَقّ.. ولمَصْلَحَةِ الجميع..
بَعْدَ انقِضاءِ الزكاةِ، كانتْ تُعْقَدُ حَلَقاتُ الدّبكَةِ، في المُناسَباتِ السعيدة.. وحَفلاتُ عُقودِ الزواجِ، التي أُجِّلَتْ حتى قُدومِ العيد.. فيكونُ العيدُ مَحَطّةً مِنَ الفَرَحِ، والرّاحَةِ مِنَ الأعباءِ المُضْنيَة، وبدايَةً جديدَةً، بَعْدَ استِعادَةِ الطاقَةِ المَفقودَة، بِهِمّةٍ أعلى، وتفاؤلٍ بالعيدِ القادِم..
وعندَ انحِباسِ المَطَرِ، كانوا يدعونَ ل (صَلاةِ الإستسقاءِ).. وكانَ الصّغارُ يتجَمّعونَ، ويَهتِفونَ معاً : (يا رَبّنا.. يا رَبّنا.. إبعَتْ مَطَرْ، لزَرعِنا.. هُمَّ الكِبار، مأذنِبين.. نحنا الصِّغار، شو ذَنبِنا.. ؟؟؟؟؟؟؟!)
فيشعُرونَ بِقِيمَةِ دَوْرِهم في المُجتَمَع، وبأنّهُم يُساهِمونَ معَ الكِبارِ، في استِعْطافِ السماءِ، لتَجودَ عَليهِم بكَرَمِها، وتُغيثَهُم بما لَدَيها مِنْ خَيْرٍ مُطلَقٍ، لا نَفادَ له..
بينما يجتمِعُ الكِبارُ في صَلاةٍ جَماعيّةٍ.. يتواصَلونَ بأرواحِهِمُ الخاشِعَة، معَ القوّةِ الخالقةِ المُطْلَقَة، روحِ الكونِ الكُلّيّة، الخالِقَةِ للأكوانِ اللامُتناهِيَة.. (ألله).. كي يَجودَ عليهِم مِن خَزائِنِهِ التي لا تَنضُب..
يستَعينُ كلُّ فَرْدٍ منهم، بمِقدارِ القوّةِ الرّوحيّةِ لَدَيه، بالوُصولِ إلى أعْمَقِ نُقطَةٍ مُمكِنةٍ في روحِ الكونِ المُطلَقَةِ القُدْرَة، مُتَبَرّئاً من أغلَبِ الأخطاءِ التي ارتَكَبَها، بِعِلْمٍ، أو بجَهلٍ، أو نتيجَةَ التّسَرّعِ، والإنشِغال، دونَ استعمالِ العقلِ، إلى أقصى طاقَتِه.. فساهَمَ بالإخلالِ بنظامِ الكونِ البَديعِ العادِلِ الجميلِ المُتَوازِن.. وكانتْ إحدى نتائجِ هذا الخَلَلِ، أو الشّطَطِ، انحِباسُ المَطَر.. وبِقَدْرِ ما يُفلِحونَ في تجميعِ طاقاتِهُمُ الرّوحيّةِ الخَيّرَة.. وبِقَدْرِ صِدْقِ، وشَفافيَةِ صَلاتِهِم.. تكونُ الإستجابَةُ، التي قد تتأخّرُ إلى حين.. وقد تستَعْجِل.. فيَعُمَّ الفرَحُ الجَميع.. ويُقيمونَ صَلاةَ الشّكْر..
_________________________________________________________
ظلّ الناسُ في تلكَ المنطقة، ينظرونَ إلى (عَبّوس) نظرةَ احتقار.. ويضمرونَ لهُ الكثيرَ من الضغينة.. بعضُهم لم يصدّق أنّهُ كانَ مُغَفّلاً إلى درجة أنه لم يعرفْ أنّ قريبَهُ (الإقطاعيّ) لم يكنْ ليطلبَ منهُ (إهداءَ ) الشيخِ العلاّمة، طعاماً لذيذاً.. فقد كانتْ بينهما شبهُ قطيعة.. فالشيخُ ينظرُ بارتيابٍ كبيرٍ للذينَ يتقرّبونَ من الأعداء.. صحيحٌ أنهُ لم يحاولْ إيذاءَهم مرّةً.. ولا التحريضَ عليهم.. لكنه كانَ يحذرهم.. ويتغيّرُ لونُ وجهِهِ بشكلٍ كُلّيّ، لدى رؤيةِ أحدهم، أو حضورهِ مع عامّةِ الناس، الذينَ كانَ لزاماً عليهم خِدمتهم.. وكانَ يعرفُ أنّ الأعداءَ يقدّمونَ لهم كلّ الإغراءات للتعامُلِ معهم.. فيمنحونهم من الأراضي التي يحتلّونها، فدادينَ عِدّة.. على حسابِ بقيّةِ المواطنين.. وعند زراعتها، كانوا يشغّلونَ فيها (العامّة) الفقراء.. فلاحة.. زراعة.. تعشيب.. حفر.. جني المحاصيل.. حصاد.. دراس.. تربية الماشية.. وغيرها من الأعمال المشابهة.. وكثيراً ما كانَ (الإقطاعيّ) يختارُ مَن يشاءُ من نساء الفلاحين، أو بناتهم.. عزباء، أو متزوّجة.. ويضمّها إلى أملاكه.. ومرّةً لا حَظتْ إحدى نساء أحد (الإقطاعيين ) أن مالكها يتطلّعُ إلى مضاجعةِ إحدى الفتياتِ الصغيرات الجميلات.. فأمرَ بإحضارها إلى بيته.. ولم تكنْ قد بلغتْ – بعدُ- سِنّ الحيض.. فتعهّدتِ المرأةُ باستلامِ الطفلة.. وتنظيفها.. وتزيينها.. وتهيئتها لفراشه.. لكنها شاغَلتهُ عنها بحِجَجٍ مختلفة.. فكانتْ تخبّئ الطفلة.. ليس لأنها تخافُ أن يتزوّج عليها.. فهذا تحصيلُ حاصل.. ولكن، كي تجنّبَها الألمَ النفسيّ، والجسديّ.. والعذابَ الروحيّ الذي عانتهُ هي، عندما امتطاها، وطرَحَها أرضاً.. وفَضّ عُذريّتَها بوَحشيّةٍ مُرْعِبة، قبلَ أن تنالَ رضاهُ.. فيضمّها إلى زوجاته.
وأفلحَتِ المرأةُ إلى حَدٍّ كبير.. مارَسَتْ عليهِ لعبةً، استطاعتْ من خلالها أن تُبْعِدَ الفتاة.. وألآّ تجعلهُ يُقارِبُها، إلاّ بعدَ أن جاءها المَحيض، وانتظمتْ دَورَتُها الشهرية.. علّمَتها كيفَ تتصرّفَ كي ترضيه، دونَ أن تؤذي نفسَها.. وأن تحصَلَ منه على ما تريد، دونَ أن تغضِبَه.. كأنها أمٌّ توصي ابنتَها، وتحرصُ على تجنيبها أكبرَ قدْرٍ من الآلام والمُعاناة.. وكانَ ذلك.. عاشتِ الضرّتانِ، كأنهما صديقتان.. تتعاوَنانِ على الحياة.. وتحتالانِ على الزوج.. لتكونا زوجَتيهِ المُفَضّلتين، في ذلك البيتِ الكبير، المليء بالزوجاتِ، والأطفال.
_________________________________________________________
لولا تعقّل ذوي (الشيخ العلاّمة) لكانَ الناسُ قد قضوا على (عَبّوس).. الذي ظلّ حائراً، غيرَ مقتنعٍ أنهُ هو الذي قتَلَ الشيخ.. فقد كانَ يحبّهُ جداً.. وأرادَ أن يُفاخِرَ أمامَ بقيّةِ أهلِ القرية، أنهُ أهدى الشيخَ تيناً.. وأنّهُ تقبّلَهُ منهُ بكلّ امتنان.. بل، وبدأ يأكلُ منهُ قطعةً قطعة، قبلَ أن تستديرَ الفرَسُ، ويُغادِرَ الساحة..
لكنّ هذا التعقّل، لم يمنعْ العائلة والمُريدين من أخذ المزيدِ من الحذرِ من (عَبّوس) وعائلته.. ومن التوجّسِ منهم ومن أفعالهم.. وإلاّ كانت (مُسامَحتُهم ) لهم، حَماقةً، وجَهلاً.. قد تفتحُ البابَ أمامهم للمزيدِ من الأفعال الغبية وغير المسؤولة.. التي قد تتسبّبَ بالمزيدِ من المآسي..
_________________________________________________________
لم تتردّد زوجةُ (الشيخ صالح) أن تسمّي ابنها البكر باسمِ أبيه الذي لم يُتِحْ له القدَرُ أن يراه.. فقد وَلَدتهُ بعد وفاةِ أبيهِ بعِدّةِ أشهر..
_________________________________________________________
عندما قرّرَ (أبي) الغالي.. (صالح سليم صالح صالح) السفرَ إلى الأرجنتين ليتزوّجكِ، يا أمي.. اجتمَعَ أهل القرية (المريقب) في بيتِ عمّك (الشيخ سليم صالح صالح) لتوديعه.. سهروا طوال الليل.. بعضُهم يوصيهِ بأن يسلّم له على قريبهِ في (ماركا) ويخبرهُ أنه بحاجة إلى مساعدة مادّية إضافية مُلحّة.. وهذا يرسلُ معهُ (خلعة) من المزار، وتراباً مقدّساً إلى أقاربه المغتربين هناك.. لتحرسَهم من كلّ شرّ.. وبعضهم يُرسِلُ لأخيهِ ( أبياتاً من العتابا ) مُرتَجَلة.. يبثّهُ فيها أشواقَه.. ويشرح لهُ حالَ أهلهِ، وحال الوطن في غيابه..
لم يكنْ أغلبُهم يعرفُ أنّ (ماركا) واسعة جداً.. وأنهُ ليسَ كلّ مَن غابَ، واغترَبَ، يسكنُ في (ماركا).. بل، ربما كان أحدُهم في مدينة، أو قرية أخرى من الوطن (سوريا) هاجرَ بحثاً عن عمل يكسب منه الرزقَ الحلال.. أو أنّ (تركيا) أو (فرنسا) قد اقتادتهُ مع مُرتزَقتها من باقي مُستعمَراتها، إلى مكانٍ آخر.. ليبيا – مثلاً- أو..!! أو..!! لتجنّدهُ وتستخدمهُ ليحاربَ باسمها ولمصلحتها ضدّ البلد الذي تستعمره… و انقطعتْ أخبارُه عن أهله من يوم أن اعتقلتهُ القوّات الغازية واقتادته من بيته، إلى ثكناتها العسكرية، ثم إلى معسكرات التدريب.. ثم.. إلى مستعمراتها.. ونادراً ما كان أحدهم يستطيعُ الهربَ، أو العودة إلى وطنه.. كان أغلب أهل القرية والمنطقة يعتقدون أنّ كلّ من غاب لمدةٍ طويلة، هو في (ماركا).. التي تنبعُ ذهَباً، ومالاً….!!
كان أبي سعيداً جداً بهذا الوداعِ العفويّ.. الذي خَفّفَ عنهُ وطأةَ تحمّلِ ذلكَ الليلِ الثقيل.. الذي – لولاهم- لكانَ طويلاً جداً.. فكانَ – بينَ فترةٍ، وأخرى – يُمازحُ حفيدَ (عَبوس) بشَتمِهِ لجدّهِ:
(- ألله يلعن جدّك.. اللي قتَل جَدّنا )..
فيحمَرّ وجهُ الحفيد.. ويضحكُ مع الآخرين.. لكنّ أبي لا يلبثُ أن يُلاطِفَهُ أخيراً.. ويربُتَ على كتفهِ، أن.. لا تفهمها إلاّ مزاحاً..
وعند طلوع الفجرِ، وَدّعهم أبي.. فرداً.. فرداً.. بالقبلات، والعِناق، والدموع.. وبرجاءِ الدعاءِ لهُ بالسلامة، والتوفيق..
حَمَلَ أغراضَهُ البسيطة.. وسافرَ محفوفاً بالدعاءِ، والقلقِ، والرجاء.. والأمل.
****************************************
(مارْدينكْ.. ماردا…. وأهلا بشباب ماركا… ) من أهازيجهم الشعبية، عند عودةِ بعضِ الشبابِ من بلاد الإغتراب..
(تاروح لسراية طرطوس.. وعيّطْ : يا سلمان.. شْباكْ..؟! ).. عندما يغلبُ الشوق والقلَقُ والحاجة إلى تواجدِ ودَعْمِ بعض المغتربين من الأهل .. مثل (سلمان) الذي يتغيّر اسمه عند مناداة مغترِبٍ آخر..
****************************************
عندما وَدّعَ جدّي (الشيخ سليم ) ابنهُ البكر (صالح ) أوصاهُ عدّة وصايا.. كان أهمّها ثلاث وصايا.. من ضمنها، ألاّ يتحزّب.. ويبدو أن الأحزاب التي كانت تتشكل وتحكم في تلك الفترة، لم تكن تلبّي طموحات جدّي الشيخ المجاهد – ونهاه – أيضاً – عن التعصّب الطائفيّ.. كان يعاني – كمجاهد – و بطل… كما يعاني جميع الشرفاء، ممّا ترَكَهُ المستعمر، العثمانيّ، ومن بعده، الفرنسيّ، بعد خروجهم من الوطن سوريا، من عصبيات طائفية، ومذهبية، وعِرقية.. كبديلٍ مَحَلّيّ لهم.. فاستعمرونا من خلال (الفتنة ) التي أشتعلتْ نيرانها في النفوسِ الجاهلة، والصغيرة..