أخبار مهمةمنوعات

رواية الى اللقاء يا أمي للأديبة السورية فاطمة صالح


جولان تايمز

رواية الى اللقاء يا امي للاديبة السورية فاطمة صالح يسرنا ان ننشرها لزوار موقعنا كاملة وذلك بعد ان تكرمت الاديبة بالسماح لنا كي نطلع القراء عليها

فالف شكر لاديبتنا وتمنياتنا لها بالتوفيق الدائم

wwww

إلى اللقاء يا أمي…….

رواية

فاطمة صالح صالح

المريقب

****************************************

أتذكّرُ،أنني مِتّ ُ على راحَتيها،كما كنتُ أحلم.

يومَها، لم يكنْ في البيتِ أحدٌ سوانا.

كنت ُ أحدّثها عنِ الأيامِ الغابرة، وفجأة ً، شعرت ُ بدُوارٍ، وغَمامَة بيضاءَ كثيفة، غطّت ْ على عينَيّ.

لم أكَدْ أشعرُ بالغُربة، حتى رأيتُ نفسي أسبحُ في مُحيطٍ لامَحدود. مشاعِرُ منَ الغبطة غَمَرتني.. سعادةٌ، وارتياح..

بياض ٌ، يا ابنتي..

بَياض ٌ، يا فاطمة..

أهيَ روحُ والدك ِ التي تُرَفرِفُ فوقَ روحي.. فأبدأ بالارتِعاش.؟!

أكادُ أستيقظُ يا ابنتي..

طالما أكّدْت ِ لي أنني سألتَقيهِ في هذهِ اللحْظة..  لم أشعرْ أبدا ً بالوَحشَة.. ولا حتى بالألم..

هاهيَ نسماتُ طِيبه ِ تمْلأ أنفاسي..

هاهيَ أنفاسُ روحه ِ تغمُرُني.. فأسبَحُ في حَنانها..

هاهوَ يلتقَطني من يَدي، ويرفعُني إليه.. يضمّني ياابنتي.. ابتَعِدي يا فاطمة.. ففي هذهِ اللحظات أرجو أن نكونَ لوَحْدِنا أنا وحَبيبي..

يااااااه…….. ياصالح..!! أخيرا ً التَقَينا يا حَبيبي.. أخيرا ً تحقّق َ دعاؤك َ يا صالح :

(- أدعو أللهَ تعالى، أن يجعَلَكِ تكونينَ من نصيبي، في كلِّ جيلٍ أخلقُ فيه، يا ماريّا.. )

إنها دعواتُ المؤمِنِ الصادِقَة.. التي لا تنزلُ على أرض..

وكنت ُ أبكيك َ بمُنتَهى الألَمِ يا صالح.. كنت ُ أنظرُ نحْوَ قبْرِك َ المُقابِلِ لبَيتِنا الدافئ وأرَدّدُ بمُنتَهى النّدَم :

( يا أللـــــــــــــــــــــه..!! لماذا لم أمضِ كلَّ عمري، وأنا أقولُ له: يا حَبيبي..؟! لماذا..؟! )

________________________________________________________

 

كيفَ أبدأ بدايةً تليقُ بكِ، يا أمي..؟!

أبحثُ في خفايا الروحِ، والوجدان.. في تاريخي، منذ ماقبل ولادتي.. أو، حتى قبل ولادتكِ، أنتِ ياغالية.. أقلّبُ  الصفحات، والمواقف.. أحاولُ اختيارَ نقطةٍ في الذاكرة، أراها أنسبَ من غيرها، لأبدأ حكايةً، أظنها مختلفة.. لكن.. ربما كانتِ الحكاياتُ كلها متشابهة.. ومشاعرُ الناسِ تجاهها هي التي تختلف..!!

أمي..

اليوم هو الأربعاء الأول من أيار عام 2013م.. الساعة الثانية والربع بعد الظهر.. الشمسُ في الخارجِ ساطعة، والجوّ حارّ بعضَ الشيء.. لكنني أجلسُ في غرفتكِ يا أمي.. غرفةِ أبي… (أوضة الشرقية ) على الديفون المقابل للتلفزيون، ولمِرآةِ  أبي المستطيلةِ، الكبيرةِ، التي ثبّتها له على الحائط..الغالي، إبن عمتي الغالية “ندّة “.. ليرى من خلالها مايجري في (الدوّارة )وهو جالسٌ في سريرهِ،أو، مستلقي، من خلال النافذةِ الشماليةِ التي تطلّ على الدّوّارة.. وعلى مقام (الشيخ علي سلمان ).. ومقام (الشيخ صالح العلي ).. وعلى مقبرة الرجال.. ومقبرة النساء.. وعلى الطريق القادم من (الشيخ بدر ) ومن (وادي العيون ).. وتطلّ على ( القدموس ).. وعلى الحارات الشمالية من قريتنا، و (القلع )و (الرستة )و (فيصوع )و،حتى على (السّْبيل )و (الدَّحْقومِة )و (المْسيل )و (عين شْعات )و (بيت خالي الشيخ محمد ابراهيم عباس )و (بيت زرّوف )و (بيت أحمِد القرحيلي )و (بيت محسن القرحيلي )و (بيت الشيخ سلمان غانم محمد )و (بيت خَضّور )و (الجورَة )و (المْغَيْسِلْ )ومن أمام النافذة تتفرّع عدّةُ طرقٍ، أهمّها، الطريقُ الذي يَصِلُ (الشيخ بدر ) ب (شرَيْجِس )ومنها إلى (الدّرَيْكيش )و (وادي العُيون )وغيرها من المناطق..

سريرُكِ.. إلى شمالي..

أقبّلهُ بين فترةٍ، وأخرى.. أشمّ رائحتكِ من خِلالِه.. الو سادةُ التي كنتُ أضعُها تحتَ ظهركِ، لتسندَه، عندما أقلبُ جسدَكِ الحبيب، نحوَ جهةٍ ما، ثمّ إلى الجهةِ الثانية، كي يخفّفَ ذلكَ من ألمِكِ المُبْرح من “الخشكريشا ” اللعينة، الناتجة عن تماسّ جسدِكِ الحبيبِ معَ الفراشِ، لمدّةٍ طويلة.. خَفّفَتْ من شِدّته “فرشة الهوا ” التي أحضرَها إخوتي “كإعارة ” من “صحّة الشيخ بدر “..

سريرُكِ الخشبيّ هذا.. أتذكرين..؟! طبعاً تذكرينَ أنه كانَ من “عَفْشِ ” بيت أخي الغالي، الذي أحضَروهُ من “حلب ” بعد وفاتهِ..

أمي..

بالطبع، تعرفينَ أنّ هذا اليوم يُصادفُ ذكرى رحيلِ الغالي أخي.. الذكرى السابعة والعشرين.. تصوّري..!!

حُلُم… حُلُمٌ، يا أمي…

هكذا هيَ الحياة..

حُلُم..

سبعةٌ وعشرونَ عاماً، مرّت، كأنها بالأمس..

يااااااااه…..!! ياه….. يا زمَن..!!

هِيَ الحياةُ الدنيا هكذا……….

ذِكْرى…. ذِكْرى…

قبلَ مدّة، كتبتُ على جهازيَ الخلويّ، كلماتٍ، قد تكونُ مشروعَ قصيدةٍ، بدأتُها ب “سنُصبحُ ذكرى ” وهذا مؤكّد.. علّها تكونُ  ذِكْرى عَطِرة، يا أمي، تشبهُ ذِكْراكِ، وذكراهُ، وذِكْرى أبي، رَحِمَهُ الله، وذِكْرى، وذِكْرى… وما لا يُعَدّ، ولا يُحصى من الذِّكْرَيات….!!

قلتِ لي – مرّةً – أظنها قبلَ عدّةِ أشهُر :

-فاطمة.. اكتبي.. اكتبي ياابتي.. اكتبي شيئاً يُسِرّ القلب، ويُفرحُ الروح..

وكنتِ تعانينَ من كآبةٍ مؤلمةٍ، لا أظنها بدأتْ عقِبَ وفاةِ أبي، لكنني متأكّدة أنها تضاعَفتْ، حيثُ بدأتِ تشعرينَ بقلّةِ الأمان، إلى حَدّ كبير..

(- أريدُ بَناتي.. )

فحَضرنا نحنُ الأربعة..

كنا نتسابقُ للبقاءِ بقرْبكِ، يا أمي.. أبناءَ وبنات، أحفاد وحَفيدات (كناين) وأصْهار.. الكلّ متعطّشٌ للبقاءِ معكِ، أيتها الدافئةُ الحَنون، ياصديقةَ الجميع، وأمّ الجميع، وحبيبةَ الجميع.. ولا أبالغ..

لكنّ وجودَنا كلّنا لم يستطعْ ملءَ الفراغِ الذي ترَكَهُ أبي في حياتِك..

كانَ سَندَكِ، يا أمي.. وكنتِ سنَدَه..

هذا الشعورُ، حَدَثَ معي ما يُشبههُ، عَقِبَ رَحيلِ أخي الغالي… أذكرُ أنني كنتُ أندبُهُ، وأنا أسيرُ بتثاقُلٍ شديد، خلفَ جنازتِهِ، تسندُني من تحتِ إبطَيّ، امرأتان.. نسيرُ، ونسيرُ، ونسيرُ نحوَ مقبرةِ الرجال عند “الشيخ علي سلمان ” قُرْبَ أجدادنا.. فألتفتُ حولي، وأرى جموعَ المُشيّعينَ، من نساءٍ، ورجال.. أمامي، وخلفي، وعلى يميني، ويساري.. إلى البعيدِ، البعيد.. أظنّ أننا سِرنا مسافةً طويلةً، طويلة.. وإذا بنا لم نكنْ قد اجتزنا سوى عِدّة أمتار…. كنتُ أشعرُ أنني فقدْتُ أمانَ العالمِ كلّه، بعد رحيلِ أخي، فأقول : “كشّفتَ لي عن رأسي، ياأخي.. أللـــه يرحمك.. “..

(الآن، يا أمي، سأتركُ الكتابةَ قليلاً، لأرتاحَ، وأستمعَ لأخبارِ التلفزيون، لأرى إلى أينَ وصَلتْ أحداثُ بلادنا الغالية.. أرى شريطاً أحمرَ في أسفلِ الشاشة.. ).

نادتني أختي من النافذة.. كانت قادمةً بسيارةِ زوجها مع قسمٍ من العائلة، من “العامريّة ” كانوا يعزّونَ الغالي “محسن ” باستشهاد ابنهِ “علاء ” قبل ثلاثة أيام، في “برزة ” بالسلاح الكيماوي، الذي أطلقهُ عليهِ، وعلى رفاقهِ في الجيش “المُسَلّحونَ ” المُجرمون.. ودُفِنَ أول أمس، واكتفيتُ أنا بتعزيتهِ على الهاتف، وأنا أبكي بحُرقة.

-فاطمة.. نحن سنذهب لنعيدَ خالي، هل تذهبينَ معنا..؟!

ترَدّدْتُ قليلاً، ثمّ ذهبتُ معهم. قالتْ بنت خالي : – والله إنهُ نائم.. واعتذرَتْ أنّ علينا أن ندخلَ الغرفةَ، بهدوء.. كلّ اثنتين معاً، كي لا نزعجه..

كان إبن خالي الأصغر عند أبيه.. سلّمَتْ علينا – أيضاً – ابنتُهُ الثانية.. دخلنا الغرفة.. خالي جالسٌ نصفَ جَلسة، كفّاهُ على جَنبيه.. “السيروم ” في وريد كفهِ اليُمنى.. قبّلنا يدَهُ اليُسرى…. لا حراك..!! لكنه لا يتألّمُ، ولا يتكلّم، وتقولُ ابنتُه أنهُ لا يأكلُ شيئاً يُذكَر.. قلنا : – ألله يهَوّن عليه.. آمين..

أحضرتُ مفتاحَ البيتِ، من بيتِ أخي .. كانتْ أختي وزوجُها يتحضّران لشربِ “المتّة ” والغداءِ عندهم.. فتحتُ بابَ بيتنا – بيتكم – بيت أهلي، يا أمي.. غسَلتُ يديّ، وفمي، جَفّفتها بالمنشفةِ الصغيرةِ، المُعَلّقةِ بمسمارٍ، على يمينِ بابِ غرفتكِ الشرقيّة، وجلستُ أكتبُ، بعد أن فتحتُ التلفاز الذي أغلقتُهُ قبلَ أن أطلعَ مع أخواتي.. قرأتُ على “الفضائية السورية ” خبراً يقول أنّ عُمّالَ الكهرباءِ في “ساحةِ الأمويين ” في دمشق، يؤكّدونَ للسيدِ الرئيسِ، الذي كان يتفقّد المكان الذي طالتهُ يدُ الإجرام بالتخريبِ، ومعهُ زوجته.. يؤكّدُ العمالُ أنهم لن يتوانوا عن عملِ كلّ ما بوُسعهم للحفاظِ على البُنيةِ التحتيّةِ للوطنِ، سالمةً من أيدي العابثينَ المجرمينَ، مهما لاقوا من صعوباتٍ، وعَقبات.. ومهما تعرّضوا لهُ من مخاطر..

لم أستغرب الخبر، هو شعبُنا العربيّ السوريّ الصامدُ، المُقاومُ، البطلُ، الواعي.. سيواصِلُ قيامَهُ بواجبهِ تجاهَ وطنهِ، على أكملِ وجهٍ، قدرَ المُستطاع.. وربما، بشكلٍ مُضاعَفٍ، لتأمينِ مُتطلّباتِ الحياة، للمواطنين.. إلى جانبِ تضحياتِ، وصمودِ الجيش العربيّ السوريّ، البطلِ، الشريفِ، المقدامِ، الذي قدّمَ من الجهدِ، والتضحيات، ما لا تستطيعُ صفحاتُ التاريخِ أن تسجّلَ أشرَفَ منهُ، وأنبلَ، وأكرم.. شهداءَ، جرحى، مَخطوفينَ، مفقودين.. جنوداً، وضبّاطاً، وصَفّ ضباطٍ، ومجَنّدين.. الكثير منهم مازالوا غائبين عن بيوتهم وعائلاتهم منذ أشهر، أو سنوات.. لم يأخذوا أيّةَ إجازةٍ، ليبقوا على رأسِ أعمالهم، في خِدمَةِ الوطنِ الغالي، الذي هو بأمَسّ الحاجة إليهم، وإلى كلّ المخلصين من أبنائهِ، في هذهِ الحربِ الضروس، القذرة، الظالمة.. وما لا يمكن وصفه لها من إجرامٍ، ونتانة.. والتي تزدادُ ضراوتُها، وشراستُها وعُنفُها.. يوماً، بعدَ يومٍ، وشهراً، بعد شهرٍ، وعاماً، بعدَ عام.. منذ أكثر من سنتين.. ذقنا فيها الأمَرّينِ، على أملِ الفرَجِ القريب..

بالأمس، خرَجَ سيّدُ المقاومة “حسن نصر الله ” على تلفزيون “المنار ” في احتفالية الذكرى الخامسة والعشرين لانطلاق “إذاعة النور ” ليقول، أنّ الدول الصديقة لسوريا، لن تبقى مكتوفةَ الأيدي، تتفرّج على مايُهَدّد سوريا بوجودها، شعباً، وجيشاً، وقيادة. وهذا تهديدٌ يفهمُهُ العدوّ، والصديق، وإنذارٌ لمن يساهمُ في تخريبِ وطننا الغالي، في محاولةٍ لتقسيمه على أسسٍ عِرقيّة، أو طائفيةٍ،أو مذهبيةٍ، أو مناطقية.. ليستْ جديدةً على المستعمِرين الطغاةِ البُغاة.. وفي محاولة لتدمير هذا البلدِ الصامدِ في وجه الرياح العاتية، رياحِ السّمومِ، التي تعصفُ بهِ من كلِّ جهاتِ الأرضِ، في هجمة لا أشرسَ، ولا أظلَم.. على هذا البلد الحبيب الناهض نحو التطور والتقدمِ، والتحرر من الإستعمار والتبعية للغرب المستعمرِ، أو لأية قوةٍ ظالمة.. ساهَمَ في محاولةِ تدميرهِ، ويساهم، العَديدُ ممّن كنا نعتبرهم (مواطنين)و (أصدقاء) أو (مغلوبين على أمرهم.. مطرودين من بلادهم.. أو مُجبَرينَ على الخروجِ، هَرَباً من القتلِ، والظلمِ. )واحتوَتهم بلدي “سوريا ” الغالية.. أكرَمَتهم، آمَنَتهم من خوف، أطعَمَتهم، وسَقَتهم، عَلّمَتهم في مدارسها، وجامعاتها، طَبّبَتهم في مشافيها ومؤسّساتها الطبية، فَضّلتهم، في كثيرٍ من الأحيانِ، على أبنائها، كي لا يشعروا بالغُربةِ، أو، بالمِنّة……. لكن……….!!

للأسف.. لكنَّ العَديدَ منهم خانوها، خَدَعوها، انقلَبوا ضِدّها، وانجَرّوا وراءَ أطماعهمُ الذاتيةِ، انضمّوا إلى ماتدعوهمُ الدولة (مُسَلّحين ).. وأنا أدعوهم (مُجرمين ).. قَتَلة.. مُخَرّبين.. مُفسِدينَ في الأرض.. طُغاة.. قُساة.. ظالمين.. ليستْ لديهم أية مَشاعر إنسانيةٍ، ولا حيوانيةٍ، فالحيوانُ، إن رأى، أو شَمّ رائحةَ دَمِ حيوانٍ آخرَ من بني جِنسه.. يهتاجُ.. يَعجّ.. ويُبَحّتُ بحافرهِ، مُستنكِراً إراقَةَ دَمِ أبناءِ جِنسِه.. أما أولئكَ القتَلة الطغاة، فيذبَحونَ أبناءَ جنسهم، بمنتهى برودة الأعصابِ، بل، يُهَلّلونَ، ويُكبّرونَ عند الذبح، وبَعدَ القتل، والقضاء على الضحيّة البريئة من كلّ ذنب، إلاّ.. إلاّ ذنبِ إخلاصها للوطن، وانتمائها للشعب، وإخوتها في الوطن، والإنسانية.

سأستريحُ قليلاً، يا أمي..

أختي وزوجُها، مازالا في بيت أخي، والباقونَ من إخوتي في منازلهم، على ما أظنّ، زوجي، الذي أوصَيْتِني أن أحترمَهُ كُرْمى لكِ، (هل تشكّين يا أمي..؟! _ لا والله لا أشكّ.. ).. (صَديق سَهراتنا، أنا وأنتِ، وصَديق “الكلماتِ المُتقاطعة” التي كُنتِ تحبّينها جداً ) في البيت فوق في “الضَّهْر”.. كَلّمْتُهُ قبلَ قليلٍ لأخبرَهُ أنني هنا، وأنّني أصلحْتُ جهازَيّ التحكّم بالتلفاز..

إلى اللقاء.. يا أمي…

الساعةُ الآن الرابعة إلاّ ربع عصراً.

_________________________________________________________

اليوم هو الجمعة، العاشر من أيار 2013م..

الساعةُ الآن الثامنة إلاّ عشرِ دقائقَ صَباحاً..

نهَضْتُ من فراشي في منزلنا في “الضَّهْر” في حَوالي السابعة إلاّ ثلثاً، حاولْتُ أنْ أعودَ إلى النوم، دونَ جَدوى.. أعاني من اضطراباتٍ هَضميّةٍ، ومن بعضِ الشعور بالوهن، منذُ الأمس..

كنتُ قد فَكَكْتُ مدفأةَ الحَطَبِ مِنَ الصالون، ووضعتُها في الخارج، على الشّرْفَةِ مِنَ الشّرْق، ووضعتُ البَواري قربَ مَدْخَلِ السِّفْل، عندَ الصّنبور الخارجيّ.. وطَوَيْتُ السّجّادةَ الكبيرةَ، التي فرَشْتُها أوّلَ الشتاءِ الذي رَحَلَ للتوّ، وأخرى تشبهها تماماً، شكلاً، ومَقاساً، كنتُ قد فرَشتُها في الغرفةِ الوُسْطى.. “غرفة بيت عمي”(أمّ علي، بَدْرَة صالح )و(الشيخ محمّد علي اسميعيل، أبو علي )..

وكان زوجي قد أحضَرَ واحدةً منذُ عِدّةِ سَنواتٍ، من “مِصْياف “.. وعندما رآها أعجَبَتني، أحْضَرَ واحدةً أخرى مُشابهة.. وكلّ واحدةٍ بثلاثةِ آلافِ ليرةٍ سورية.. ممّا أسعَدَني حينها.. ترى..!! ما ثمَنُ أيّ منها الآن..؟! وقد تجاوَزَ سِعْرُ (الدولار الأمريكي) المئة ليرة سورية..؟!!

على كلٍّ، هما سَجّادتان رَقيقتان بعضَ الشيء، تشبهانِ البساطَ السّميك.. لكنهما جَميلتان.

طَوَيْتُ سَجّادَةَ الصالون، وأخرَجتُها – جَرّاً – إلى الشرفةِ، إلى جانبِ الأخرى التي كنتُ قد أخرَجتُها، أو بالأحرى، كان ابنُ أخي الغالي، الذي يدرسُ(معهد كهرباء) في طرطوس، قد أخرَجَها لي إلى الشُرْفَة، بَعدَ أن أنزلنا مِدفأةَ المازوتِ التي فوقها في (أوْضَةِ النصّانية) التي طلبتُ من زوجي أن يُعَدّلَ فيها قليلاً – بعد أن عُدْتُ إلى منزلنا، بَعْدَ وَفاتِكِ يا أمي الغالية- بأن يُغلِقَ بابَها الرّديءَ، المُقابلَ للبابِ الخارجيّ، في مُحاذاةِ النافذةِ الخشبيّةِ القديمة..

قلتُ لهُ : – كَي تبقى لي خصوصيّةٌ، إذا وَضَعْتُ الفَرْشةَ الصحّيّةَ السّميكةَ التي أحضَرَها لي إخوَتي وأخَواتي، عندما كنتُ أنامُ عندَكِ يا أمي لمدّةٍ تجاوَزَتِ العامَ، بالتأكيد.. كنتُ، خِلالَها، أكتفي بالطلوعِ إلى منزلنا في (الضَّهْر) بينَ فترةٍ، وأخرى.. أنظّفُ ما أقدرُ عليهِ، أجْلي الصّحونَ، وأنظّفُ المَجلى، والغاز، والمغسَلتين، والحَمّام، والتواليت، وأبدّلُ المنشفةَ التي ينشّف بها زوجي يديهِ، ووَجهَه.. وقد يفعلُ ذلكَ بعْضُ زوّارِه.. وأحياناً، أبدّلُ أغطيةَ فِراشِهِ.. والملحَفة، أو أضَعُ وَجْبَةَ غَسيلٍ في الغسّالة الآليّة، أو أنشرها، وأجمع الزبالة من الحمام والمطبخ، في كيسٍ واحد، وأنقلها خارج البيت إلى جانب الطريق العام ليأخذها موظفو البلدية بشاحنة الجرّار المخصّص لنقل الزبالة من عدة قرى، ثلاثة أيام في الأسبوع، وإفراغها في مكبّ النفايات في سفح الجبل المقابل لقريتنا، تحت المشفى المنشأ حديثاً، تمهيداً لحَرقها بين فترةٍ وأخرى ( أظنّ أنهم نقلوا المكبّ بعد اشتغال المشفى ) وبعضَ الأعمالِ الأخرى البسيطة، وأحياناً، أصطحبُ معي امرأةً تعملُ في البيوت، لتساعِدَني في تعزيلِ، وتنظيفِ المنزل، تنظيفاً شاملاً، يشرَحُ الصّدْرَ، ويُسَهّلُ العيشَ، وأعطيها حوالي ألف ليرة سورية، وبعضَ الحاجاتِ الزائدة عني.. ثياباً لها ولحَماتها التي تعتني لها بطفليها، عندما تغيبُ، ولبيتها الذي هو في طورِ الإنشاء والتأسيس، وبعضَ أدواتِ المطبخِ الزائدة عن بيتي.. التي كنتُ قد اشتريتُها ل (المَحَلّ).. واستعملتُها فيه، لعِدّةِ سنوات، قبلَ أن أغلقَهُ بطلبٍ من أخي، الذي أرادَ أن يهدمَ البناء القديمَ المُتصَدّعِ كلّه، ويبني مكانهُ، على أسُسٍ ثابتة، بناءً آخرَ، أجملَ، وأمتنَ، ويعطيني مقابلَ تركي للمحلّ، الذي كانَ عبئاً مادياً عليّ إلى درجة كبيرة، مَبلغاً من المال، طول ما أنا حَيّة.. فقبلتُ، وأعْلَمْتُ زوجي بذلك، فبارَكَ الموضوع…

كنتَ – يا أبي الغالي – قد تخلّيتَ لي عن مُتنفّسِكَ الوحيد خارج بيتكم.. بيتِ أهلي.. بيتنا.. والذي كان عبارةً عن (محلّ) تجاريّ بسيط.. يديرُهُ (عمّي) أخوكَ الذي لم تلدهُ جَدّتي (خديجة) (أم صالح).. (ابراهيم عباس).. ويبيعُ فيهِ بعضَ الحبوبِ.. والتبغ.. وأشياءَ أخرى لم أعدْ أذكُر ماهي.. وتنزلُ أنتَ إلى عندهِ.. كلّ يوم.. في الصباح.. تشربانِ مع بعضِ المعارفِ والأصدقاء أو الضيوف.. القهوةَ المُرّة، تتسلّيانِ، قبلَ أن تعودَ إلى البيت بسيّارة (بيك آب) بالإجرة، وبالتأكيد، لم تكن تدفعُ للسائقِ، الإجرة، فقط… ومازالوا يذكرونَ ذلكَ، ويترحّمون على روحكَ الطاهرة..

وقبل وفاتكَ، بأكثر من عام، كنتَ لا تنزلُ إلاّ كلّ عدةِ أيامٍ مرّة، فإن رأيتَ صحتكَ تحتمل، تأخذ معكَ جهاز الهاتف اللاسلكي، وتخبر أمي، التي تتصل، بدورها، بإخوتي، لتخبرَهم أنكَ نزلتَ بهذه الطريقة.. فإن ساعدتكَ صحتكَ بالوصول، تتصلُ فورَ وصولكَ بأمي، لتطمئنها أنكَ وصلت.. وكنتَ تسألها قبل نزولك : أنا نازل.. هل تريدينَ شيئاً..؟!

وإن تعبتَ، ولم تعدْ تستطيعُ السير، تجلس، وتتصلُ بأحدِ إخوتي، أو أحد السائقين المعروفين، ليأتي من السوق، إلى حيث تجلس.. ويأخذوكَ بالسيارة، إلى (الشيخ بدر)..

أثناءَ غيابكَ هذا الذي كان يمتدّ من حوالي السابعة صباحاً، حتى الثانية عشرة ظهراً، كانت أمي تعِدّ لكَ الطعامَ البسيط الذي تحبه.. وتقوم بأعمالِ البيت، من تنظيف وغيره.. وعند حضورك، كانت تناولكَ إبريق القهوة المُرّة الساخنة، التي كانت تبدأ بتحضيرها منذ استيقاظها، وتناولكَ الفناجين، تضعهم أنتَ على الكمودينة الصغيرة قرب جهاز التلفزيون الملوّن، وتبدأ بتقديمها للضيوفِ الذين يتوافدون إليكَ من كلّ حَدْبٍ، وصَوب.. لكن.. بعد أن تكون قد تناولتَ غداءكَ، وأخذتَ أدويتكَ، وقرأتَ القرآن الكريم، وصَلّيتَ صلاةَ الظهرِ،  قبل أن تنامَ قليلاً، قبل حضور الضيوف..وإن حَضروا وأنتَ تقرأ القرآن، أو تصلي.. أو أثناء نومك، كانت أمي تنبّههم بمنتهى اللطف، أنكَ (مشغول) أو (نائم).. تتباحَثونَ في أموركم الخاصة، والأمور العامة، وأمور الوطن الأغلى، ومشكلات العالم كلّه، التي تصلكم أخبارُها عن طريق التلفزيون والراديو..

منذ سنوات، وبعد أن ازدادتْ عليكَ الآلام النفسية والجسدية المُضنية، لم تعُد قادراً على القيامِ بالأعمالِ المُجهِدة التي كنتَ تؤدّيها أثناء شبابكَ، يا أبي.. واقتصَرَتْ أعمالُكَ على ما تسمحُ لكَ به صحّتكَ، من أعمال.. كتقطيع الحطب في الشتاء، أو تقليمِ الشجرِ، أو زراعة بعضِ الأشجارِ، أو، الورود.. مثل النبفسج، والمَضْعَف، الذي طلبتْ أمي من إخوتي وأصدقائهم أن يزرعوها حول قبركَ الحبيب، لأنكَ كنتَ تحبها جداً، وتفضّلُ رائحتها.. ففعلوا.. وكثيراً ما كانت تتساءلُ، إن كانوا قد زرعوها، أو نسوا، فنطمئنها أنهم لم ينسوا، وأنّ البنفسجَ، والمَضْعَفَ ينمو حولَ قبركَ، ويكادُ يُزهِر.. فينشرحُ صَدرُها، وتحمد الله، وتشكرهم، وتبكيكَ ياغالي، بحرقةِ عاشقةٍ وَلهى، وتتذكّرُ آخر يومٍ رأتكَ فيه.. تقول: اتصَلَ بي من صافيتا، ليُطمئنني أنهُ أجرى العملية التنظيرية وخرَجَ منها بسلامة، وقال لي : أوقِدي النارَ، من أجلِ أن نشوي (للميليدة ). ففعَلت.. لكنه لم يذُقها…. يا عيني هوَ، يا عيني.. بعد وصولهِ بساعات، ساءتْ حالتُهُ الصحّية، وصارَ يتقيّأ دماً،  فاتصلتُ مع الدكتور (محمد ) وأخبرتُ إخوتك، فحضروا جميعاً. سبقهم الدكتور. وعندما رأى حالتَهُ، قالَ لهم – بأسى – : والله الحالة تحتاجُ إلى مَشفى بسرعة..

هنا – يا أبي – كنتُ قد وصلتُ إلى بيتكم، في الصباح، بعد أن كانتْ أمي الغالية قد طمأنتني بالأمس أنكَ أجريتَ العملية التنظيرية، وأنّ أحوالكَ جيدة، بل، ممتازة.. كانت سعيدة جداً، وأسعَدَتني جداً، فبكّرتُ بالنزولِ إلى (المَحَل ) لأمرّ عليكما، وأهنّئكما بالسلامة، وأشرب المتة مع الغالية أمي.. لكنني فوجئتُ بالوجوهِ المُكفهرّة.. كان الدكتور (محمد) في الصالون مع إخوتي يتكلّمون بألغاز لم أفهمها، مما زادَ من قلقي واضطرابي.. ماذا جرى يا أمي..؟! ماذا تقولونَ يا إخوتي..؟! يا دكتور..؟! أخبرتِني يا أمي أنّ أبي قد ساءتْ حالتُه طوال الليل، وأنكِ اتصلتِ بإخوتي وبالدكتور، فبقوا عندكما حتى الصباح، وأبي يتقيّأ دماً، ويتألّمُ بشدّة.. انطفأتُ، يا أمي الغالية.. جلستُ على السريرِ في غرفتنا الوسطانية.. وضعتُ كفيّ على جبهتي، وأخذتُ أبكي بصمتٍ، وبحُرقة.. شاهَدْتُ أبي يخرجُ من بابِ البيت الداخليّ لآخرِ مرّة، وإخوتي يساعدونهُ بالخروج.. لم أنطقْ حتى بكلمةٍ واحدة… دخلتُ الغرفةَ، وأنا شبه متأكّدة أنني لن أراهُ ثانيةً…. بقيتُ مدةً لا أستطيع تقديرها، أبكي بصمتٍ حارقٍ، والكلّ يحتجّ على بكائي، يحاولون طمأنتي، لكنني لم أقتنعْ، ولم أستطع التوقفَ عن النحيب، حتى لو أغضبتهم جميعاً..

كانت معاناتُكَ يا أبي، خلال حياتكَ الغالية، منذ أن وَعَيتُ أنا على الدنيا، وحتى تلك اللحظة.. تمرّ أمامَ عينيّ، في شريطٍ طويلٍ، تستعيدُهُ ذاكرتي مرّاتٍ، ومرّات.. وكلّما وصلتُ إلى محطّة مهمّة، أوقِفُ الزمنَ عندها، ويزدادُ نحيبي،  وتتأجّجُ مشاعرُ الحزنِ، والقهرِ في روحي وقلبي وكياني.. فأشهقُ، وأشهقُ، ولا يوقفني تأنيبُ مَن حولي، أن لا داعي لكلّ هذا، قد يكونُ الأمرُ بسيطاً، لكنّ الطبيبَ فضّلَ أن يرسلهُ إلى المشفى العسكريّ في طرطوس، للإطمئنان…. كأنني لم أكنْ أسمعُ مايقولونَ، لأنني لستُ مطمئنة، وقلبي مقهورٌ.. مقهور…

استوقفَتني الكثيرُ من المواقفِ، المحفورةِ في ذاكرتي ووجداني.. كيومِ أتيتَني عندما كنتُ في الصف السادس الإبتدائي.. عام 1966م، قُبيلَ موعِدِ تقديمِ الطلباتِ لامتحانِ الشهادةِ الإبتدائية، بصوتِكَ الخفيضِ، المُترَدّد، شبه الخَجِل، ووجهكَ المضيء الراسخ.. لتسأني – وأنا لوحدي – أقرأ في أحد كتبي المدرسيةِ، بعدَ أن نامَ أخي الغالي الصغير الرضيع ..

-أودّ أن أستشيرَكِ بأمر..

الأستاذ (المُدير ) يقولُ لي.. يقولُ لي.. أنه.. أعني لأنكِ، لأنكِ تسهرينَ على أخيكِ، في الليل.. ولأنهُ ليسَ لديكِ وقتٌ  للدّراسة.. أعني.. قال… ممكن.. يتوقّع أنهُ منَ المُحتمَل ألاّ تنجحي بالشهادة.. فإذا رأيتِ أنهُ من المحتمَل – يا ابنتي – ألاّ تنجحي، قولي لي، ولا تخجلي.. كنتُ – كي أختصِرَ المَصاريفَ- وكي لا أتعِبَكِ، لا أرسلُكِ إلى طرطوس، للتقديم، وأسجّلكِ، فوراً، مع أخيكِ، في المدرسة الخاصة………….!!!!!!

قاطعتُكَ بالبكاءِ الساخطِ المُحتجّ على ماقالهُ الأستاذ – المُدير..

-لا والله ليسَ صحيحاً يا أبي..!! لا والله ليسَ صحيحاً.. هوَه يكرُهني… وأنا شاطرة.. لا تصدّقه ياأبي.. سأنجَح…

قاطعتَني بدفءِ صوتكَ المُطَمْئِن الحبيب:

-خَلَصْ.. خَلَصْ.. لا تبكِ.. أنا لا أصَدّقه.. لا أصَدّقه.. وأعرفُ أنك شاطرة.. ادرسي، يا ابنتي.. وستقدّمينَ، وتنجحين.. أنا أثقُ بكِ.

-سأنجحُ، يا أبي..

تنهّدْتَ بعمقٍ، وقلتَ لي – بثقة بالغة – :

– أنا متأكّدٌ من كلامِك.. أنا واثقٌ بكِ.. استعنّا بالله… لا يهمّك…

اجتمعنا في غرفة كان قد استأجرَها عَدَدٌ من طلاّب القرية الذين كانوا يكملون تعليمَهم في طرطوس، وقد أخلوها لنا بعد انتهاء عامِهم الدراسيّ.. نمنا فيها لمدة يومين.. كنا نقرأ ونحضّر للإمتحان، بجدّية بالغة.. وكان تقديمي أنا في (ثانوية البنات ) التي تعرّفتُ في باحتها على طالبةٍ لطيفةٍ ناعمة.. سألتُها من أين هيَ..؟! ( أنا حشرية كالعادة.. أحبّ التعارف… وما زلتُ يا أبي الغالي ) أجابتْ : من ( الخريبات )… أحببتُها واستلطفتها، ولم أعرفْ أين تقع (الخريبات ) سوى بعد أن كبرتُ وتزوّجت..

ونجحتُ، يا أبي، كما كنتُ أؤكّد، وكما كنتَ تتوقّع..

أثلجْتُ صدركَ يا غالي.. و (فقشت بعين الأستاذ– المُدير – حصرمة)..!! ونجح زميلايَ، وزميلتي، ودخلنا الصفّ الأول الإعدادي، الذي كان شعبةً واحدةً تُنشأ لأوّل مرةٍ في (الشيخ بدر ) كأساسٍ لمدرسةٍ إعداديةٍ رسمية.. درَسنا فيها على حساب (الدولة )…

……………………………. ويوم جئتُكَ أحملُ جلائيَ المدرسيّ في آخرِ الفصلِ الأولِ من العام الدراسيّ، وأنا في الصفِّ الخامس.. كانت المعلّمة الجديدة، من (السودا) قد أرسِلتْ لتعلّمنا في غرفةٍ إسمنتيةٍ في (بيت عزيز محمد ديب ) في الأندروسة.. لأنّ المدرسة الإبتدائية الوحيدة في (الشيخ بدر) لم تعُدْ تتسع.. أو، لأنهم كانوا لم يكملوا بناءَها بعدُ.. المهمّ أنه تبدّل علينا في الصف الخامس عدّة شباب لم يكمِلوا تعليمَهم بعدُ، ليعلّموننا، وكانت المعلّمة مُجبَرة على تجهيز (الجلاءات) في الموعدِ المحَدّد.. فأسْرَعتْ لتضعَ العلامات بشكلٍ عشوائي – على ما أظن – لأنها لم تكنْ قد تعرّفتْ علينا بشكلٍ جيد.. ولم تعلّمنا سوى أيام أو أسابيع قليلة.. لم أدركُ هذا إلاّ بعد أن كبرتُ.. وبقيتُ أكرهها لأنها ظلمتني.. ووضعتْ لي شائبتين على جلائي (وسط) في مادة (الرياضيات) وأخرى في مادة (اللغة العربية) لم أعتدْ حتى ذلك الحين، أن آخذ (وسط) في أية مادّة، فصُدِمْتُ….. لم أكنْ أخافُ من عقابكَ على ذلكَ يا أبي الغالي، لأنني ما اعتدْتُ سوى على تشجيعِكَ، ومُبارَكتكَ لتفوّقي في المدرسة، وفخركَ بي.. لكنني كنتُ خجِلة جداً، وأشعرُ بالظلمِ، والعار، وأنني سأسبّبُ لكَ الإحباطَ ، لأنني أخذتُ (وسط) في مادّتين، على غير عادتي.. فبقيتُ أبكي بسُخطٍ، وخجل، وبصوتٍ مرتفع، وأنا صاعدة على الطريق الذي كان ما يزالُ ترابياً، من المدرسة (الغرفة) إلى بيتنا في وسط (المريقب ) مع باقي الطلاب والطالبات، وأخي الأغلى (اسماعيل ) الذي كان يكبرني بعامٍ، وثلاثة أشهر، وبصفٍّ واحد، يحضنني، ويكادُ يبكي على بُكائي، ويطمئنني أنّ أبي سوف لن يعاقبَكِ.. فلا تخافي.. ولا تبكِ يا(فاطمة)………..

عندما وصلنا إلى عند دكّان خالي (الشيخ ابراهيم ) في أول القرية.. وصلتْ حَماسةُ الغالي أخي، وحِرصُهُ عليّ، أن تناوَلَ مني (جلائي ) كأنهُ يحملُ عني عِبءاً ثقيلاً، يريدُ أن يريحَني منه، كعادتِه..

رحمكَ الله يا أغلى الغوالي.. يا أخي وصديقي.. وروح قلبي ونور عينيّ وسَندي ودفء حياتي.. الذي سلبَهُ مني الموتُ، قبلَ أن يكمِلَ الرابعة والثلاثينَ من عمرهِ الغضّ..

ناوَلكَ أخي الجلاءَ، وهو يكادُ يبكي، ويكادُ يخفيني خلفَ ظهرهِ.. كنتَ تبتسمُ في وجهنا يا أبي.. وأنتَ تتناوَلُ الجلاء، وتضعهُ خلفَ ظهركَ، دون أن تنظرَ إليهِ، أو تقرأ ما فيه.. كانت ابتسامتُك الدافئة، المطَمئِنة، تزيد من خجلي وبكائي وإحساسي بالعار.. توَجّهتَ بكلامِكَ نحوي، عابراً أخي الغالي بنظراتك الحانية.. تبتسم، وتقول لي:

( – أنا لستُ مُصَدّقاً.. لا أصَدّقهم… لا تبكِ… خلص..)

مما جعَل أخي يسترخي، ويعود الإطمئنانُ إلى روحهِ الغالية… لكنني لم أنقطعْ عن البكاءِ، والخجلِ من النظر في وجهكَ الغالي مباشرةً…

…………….. تذكّرتُ يومَ أخبرتني أمي الغالية، أنكَ كنتَ في أحد الأيام تنتقدُ بعضَ التقصير من أبنائكَ وبناتكَ واحداً واحداً.. وواحدةً واحدة… كنتَ تريدنا نماذجَ لاتخطئ، ولا تتوانى.. مكتمِلين.. كما كنتَ تحلم يوم تزوّجتَ أمي (أتمنى من الله أن يرزقني سبعةَ شباب).. لكنها أخبرتني – أيضاً – أنكَ كنتَ تحضرُ مَجمَعَينِ من الشوكولا، حين تُرزقانِ بابنةٍ أنثى.. ومَجْمَعاً واحداً، حين تُرزقانِ بصبيّ ذكَر… كانوا جميعاً غائبين، وأنتَ وأمي لوحدكما، حتى وصلتَ بانتقادكَ لاسمي.. فتوقّفتَ، وقلت : ( وفاطمة…………. بس والله فاطمة ما بيطلعلنا معها….!!!) كم كنتُ سعيدةً يا أبي الغالي عندما أخبرتني أمي أنكَ قلتَ ذلك..!! أما زلتَ تثقُ بي يا أبي الأغلى..؟!! الحمد لله ثم الحمد لله.. كنتُ أعودُ وأحلّفُ أمي أن تقولَ الحقيقةَ، وألاّ تجاملني.. هل قلتَ (والله فاطمة ما بيطلعلنا معها )..؟!! فتُقسِمُ الغالية أمي أن ذلك حَصَل…. فأبكي من فرحي.. وأحمد الله كثيراً أنكَ تقدّرُ ظروفي..

تذكّرتُ، أيضاً، يوم (فَسّدَ) علينا أحَدُ جيراننا، الذي كان أخي (اسماعيل) يُقسِمُ أنّ له عينينِ إضافيّتينِ في رأسهِ منَ الخلف، لكثرة ماكان يرى الأذى، ويخبر به…. بأنهُ رأى (غزال، وكحال ) يرعيانِ في (الأذى ) في حقلِ جيراننا، عندما شَرَدا، ونحن نرعاهما مع بقيّة الدوابّ في (البستان) تحت بيت جدّي (الشيخ سليم) في الضهر… غافَلَنا الثورانِ الضخمانِ، ونحن نلعب، وراحا يأكلانِ بنَهَمٍ شديدٍ من زَرعِ بيتِ جيراننا الغضّ الأخضر، قبل أن ننتبهَ، ونردّهما إلى حقلنا… وعند عودتنا من (الرّعيّة) أمسكتَني من يديَ اليسرى وأخذتَ تضربني بكفّكَ القويّةِ على ظهري، وتأمرني ألاّ أعيدها… كنتُ خجلةً جداً، أكثرَ مما كنتُ أتألّم، لأنّ جارَنا كان حاضراً، وكنتُ أقتربُ من مرحلةِ الصّبا…

………….. ويوم قفزتَ من أمام (المقصَف) حيثُ كنتَ تجلسُ فوق دَرَجِهِ، بعدَ أن بناهُ صاحبُهُ على أرضِنا التي بِعتَهُ إياها أثناءَ إحدى الضائقاتِ الماليةِ الكبرى ( بستان الزيتون ) لم أكنْ أدركُ، وأنا أقفُ في منتصفِ الشارعِ الرئيسيّ، بقدرةِ قادر.. حائرةً، ماذا أفعل..؟! وكيفَ أتصرّفُ في أحرَجِ موقفٍ مَرّ بي إلى حينها.. كان زوجي قد سافرَ بعدَ أن أنهى إجازتَه القصيرةَ، وعادَ إلى قِطعتِهِ في الجيش.. وَدّعتُهُ في (بيت عمتي فاطمة ) الذي كانت تسكنهُ عمتي الغالية (ندّة) وعائلتُها، قبل أن يغادروهُ تاركينَ أغراضهم فيه، ويسافروا إلى (الرّقّة) حيثُ عُيّنَ زوجها (أبو نزار ) معلّماً فيها.. وتركتْ عمتي (ندّة) مفتاحَهُ معي، لأنتبهَ لها على أغراضها، وأشَمّسَ الفُرشَ، كي لا تتعَفّن… ودّعنا بعضَنا، وسافرَ زوجي في (سيّارة بديع) اللاندروفر.. الوحيدة في (الشيخ بدر) التي تُقِلّ الركّابَ إلى (طرطوس) ومن ثَمّ تُقِلّهم سيارةٌ أخرى ( قد تكون باص علي محمود، وسليم حبيب ) إلى (حمص) ومنها يركبون سيارةً أخرى إلى دمشق.. وبعدها إلى حدودِنا مع العدوّ الصهيونيّ، حيثُ كان زوجي يخدمُ في (رَخَم).. نزلتُ بَعدَهُ، بعدَ أن تبادَلنا القُبَلَ الحارّة.. وكانت دورتي الشهرية في بدايتها، فتناولتُ قطعةَ قماشٍ قديمةٍ من بيت عمتي، طوَيتُها جيداً، وجعلتُها (حِفاضاً) بدونِ أن أثبّتها ب (شَنكَل ) ولم أصِلْ إلى الشارعِ حتى كادت تقع…. فتجَمّدْتُ في مكاني، حائرةً، مُحرَجةً، لا أعرفُ كيفَ أتصرّف. لم أكنْ أعرفُ أنكَ كنتَ هناك، ولا أنّكَ كنتَ تراقبني يا أبي الغالي. لم أرَ إلاّ شَبَحاً لشخصٍ يقفزُ من فوق دَرَجِ المقصفِ، ليلتقطَني من ساعدَيّ بقوّةٍ وحنان (- تعالي.. تعالي، يا ابنتي.. لا تخافي.. مابكِ، يا ابنتي..؟! ).. (أكادُ أفقدُ توازني.. جاءَتني الدورةُ الشهرية.. ).. ( تعالي.. على مَهلِك.. اجلسي معي في المقصف.. ارتاحي قليلاً.. لا يهمّك.. لا تخافي..!! ).. لم أكدْ أجلسُ على الكرسيّ أمام إحدى الطاولات في مكانٍ مُريحٍ اختَرتَهُ أنتَ يا أبي، حتى طلبتَ لي زجاجة (كازوز ) من النادِل.. أرخَيتَ زندي، عندما اطمأننتَ أنني جلستُ جيداً.. لكنني طلبتُ أن أدخلَ (الحَمّام ) رافقتَني إلى بابهِ، وانتظرتَني في الخارج.. سَوّيتُ الخرقةَ جيداً، جَعَلتُ طرفَيها يخرجانِ قليلاً، فوق بطني وظهري، ليثبتا جيداً ب(المطّيط).. وخرجتُ، واحتسيتُ (الكازوزة ) وأنتَ بجانبي، تداريني كي لا أشعرَ بالمزيدِ من الخجلِ، أو الخوف……………..!!

تذكّرْتُ، أيضاً، حادثةً مازالوا يروونها كلّما ذُكِرَتْ تلكَ الأيام.. يوم مَرَرْتَ، وأنتَ ترعى الماعزَ، والخراف، من أمام بيت (رئيسِ المخفر) في (الأندروسة) فقالتْ لكَ (مَرت رئيس المخفر): (ولاك…!! جيب هالعنزة بدّي احلب منها شويّة حليب…………..!! ) فأجَبَتَها: (- أنتِ، وليكْ…!! ما رَح جيبها..!!)

فاستشاطتْ غضَباً، وأمَرَتِ الشرطةَ أن يحبسوكَ في المخفر.. وبسرعةٍ بالغة، وصلَ الخبَرُ إلى أبيكَ (المجاهد البطل، العقيد، في ثورة المجاهد الشيخ صالح العلي ) فنزلَ مُسْرِعاً، ليحلّ المشكلة.. فزجّوهُ، أيضاً، في السجن، لأنهُ كان يدافعُ عنكَ، ياغالي. فوصَلَ الخبَرُ إلى أهلِ القريةِ، الذين كانوا يدرسون زرعَهُم على البيادر. فأسرَعَ كلّ منهم حاملاً ما تيسّرَ لهُ من سلاح… قَظْمة.. رَفش.. مَنكوش.. مْهَدّة.. غِربال.. فأس.. مِدري.. حَجَر.. عَصا.. خَشبة.. إلخ… وأحاطوا بالمخفرِ من كلّ الجهاتِ، مُهَدّدينَ رئيسَ المخفرِ والشّرطة، أن يُفرِجوا عنكما.. وإلاّ سيحرقون المخفرَ بمَن فيه، ومافيه… فطلَبَ رئيسُ المخفرِ النجدَةَ من طرطوس.. فجاءَتهُ.. وحاصَرَتِ الآليّاتُ العسكريّةُ المخفَرَ من كلّ الجِهات، مُهَدّدَةً، مُتَوَعِّدَة…… فأرسَلَ جدّي رجُلاً يخبرُ (الشيخ صالح ) الذي كان في قريةٍ بعيدة.. فجاءهُ الردّ القاهرُ، وغيرُ المُقنِع (اتركوه.. عَلَّ نفسَهُ تلينُ قليلاً.. ).. وبعد الحادثة بمدّة، تأكّدَ أنّ الخبرَ لم يصِلْ إلى (الشيخ صالح ) وإنما فُبرِكَ رَدُّه…..!!!!!!!

كانت عمتي (ندّة) تخبرُني أنكَ كنتَ الإبنَ المفضّلَ، والمُدَلّلَ، عندَ أبيك.. وأنكَ كنتَ أملَهُ، وفَخرَه.. وبعد وفاتكَ، يا أبي الغالي، أخبرني أحدُ إخوتي، أنكَ بقيتَ تنفقُ عن روحِ أبويكَ، إلى حينِ وفاتِك.. وأنكَ أرسلتَ معهُ، قبلَ وفاتكَ بقليل، كميةً منَ النقودِ ليعطيها ل (عمّي) صَديقكَ، في (كوكِب الهَوى ) لأنكَ ظنَنتَ أنكَ لم تفِهم حَقّهم، همُ الذين كانوا يهتمّون بأبيكَ أثناءَ مرضِهِ بالشلل النصفيّ.. حيث كان يمشي أحياناً، ولا يستطيعُ أقوى الرجالِ أن يردّوه.. وأحياناً يصلُ إلى (كوكِب) حيثُ كانتْ لهُ ذكرياتٌ لا تُنسى معَ رجالِها المُجاهِدين، أثناءَ (الثورة ) ضدّ الغزاةِ الفرنسيين.. كنتَ في الأرجنتين، في تلكَ الغُربةِ البعيدة، أثناء مرضِ أبيك. وكان الغالي أخي، ابنكَ البِكْر، بعُمرِ أشهر، حين أتاكَ الخبرُ القاهر.. كانت (عمتي فاطمة ) التي تكبرُكَ بعامين، أو أكثر، والتي أدخَلَها جدّي المدرسة مع الصبيان، آنذاك.. لكنها لم تلبثْ فيها سوى سنواتٍ قليلة.. حيث خَرَجَت من تلقاء نفسها.كانت شخصيّتها قويّةً، وماتزال.. كما رَبّاها أبوها.. واحتجّتْ أنها لا تريدُ البقاءَ لوحدِها تدرسُ مع الذكور… مما أزعَجَ جدّي، لكنهُ رضخَ لرأيها. وهي التي عانتْ معهُ أثناءَ مرضهِ، أكثر ممّا عانى الجميع، إلى دَرَجةِ أنّ البعضَ ظنّ أنها سوف لن تُنجِب.. أو أنها ستبقى مُرهَقة الجسدِ إلى درجة الإعياءِ طول حياتها، لكثرةِ ما تعبتْ في بيتِ أهلِها، ومع أبيها المريض، الذي منحَها الثقة التامّةَ، خصوصاً أنكَ الأملُ الغائبُ البعيدُ، يا أبي الغالي…

تذكَرْتُ ماحَدّثَتني بهِ حبيبتُكَ، أميَ الغالية… أنهُ ، ذات يومٍ، بعد الغروبِ بقليل، كنا أنا وأخي (اسماعيل) نلاقي لكَ، وأنتَ عائدٌ من (الفلاحة) تحملُ (النّيرَ) على كتفِك الصّلبِ، وتسوقُ أمامَكَ الثورَين الضّخمَين، المُجهَدَين.. كنا نُمسِكُ بيدِ بَعضِنا، ونسيرُ غرباً نحوَ (بَيدَر الخاليّة) ويبدو أننا نحنُ الصغيرَين، خِفنا منَ الظلام.. وعندما بدَوْتَ لنا، قابَلناكَ بابتسامةِ فرَحٍ، وفَرَجٍ، قائِلَين: (والله يا بَيّي، فكّرناكْ جَكَل “جَقَل” ..!!) فضَحكتَ لنا، ياغالي، وحَمَلتَنا كلّاً على زَند، حتى أوصَلتَنا إلى أمامِ البيت، وحَدّثتَ أمي بما جرى….

……………………… تذكّرتُ يوم رنّ الهاتفُ في بيتنا في الضهر، قبل مطلعِ الفجرِ، في الثالثةِ صباحَ يومِ الجمعة الثاني من أيار عام 1986م………………………… آآآآآآآآآآآخ…..!! الحمد لله……….. أسرَعَ زوجي ليردّ على الهاتفِ، بينما أنا بقيتُ في السريرِ أنتفضُ، وقلبي يكادُ يخرجُ من صدري.. لا أستطيعُ النهوض.. راحَ زوجي يتلمّسُ صدرَهُ، ويحرّكُ رجليهِ حركاتٍ متتابعةٍ لا إرادية.. وتخرجُ من صدرهِ كلمة ( يا ألله.. يا ألله.. يا ألله ) وهو يستمعُ إليكَ من الجانب الآخر من الشريطِ الهاتفيّ… كنتَ تخبرُهُ بوفاةِ الغالي……… خِفتُ عليهِ، أكثرَ مما خِفتُ على نفسي، يا أبي… عندما أرخى السماعة وراحَ يمشي في الغرفة ويزفر ( يا ألله ).. نهضتُ من سريري، مُستعِدّةً لكلّ الإحتمالات… وأنا أكادُ لاأحتملُ شيئاً أكثر مما كان بي يا أبي… حضَنتُ جذعي بساعديَ الأيسر، وبالأيمنِ كنتُ أربتُ على كتفِ زوجي، وأرجوهُ التماسُك  (يموتوا كلّ الناس، لكن، أنتَ لا يحدثُ لك شيئاً، ياحبيبي…. لكنْ، أخبرني… قل لي: إخوَتي؟!! أو إخوتك…؟!! قل لي..!! إخوَتي أو إخوتك..؟!! ( ولكْ يا فاطمة، هل إخوَتكِ ليسو إخوَتي….؟! ) .. ( أخي اسماعيل..؟؟!! ).. (نعم )…. (اغتيال..؟! )….. (لا… حادث سيارة.. ).. ( يعني.. راح..؟!!! ).. ( لا.. يمكن يقولونَ أنه مازالَ في المشفى لكنّ حالتَهُ خطيرة )… ( لا….. لا…. راح…. راح أخي…… آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ……….آآآآآآآآآآآآآآآخ………. يا أللــــــــــه.. كيفَ سأقدرُ على لفظِها ..؟؟!! كيف……؟؟!!! آآآآآآآآآآآآآآآخ يا أخي.. آآآآخ…. ألله… ولك آخ….. أللــــــــه… آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ….. ألله يرحمك………… آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ ياأخي…..!!!! )

لم أكنْ أريدُ النزولَ إلى بيتِ أهلي.. لا أحتمِلُ السيرَ على قدَمَيّ في الأيامِ العاديةِ، فكيفَ أستطيعُ ذلك بعدَ فقداني لما تبقّى من طاقتي على التحمّل….؟!! لكنّ زوجي شجّعني وقال : كيف .؟ لا بدّ أن تنزلي.. أنا أسندك…

وعندما وصلنا إلى أمام بيتنا – بيتكم – بيت أهلي، كان أبي يصلّي رائحاً غادياً على الشرفةِ الغربيّةِ، بتوتّرٍ بالغ.. وحين رآني، ركضَ نحوي نازلاً دَرَج الشرفةِ، بسرعةٍ بالغةٍ، كأنهُ مازالَ شاباً عشرينياً.. احتضنني بقوّة، وهو يبكي.. ضمّني إلى صدرهِ القويّ الحنون.. وراح يقبّلني ويقبّلني كأنهُ يحميني من الموتِ المؤكّد الذي كان يتوقعهُ لي، عندَ سَماعي خبرَ أخي الغالي الذي كان يرتبطُ اسمُهُ باسمي (اسماعيل وفاطمة ) كأننا توأم.. قبل ذهابهِ إلى الكلّية الحربية في (حمص) وقبلَ زواجي.. دخلتُ البيتَ يسندُني أبي وزوجي.. وجدتُ بقيّةَ أهلي مجتمعين، والدكتور (صالح). فوجئتُ بوجودِ زوجةِ الغالي، وطفلتِهِ ذات السنتين ونصف، وطفلهِ، الذي لم يكنْ قد تجاوَزَ الخمسة والأربعين يوماً.. أخبروني أنهُ أرسَلهم صباح الأمسِ من حلب.. ودّعَهم بحرارةٍ ودموعٍ سخيّة.. وأوصى السائقَ ألاّ يسرع.. وأخبرَ زوجتَهُ أنهُ لن يستطيعَ اصطحابَهم، لأنّ أحوالَ البلادِ سيّئةٌ للغاية.. التفجيرات.. والإغتيالات..  ولم يكنْ قد مضى سوى عدّة أيامٍ على تفجيرِ الباصاتِ التي كانت قادمةً من دمشقَ إلى الساحل، عشيّة  عطلةِ (عيد الجلاء) في السادس عشر من نيسان 1986م.. وحوالي يومَين على تفجيرِ القطارِ الذاهبِ من حلب إلى اللاذقية.. وقبلها مجزرة (مدرسة المدفعية).. وغيرها.. وغيرها.. أخبرتَ زوجتكَ أنكَ ستسافر إلى (جبلة) لتعزّي بضابطَينِ صديقينِ حَميمَن، من أشرَفِ مَن أنجبتْ سوريا.. كانا قد اغتيلا منذ عدّةِ أيام، ولم تستطعْ تركَ عملكَ، لتأديةِ آخرِ واجبٍ من واجباتكَ تجاههما.. وهو تعزية أهلهما باستشهادهما.. سهرتَ حتى قُبيلَ الفجرِ مع زوجتك.. كنتَ تبكي بحُرقةٍ، وأنتَ تذكرُ المآسي التي شاهدتَها، وأنتَ تقومُ بواجبكَ تجاهَ وطنكَ الأغلى مع رفاقكَ في الجيشِ، وأنتم تبحثونَ بين الأشلاءِ المُبعثرة.. أخبرتها: ( ولِكْ يا(سلوى ى ى ى ى ى) …!! لو أنكِ رأيتِ الجثثَ، كيفَ كانت، يا (سلوى)…!! ولكْ آآآآآآآآآآآآآخ…..!! كدنا ننتهي من مَهَمّتنا تلك، ونعودُ إلى حلب.. لكننا سمعنا بكاءَ طفلٍ يستغيثُ من بعيد… شَنّفنا آذاننا، واستعنّا بالأضواءِ الكاشِفَةِ التي نحملها، لنتأكّد من مكانِ الصراخ.. ظننا أنها أصواتُ الرياحِ الشماليةِ الجافّةِ، القاسية.. لكننا عُدنا وتأكّدنا أنهُ صراخُ طفل….. وبعد لأيٍ، وبحثٍ في كلّ مكان، صار الصوتُ أكثرَ وضوحاً.. فصرنا نقتربُ من مصدَرِهِ، حتى وصلنا… وإذا بطفلةٍ صغيرة…. صغيرة جداً، يا (سَلوى)… تصوّري….!! كانت ترتعدُ من البردِ، والخوفِ، وهي شبه عارية.. قذفتْها شدّةُ الإنفجارِ، من بين أحضانِ والدَيها، إلى مسافةٍ بعيدة… بقي لها عمر… أسرَعَ أحدُ الضبّاط، وخلعَ (الفيلت) العسكري الذي كان يرتديه.. ولَفّ الطفلةَ بهِ، وحَمَلناها إلى السيارةِ، وانطلقنا بها إلى المشفى في (حلب)…. آآآآآآآآخ… يا(سلوى)…!! آخ…!! إذا حَدَثَ لي شيءٌ، انتبهي إلى الطفلَين.. !!)

أخي….

بعدَ وفاتِكَ بدقائق، أذاعت إحدى الإذاعات العِراقيّة التحريضيّة، أنهُ (قُضيَ على……………… إلخ)…..

ألله يقضي على الظالمين….. ياااااارب….

_________________________________________________________

 

……….. وكيف دخلتَ الغرفةَ، مساءَ أحدِ الأيامِ التي تَلَتْ رحيلَ الغالي، عندما سمعتَ أصواتَنا تعلو.. كان أخي الغالي، العائد حديثاً من (رومانيا ) مُحْضِراً معهُ شهادتَهُ الجامعيةَ في (الهندسةِ المدنية) كان يلومُني لأنني أقبّل الشبابَ، رفاقَ أخي الغالي، ونحن نبكي وهم يعزونني بوفاته.. كنتُ أواسيهم، وأقول : ألله يرحمه.. وألله يعوّضنا سلامتكم أنتم.. لأنكم بدائلُ عن أخي.. وجَدتَني أبكي بحُرقةٍ، وكنتَ تعرفُ أنهُ لم تكنْ تنقصُني حُرقة.. بل، كنتَ تظنّ أنني سأموتُ، فور سماعِ نبأ رحيلِ شَقيقي وتوأم روحي.. فاستشَطتَ غضَباً، ( أيها القاسي)…!!!!!!! آخ….!!ونهَرْتَ أخي، ألاّ يزعجني بأيةِ كلمة (هذهِ ابنتي، ابنتي…!! هل فهِمتَ ماذا تعني، ابنتي..؟!! أقسمُ بالذي لا إلهَ إلاّ هو، إن عُدتَ، وأزعَجتَها، حتى بكلمة، سأكسرُ فمَك… فهمتْ ولاك..؟!! ) قلتُ لك : (هوَ لا يزعجُني، يا أبي.. لكنني مَقهورة جداً… ) وهَدّدتَهُ، إن عادَ ورفعَ صوتهُ في وجهي، أو إن لم يلتزمْ أدَبَهُ، ولا يحترم الجميع ( وإلاّ.. اخرجْ خارجَ هذا البيت.. ولا ترجع.. ).. وكان قد عادَ من (رومانيا ) ناقماً على مايحدثُ في البلاد .. لم يكنْ حاضِراً ليشهَدَ قتلَ الضباطِ، والعلماءِ، والأساتذةِ الجامعيين، والإعلاميين، والمُحامين (د. محمد الفاضل) مثلاً.. وغيرِه.. وغيرِه.. من كلّ (الطوائف) والإنتماءات… كما يحدث الآن.. وغير ذلكَ من أحداثِ القتلِ، والتفجيرِ، والتخريب.. لكنّ وسائلَ الإعلامِ لم تكنْ تصلنا بهذهِ القوّة، وهذا الوضوح، وهذا التوثيق.. كان أخي صادقاً جداً.. نبيلاً جداً.. كان يدرُسُ جيداً، في الوقت الذي كان زملاؤهُ في الشّقةِ، يشترونَ شهاداتهم بالنقود.. ويتفرّغون لملذّاتهم.. ويسخرونَ من (جِدّيتِه) فينهرهم بقولِه: ( اخجَلوا..!! أنا أبي يُعلّم عشرةَ أبناء وبنات، في المدرسة.. ) لكنهُ – في الفترةِ الأخيرة- قُبيلَ عَودَتهِ، طلبَ منكَ كميةً منَ النقود.. استدَنتَها يا أبي… وأرسلتَها له… وعندما عادَ من غُربَتِهِ، سألتَهُ لماذا طلَبَها..؟! لكنهُ لم يخبرْك.. لم تكنْ تشكّ، يوماً، بنزاهَتِه… لأنكَ تعرفُ مَن رَبّيتَ، وكيف، وعلى أيّةِ قِيَمٍ نبيلةٍ رَبّيتَنا.. لكن كان مِن حَقّكَ عليهِ أن تعرِفَ أينَ صَرَف تلكَ النقود.. لكنه أبى أن يقول…….!! مما أثارَ حفيظتَكَ، وحفيظةَ الجميع… وبدأتِ المشاكلُ تكبرُ، وتكبرُ، بينهُ وبينكَ وبينهُ وبينَ العائلة…. وفي أثناء هذا التأزّم.. توفي الغالي……

…………. تذكّرْتُ رسالتًكَ التشجيعيّةَ لي، عندما كنا أنا وزوجي في (المَغرِب) ردّاً على رسالةٍ مني، أخبرُكَ فيها أنني أقضي وقتَ فراغي بدِراسةِ اللغةِ الإنكليزية، الجزء الأول من (سلسلة بي بي سي) الذي استأذنتُ زوجي، فشجّعَني، وأعطاني نقوداً.. فاشتريتُها من دمشق (وهي عبارة عن كتاب، وأربعة أشرطة كاسيت، تعلّمُ اللفظ الصحيح”..)

أذكُرُ سُرورَكَ البالغَ، البادي في تلكَ الرسالة، لأنني أملأ فراغي بأشياءَ مُفيدة.. (إن شاء الله، ستكونينَ مَرْجِعاً لإخوتِك، في اللغة الإنكليزية، عندما تعودون بالسلامة إلى الوطن..)

 

 

………. شريطٌ من الذكرياتِ، عَبَرَ، وأقامَ في روحي.. أو أنهُ بالأصلِ، لم يبرَحْها حتى ولو للحظة.. أحاولُ أن أفرِغَ بعضاً من نزيفِهِ على هذه الصفحات، لأعطيكَ بعْضَ بَعْضِ حقّكَ، الذي لم يُعْطِكَ إياهُ أحدٌ في حياتكَ يا أبي.. لكن… آآآآآآآخ…!! حاولتُ أن أفهِمَكَ بعضَ الأحيان، وأنتَ بيننا، أنني لا أحبّكَ – فقط – لأنكَ أبي، ولا أحترمُكَ – فقط – لأنك أبي أيضاً، وبالمُقابل، لا أؤلّهُكَ، ولا أؤلّهُ غيرَك، لكنّ الحوارَ بيننا كان قليلاً جداً.. لذلك… لم نفهمْ بَعضَنا جيداً، يا أبي…. فظلَمْنا بعضَنا.. وأتَحْنا للآخرينَ أن يظلمونا…………………..

كنتَ، بينَ فترةٍ، وأخرى، عندما يصبحُ معكَ بعضَ النقود، إما من بيعِ قطعةِ أرضٍ، أو من إنتاج (المدجنة)أو بيع أو تأجير محلّ بَنيتَهُ لنفسِ الغرضِ في (الشيخ بدر) كنتَ تجمعُنا نحن بناتكَ الأربع.. تناولنا بالتساوي كميّةً منها.. ألفين لكلّ ابنة، أو خمسة، أو عشرة، أو خمس عشرة، أو.. أو… حسبَ طاقتِك… وتقول لنا : اصرفوها على أنفسِكنّ.. ولا تخبرنَ أزواجَكُنّ…………………..

عندما قبَضتْ أختي أوّلَ راتبٍ من (مِصفاةِ بانياس) حاوَلتْ أن تعطيكَ من راتبها، وأن تعطي أمي، لكنّكَ رفضْتَ رفضاً قاطعاً، أيها الأبيّ الشهم، قائلاً لها : لا تُعيديها أنتِ أو أيّ أحدٍ من إخوتك… نحن ربّيناكم وعلّمناكم كواجبٍ علينا، لأنكم أبناؤنا وبناتُنا… ولا نريدُ على ذلك جزاءً، ولا شُكورا………….. كونوا بخير….. ولا تفكّروا بنا……. وبقيتَ تساعِدَنا مادياً، ومعنوياً، حسبَ طاقتكَ التي بدأتْ تضعفُ بالتدريج، إلى أن وصَلَ الأمرُ أن كتبتَ باسمِ كلّ ابنةٍ منا قطعةَ أرضٍ في (أرض الوَتد) قربَ (وادي وَروَر) بنفسِ المساحة تقريباً.. وتركتَ بيننا قطعة لك، قلتَ أنهُ ربما سيمرّ فيها، يوماً ما ، طريقٌ يقطعُها، فليأخذ الطريقُ أرضَكَ، ولا يمَسّ أرضنا… ياغالي………………….. قلتُ لكَ، وأنا أبكي حينها، وأنا أراكَ تُجْهِدُ نفسكَ المُجهَدَة بالأصل، لتضَعَ أحجاراً كبيرةً بين كلّ قطعةٍ، وقطعة، بمساعدةِ صِهريّ : – بأيّ حَقّ تعطينا هذا يا أبي..؟! أجَبتَني، والعرَقُ يتصبّبُ من وجهكَ الطاهر، وجبينِكَ الأسمر : – بحقّ أنكنّ – بواسطتنا – أتيتنّ إلى هذه الدنيا…. وعندما نموت، سيكونُ أيضاً لكُنّ حَقّ من الإرث.. ولكُنّ أيضاً حقوقٌ من أزواجكنّ…………… وازادَ نحيبي وقهري وفخري، وقلَقي عليكَ، فقلتُ لك : – من يدري..؟! قد نموتُ قبلَكَ بخمسين سنة… ألم يفعَلها أخي (سماعيل) قبلنا..؟!! ثمّ إنكَ أعطيتَنا حقوقنا وأكثر، من زماااان.. يا أبي… غصَصْتُ.. غَصَصْتُ.. وأنا أنظرُ إلى وجهكَ المُرهَقِ، وجَسَدِكَ الحبيبِ، المُتهالك، وأقرأ في تعابيرِهِما شَقاءَ عمرٍ قضيتَهُ في الكفاحِ من أجلِ الحياةِ الحرّةِ الكريمةِ، لكَ، ولنا، وللوطن الغالي، ولكلّ مَن عرفت……………

لكَ المجدُ والرحمة.. أيها الرجلُ، الرجل……………… أرجو أن تكون سعيداً حيثُ أنتَ ياغالي.. وأن تحظى بسعادَةً وراحَةً أبديّةٍ، تستحقّها يا أبي…..

كلّما اختصَمَتْ زوجَةٌ مع زوجها، تلجأ إليكَ، حتى لو كنتَ نائماً، أو مريضاً، أو مُتعَباً.. لا يهمّ….. ولم تخذلْ أحداً….. ما أزالُ أذكرُ أنكَ كنتَ بعدَ كلّ صلاةٍ، تخرجُ إلى السطح ( أيام كان البيتُ طينياً ) وإلى الشّرفةِ الغربيةِ (بعدَ أن بنَيتَ لنا بيتنا الإسمنتيّ الحاليّ عام 1967م ) تتمشّى، جيئةً، وذهاباً، لمدةٍ طويلة.. لا يُقلِقُ خلوّكَ إلى نفسِكَ أحد.. أو أنكَ لم تكن تسمحُ لأحدٍ أن يقطَعَ عليكَ سلسلةَ أفكاركَ، وأنتَ تقرأ وتفتّشُ وتمحّص، وتعودُ لتستنجدَ بالقرآنِ الكريم، وبالكتُبِ الموروثةِ عنِ الآباءِ والأجدادِ، لتجدَ الحلولَ الأسلَمَ، والأكثرَ عدلاً… وتوصي لصاحِبِ، أو صاحِبةِ المُشكلة.. فيحضرون… فتشرَحُ لهم مَوقِفَ العُرْفِ، والقانونِ، والدينِ، من مَشاكِلِهم، وتفتي لهم بطريقةِ حَلّها…. قراراً غيرَ مُلزمٍ لأحد، لكنّه الأكثرُ عدْلاً، حَسبَ معرفتِك…. تحَضّرُ لهم أميَ الغالية، الضيافةَ، التي قد تكون غداءً، أو فطوراً، أو عشاءً، أو، قهوةً، أو مَتّةً، أو شاياً، أو بعضَ الفواكه… أو كلّها….. قبل أن يغادروا بيتكَ العامر بالخير، يا أبي الأغلى………………….

ناهيكَ عن استقبالِ الضيوف الآخرين من القرى البعيدة، الذين يأتونكَ زائرينَ، أو طالبيّ حاجةٍ مادّيةٍ، أو معنويّة… وقد ينامون في بيتنا يوماً، أو أكثر، قبل أن يعودوا إلى قراهم، أو مُدُنهم………. بعضُهم كان يأتي من (طرابلس ) في (لبنان).. وبعضهم من (طرطوس) ومن (اللاذقية)و (جَبلة) ومن (حلب ) و (الحسَكة ) و (دمشق ) و (بلاد الشرق ) ومن بلادِ المَهجَر، وغيرها…..

ويومَ أخبرتني الغالية أمي، أنّ دموعَكَ نزلتْ، وأنتَ تنهى (صديقكَ ) عن اصطحاب زوجتِهِ إلى (الجرد ) ليعودَ ويسكنَ معها في بيتهم القديم في قريتهِ الأصليةِ التي تركَها مع عائلته منذ عشرات السنين، واشتروا أرضاً في (الشيخ بدر) فوق السوق الرئيسيّ، وبنى هو وإخوته وأخواته بيوتاً فيها، واكتسبوا سمعةً طيبة.. وكانت زوجَتُهُ محبوبةً جداً من جاراتها، ومحترمة.. فرحتَ ترجو زوجَها (صديقك) ألاّ يفعل.. وألاّ يجعلها تتركُ بيئةً كانت قد انسجمتْ فيها، وجيراناً، وصُحبةً اعتادتهم، واعتادوها.. بيئةً غنيّةً بالتنوّعِ، وعامرةً بالألفةِ، والإحترام المُتبادَل.. كانت تظنّها أبديّة….

 

………. تذكّرتُ يومَ اكتَشَفْتَ، صُدفةً، أنّ ابنتَكَ شاعرة.. أمسَكْتَ دفتري، ورحتَ تقلّبُ صفحاتِهِ، وتقرأ بإعجابٍ بالغٍ، بعضَ قصائدي.. وأكثر قصيدة أثارتْ إعجابكَ، هي قصيدتي عن حفيدِكَ الأوّل، الغالي (فادي).. تهَلّلَ وَجهُكَ النورانيّ الأسمر.. ( دائماً، كانوا يقولونَ لي أنني أشبهُكَ، يا أبي الغالي ) وأنتَ تروحُ وتجيءُ في بيتنا في (الضَّهر) وتُنشِدُ أبياتَ القصيدةِ العموديّة.. وكنتَ تعشقُ الشعرَ العوديّ، وتكتُبُه.. تردّدها على مسامِعِ زوجي وصديقكما.. وترَدّدُ – كَمَنِ اكتَشَفَ سِرّاً خَفيّاً : ( وإذا كانتِ النفوسُ كباراً…. تَعِبَتْ – في مُرادِها – الأجسامُ )..

_________________________________________________________

تزوّجْتُ مُبْكِراً، يا أبي..

خَطَبني زوجي، بعدَ حصولي على الشهادة الإعداديةِ الرسميّة.. في العاشر من تموز عام 1969م.. وعَلّمني، وكانَ مدير مدرَسَتي، في الصفّ العاشر.. وكنّا أول صَفّ سابع، وأوّل صَف عاشر في أوّلِ مدرسةٍ رسمية.. وبعد ترفّعي إلى الصفّ الحادي عَشَر، تزوّجنا… لم تكنْ راغباً بهذا الزواج المُبْكِر.. وكنتَ قدِ اتفقتَ مع خطيبي أن أبقى مخطوبةً إلى أن أحصَلَ على الشهادةِ الثانوية (البكالوريا) لأنكَ كنتَ حريصاً على أن نتعلّمَ قدْرَ المُستطاع، وأن نكونَ مُنتجين، ومُستقلّينَ اقتصادياً.. صبياناً، وبناتاً.. لكنّ خطيبي كانَ قد أقنَعَني أنّ علينا أن نتزوّج.. وعندما اعترَضْتُ أنني سأكمِلُ تعليمي – كما اتفقنا حين وافقتُ على الخطوبة – وَعَدَني أنّ باستطاعَتي إكمالَ تعليمي بعدَ الزواج.. فطلبْتَ من أمي الغالية، أن تتأكّد من ذلك.. فأجَبْتُها بالإيجاب.. فوافقْتَ، غيرَ مقتنع..

اصطحَبْتُ معي إلى دارِ الزوجيّة، (بدلةَ الفتوّة).. وعندما اقترَبَ موعِدُ افتتاحِ المدارس، أخرَجتُها لأغسلَها، وأكويها، تحضيراً لعَوْدَتي إلى المدرسة.. لكنني صُعِقْتُ، عندما قال لي زوجي بلطافةٍ، ولكن بتأكيد : فاطمة، لايسمحون لكِ بالعَودةِ إلى المدرسة، لأنكِ متزوّجة… صرَختُ في وَجههِ، باكيةً، مقهورة : أنتَ وَعَدْتَني أنني سأكمِلُ تعليمي بعد الزواج..!! فأجابَني بلطافةٍ، أيضاً : وأنا عندَ وَعْدي.. لكن عليكِ أن تدرسي في البيت.. وأنا أؤمّن لكِ المُدَرّسين.. أعني  (دِراسةً حُرّة )…!!! كانَ عليهِ أن يُفهِمَني ما معنى (الدّراسةَ الحُرّة).. وجُنِنْتُ، يا أبي….. إذن.. انقطَعتْ صِلَتي بالمدرسة، وشقاواتها… انقطعتُ عن كتُبي وزميلاتي وزملائي.. عن أساتذتي وباحةِ المدرسة.. وعن اللهوِ في ساقية (عين الشيخ بدر) وعند (نبع الحلو) و… و… و…. و…. إلخ صِرْتُ امرأة… لم أعُدْ طالبةً متعطّشةً للحياةِ والعلمِ والمعرفةِ والشقاواتِ والطموحِ اللّامحدود…. انتهى طموحي يا أبي الغالي…..

كانتْ أمي تؤكّدُ لي، وهي تبكي عليّ، أنني كنتُ أتجَنّبُ السيرَ في الطريق، أو الظهور، عندَ خروجِ زملائي وزميلاتي من المدرسة، وعودتهم إلى بيوتهم..

أذكُرُ أنكِ، يا أميَ الغالية، جَذَبْتِني، مَرّةً، من كتفي، وأنا أتناوَلُ منكِ (صَينيّةَ العديس) لأنقّيه.. في بيتكم – بيتنا – بيت أهلي.. وأنتِ تطبخين، وإخوتي في مدارسهم.. ولا أحدَ في البيت غيرنا نحن الإثنتين.. وهزَزْتِ صَمتي غيرَ المألوفِ، صارخةً، دامعة :

( ولِكْ وينا فاطمة..؟! وينا..؟! وينااا!!!…؟! )… فتساقطتْ دموعي وامتزَجَت بدموعكِ على خَدّ كِلينا، يا أميَ الغالية..

 

 

كانَ المَرَضُ عبارةً عن رَفضٍ للواقع.. تعبيراً عن عَدَم استطاعتي المواصلة في طريقٍ مسدود.. واقعاً آخرَ، شكّلَتْهُ وسائلي الدفاعيةِ، كشرْنَقةٍ، أو ككهفٍ مُظلمٍ، أو جزيرةٍ نائية، أختبئ وأحتمي في غياهِبها المنعزلة، فيكون لي عالمٌ صغيرٌ ضيّقٌ مَحدودٌ وواضح، أستطيعُ التكيّفَ فيه مع أموري البسيطة، ومشاكلي المحدودة، التي تكفَلُ لي البقاءَ حَية.. فالعالَمُ الواقعيّ الجديد، ليست لديّ به أيّةُ خِبرة.. حتى ناسَهُ كانوا غريبين عني.. لم أستطع أن أشاركَهم اهتماماتهم، ولا أن أستغني عنهم.. وكان على مدير مدرستي، أن يصبحَ (زوجي) و (حبيبي).. وكان على (جَدّي الشيخ محمد علي) أن يصبحَ (عمي)و (ستّي أم علي بَدْرَة) أن تصبحَ (حماتي)و (عمتي عليا)أن تُصبِحَ (بنت عمي ).. أبناء، وبنات سلفي الأكبر (علي ) أبو صالح، كان اثنانِ منهم أكبرَ مني.. وأمهم (سلفتي ) أكبر من أمي بأكثر من عامَين… كلهم كانوا يُكمِلونَ تعليمَهم.. وأنا أزدادُ قهراً، وإحساساً بالدّونيةِ، التي كان الكثيرونَ يُكَرِّسونها…

لا أريدُ هذه الحياة.. ولا أريدُ أن أموت.. الصراعُ الذي أنتَجَ مَرَضَ (القَمَه العَصَبيّ الشديد)..

كانَ الإحساسُ بالوحدةِ، يزيدُ من مخاوِفي.. بيتٌ منعزلٌ في (ضهر المريقب).. زوجي يذهبُ إلى عملِهِ كلّ صباحٍ، كمديرِ مدرسةٍ إعداديةٍ وثانوية.. وزوجة عمي تذهبُ لترعى العنزة و (سَخْلَتِها) أو تزورَ بعض أقاربها، أو معارفِها في القرية (المريقب) أو تعمل بالأرض.. وعمّي يذهبُ كلّ صباحٍ إمّا إلى الحقلِ، أو إلى (الشيخ بدر) ليتبَضّع.. وأنا أبقى وحيدةً، إلاّ من مخاوِفي وقهري وإحساسي بأنني لاشيء، وبأنّ كلّ أحلاميَ السابقة، تكَسّرَتْ على صُخورِ الواقعِ المتألّبةِ الأشواك.. وقد كتبتُ الكثيرَ في تلك المرحلة، مثل :

( أكتبُ بالقلَمِ الأحمرْ….. والعنزةُ تجري في البَرِّ

تسألني : قولي ما فيكِ…… الدّمعَةُ تجري كالنهرِ

فأجيبُ، ورأسي فوقَ يدي…… ومليءٌ قلبي بالقهْرِ :

لا أدري، يا عَنزةُ، مابي…… إني حائرَةٌ في أمري

-الدنيا من حَولي حُلوةْ…… قمَرٌ، أو شمسٌ، أو نجمَةْ

والأرضُ تدورُ، ويملأها…… زوجٌ، ورفيقَتَهُ وطِفلةْ

لكنّي لا أرضى فيها…… دُنيا تغمُرُني في ظُلمَةْ

-الدّنيا حَوْلَكِ باسِمَةٌ…… فلماذا تبكي يا – طِفلة-..؟!

إنكِ تبغينَ سَعادَتَكِ…… تنسينَ الكونَ وما حَوْلَهْ

فأجيبُ، وحَلْقي مملوءٌ :…….. – إني لم أربَحْ في الجَوْلةْ

فحياتي ليستْ تُسْعِدُني…….. وجسمي يُقرِفني كُلّه

وبوَجْهي بعضُ حُبيباتٍ…….. خشِنٌ، لا تقبلُهُ (الدّولةْ )

***********************************************

كانت حماتي قد أشفقَتْ عليّ، وطلبَتْ مني أن أذهَبَ معها لنرعى العنزةَ، تحتَ البيت.. فتناوَلتُ قلمَ رصاصٍ لونهُ أحمر، ودفتراً، وممحاة.. كنتُ أعشقُ رائحةَ الوَرَقِ، يا أميَ الغالية..

وكانت في البيت مكتبة فيها العديدُ من الكتبِ القيّمة، ومجلّة (العربي) الكويتية.. كنتُ أشتري مجلة (طبيبك) ومجلة (الجيل) و (المختار) وبعضَ الكتُب ل (ميخائيل نعيمة) و (جبران) وغيرها، عندما أزورُ المدن، بدوافعَ صحّية، غالباً.. وأستعيرُ من (محمد سليمان صالح) بعضَ الروايات ل (حنا مينة ) وغيره..لأنّ  (مكتبة الوعي ) التي كانتْ في بيتنا – بيتكم – بيت أهلي.. كنتُ قد قرأتُ كلّ ما كانَ يعجبُني منها، قبلَ زواجي.. كم كنتِ تشجّعينني على القراءة، يا أميَ الغالية..!! كلّ مساءٍ، وحين نخلُدُ للنومِ، بعدَ عناءِ نهارٍ كاملٍ، منَ الصباحِ، حتى المساء، مع كلّ أفرادِ عائلتنا الكبيرة، الدافئة.. كنتِ تطلبينَ مني، وأنتِ تردّينَ اللحافَ عليكِ، وعلى أصغرِ إخوتي الذي ينامُ معكِ في السريرِ المعدنيّ، وأنا وإخوتي وأخواتي ننامُ على فرُشِنا المبسوطة على أرضِ الغرفةِ الغربية.. بعدَ أن أكون أنهَيْتُ وظائفيَ المدرسية.. كنتِ تقولين لي : اقرئي يا فاطمة.. فأتناوَلُ من (مكتبةِ الوعي) روايَةً، أقرّبُها من ضوءِ (البَصْبوص ) وأحَدّقُ بكلماتها، بصعوبةٍ بالغةٍ، وأقرأ… وما إن تتأكّدينَ أنني انسَجَمْتُ مع أحداثها، حتى تغفينَ، وأسمعُ شخيرَكِ المُمَيّز.. أناديكِ.. ولا تسمعين.. فلا أستطيعُ التوقّفَ إلى أن أنهي الروايةَ، أو يغلبني النعاسُ، فأضَعُ علامةً، وأغلقُ الكتابَ، لأكملَها في اليومِ التالي.. مازالت عندي مجموعة للشاعر الراقي (سليمان العيسى) واسمُها (رِمالٌ عَطشى) هنا في بيتي.. ممزّقة قليلاً.. لكنها ذكرى زمانٍ دافيءٍ طبيعيّ واعِد.. وأيام وسنواتٍ دافئةٍ خالدة. أستقي منها نَبْضَ أيامي.. وأستلهِمُ معاني طفولتي وعَيشي معكم وبينكم، ومع الجيران والأقارب والمعارف في (المريقب) قريتنا الغالية.. ومع الزملاء والزميلات، والمدَرّسين.. وشقاوات الطفولة.. والفقر المادّي، والغِنى الروحيّ والإنسانيّ.. يُدفئ صقيعي، يا أميَ الغالية..

أريدُ أن أستريحَ قليلاً..

إلى اللقاء يا أمي………………………………

_________________________________________________________

كانَ عمّي (الشيخ محمد علي) مولَعاً ب (ميخائيل نْعَيْمِة) و (جرجي زيدان) و (أحمد زكي) رئيس تحرير مجلة (العربي) الكويتية.. و (جورج جرداق ).. يقرأ – بتأثّرٍ بالغ- وانسجام، بعدَ أن ينهي أعمالَهُ الحقليّةَ، ويتناولُ غداءَهُ مع زوجة عمي (أم علي) فيجلس ليشربَ (المَتّة) ويُدَخّن، ويقرأ بشغَف.. وأحياناً كانَ يقرأ على مسامعنا ودموعُهُ تنهمر، من رواية (سبعون) لميخائيل نعيمة.. أو (داغستان بلدي) للكاتب الداغستانيّ المحبوب الرهيف (رسول حَمزتوف).. زوجة عمي لم تكنْ تعرف القراءةَ أو الكتابة، لكنها كانتْ تحفظُ بعضَ الآياتِ القرآنية، والأحاديث الشريفة، و بَعضَ ما يُرَدّدُهُ على مسامعِها زوجُها.. وتفخرُ بذلك.. عمي، بالطبع، لم يدخل مدرسة، لكنّهُ دَرَسَ عند (الخطيب) وكان (الشيخ علي سلمان ) يَجْمَعُ الأطفالَ، والشباب، ويعَلّمهم القراءةَ والكتابة، ويحفّظهم القرآن الكريم، والأحاديث النبويّة الشريفة، وأقوالَ الإمام (عليّ) عليه السلام.. وإن تأخّرَ أحدٌ منهم ، يوماً، ولم يأتِ إلى (المدرسة) كانَ عليهِ أن يُبَرّرَ غيابَهُ، ويأتي بإثباتاتٍ على صِحّةِ المُبَرّر.. كانَ أسلافُنا يحدّثوننا أنهُ كانَ يثقُ بابنِهِ اللامع (الشيخ صالح العلي) وكيفَ كانَ يفضّلُهُ على كلّ أبنائهِ وبناتِه.. لكثرَةِ (بَراهينه) الناتجةِ عن استقامَتِه، ونزاهَتِه.. (الأنبياء لهم مُعْجِزات.. والأولياء لهم كرامات ) هذا ما سمِعْتُهُ من (مروان شيخو) عبرَ (إذاعةِ دمشق) في أحدِ الأيام، عندما كنتُ أستمعُ إلى برنامجهِ من المذياع البُنيّ الذي أحضَرَهُ لي زوجي بعدَ ذهابِهِ إلى الجيش (الخِدْمة الإلزامية) بعدَ زواجنا بحوالي عشرةِ أشهُر، في 1/7/1971م. ممّا زادَ من وَحْشَتي وغُربَتي..

بقيَ عدّة أشهر لم أرَهُ فيها.. كانوا في (الدّورة) التي على كلّ جُنديّ أن يخضَعَ لها في أوّلِ وُصوله.. وقد فرَزوهُ إلى سلاحِ (المُدَرّعات) كملازم أول.. لم يكنْ يحبّ هذا الإختصاص، كانَ يضحكُ وهوَ يردّدُ على مسامِعِنا ما قالَهُ لهُ الضابط، عندما أعلنَ فرْزَه : (تصوّر، ما أجملَ أن تُلتقَطَ لكَ صورةً، وأنتَ تقفُ بثيابكَ العسكريّة، في أعلى الدّبّابة، وترسِلُ الصورةَ إلى خطيبتِك..!! كم ستكونَ فخورةً بك..!! ) كان يضعُ المحبَسَ الذهَبيّ المطليّ ب (البلاتين) في خُنصُرِهِ الأيمن.. لم ينقلْهُ إلى الأيسر، بعدَ زواجنا، لأنهُ كانَ واسِعاً..

شارَكَ زوجي في حرْبِ السادسِ من تشرين الأوّل عام 1973م.. كنتُ خلالَ تلكَ الفترة، أقضي أغلبَ أوقاتي عندكم، يا أمي.. وأحياناً، أطلعُ إلى بيتنا في (الضَّهْر)..

أتذكُرينَ، يا أمي..؟!

كنا أنا وأنتِ نخبزُ على (التّنّور).. مازالتْ بقاياهُ وحيطانُهُ الثلاث قائمةً غربيّ بيتنا – بيتكم – بيت أهلي.. في (الخِربة) مكانَ (أوضة الغربية) من البيتِ الطينيّ القديم.. كنّا نستمعُ إلى المذياع، أنا أرُقّ لكِ الأرغفة بكفيّ، وب (الشّوْبَك) وأهِلّها، قبلَ أن أفرُشَها على (الكارَة ) فتتناوَلينها مني، تسوّينَ أطرافَ الرّغيفِ، قبلَ أن تلصِقينهُ (تلزقيهِ) على سطحِ (التّنّورِ ) من الداخل، والجَمْرُ يتوَهّجُ في أسفلِه.. كانَ (تنّورُنا ) يتّسِعُ لأربعَةِ أرغفة.. كلّما نضَجَ رَغيفٌ، تتناوَلينَهُ برَشاقة، وتضعينَهُ فوقَ إخوتِهِ على (الطّبَقِ ) المصنوعِ من قَشّ الحنطة.. و(تلزقينَ) رغيفاً آخر.. إلى أن ننهي (الخَبْزَة).. فأحملُ الطبَقَ على رأسي، وأصعَدُ بهِ إلى البيت، أضعُهُ على المَجلى في المَطبَخ.. أفرُدُ الأرغفةَ المئة، أو الثمانين، أو المئة وعشرة، فوق الطبَقِ، كي تبرُدَ، قبلَ أن أجمَعَها، وأغطّيها بقِطعَةِ قماشٍ بيضاءَ نظيفة، قد تكفي العائلة، والضيوف، ليومَين.. تعودينَ وتعجُنينَ (عَجْنَةً) أخرى، تقدّرينَ عَدَدَ أرغِفَتِها بخِبْرَتِكِ العالية.. وكم (حَمْوِة) تحتاج..

عندَ بداية الحربِ، كنّا على (التّنور) والمذياعُ البُنّيّ يذيعُ برامِجَ عادية، قبلَ أن يأتي (اسماعيل) إبن عمتي (فاطمة) رحمَهُ الله، ويقفِزَ من فوقِ سورِ (الخِرْبَة) ويخبِرَنا – بصوتِهِ الحَماسيّ الشّاب – أنّ الحَرْبَ قد وَقَعَت.. وبسُرْعَةِ البَرْقِ، أدَرْتُ الإبرَةَ إلى (إذاعَة الجمهوريّةِ العَرَبيّةِ السوريّة، من دمشق).. كانتِ الساعةُ الثانية إلاّ عشرِ دقائقَ، بعدَ ظهرِ يومِ السبتِ، السادسِ من تشرين الأول عام 1973م العاشر من رمَضان عام 1393 هجريّة..

_________________________________________________________

 

كانَ عمّي، وزوجةُ عَمّي، حَنونَينِ جداً عَليَّ.. يُحِبّانني، وأحبُّهُما.. ولعائلتهم، وعائلتِنا علاقةُ احترامٍ، وتقديرٍ، وثقةٍ مُتبادَلة.. بَكَتْ زوجةُ عمي – حَماتي – وهيَ تخبرُني، بعدَ زواجي، كم كانتْ سعيدة هيَ وعَمي، لدَرَجَة أن دَمَعَتْ عيونُهُما، عندما أخبَرَهُما ابنهُما أنهُ سيخطبُ (فاطمة بنت صالح سليم).. هو الحَنونُ الجميلُ الهادئُ، المُهذب، المَحبوب.. لكنّهُ لم يتزوّج، بَعْدُ، و (لا ينقصُهُ شيء، أنهى تعليمَهُ الجامعيّ، وتوظّفَ، وألفُ بنتٍ تتمَنّاه..) وقد صار عمرُهُ سبعة وعشرين عاماً..

_________________________________________________________

اليوم الأحد الثالث عشر من تشرين الأوّل 2013م..

في مثلِ هذا اليوم، توفيَ إلى رَحْمَةِ الله، الغالي (اسماعيل) إبن عمتي (فاطمة) عن عُمرٍ يقاربُ الخامسةَ والعشرين عاماً، بعدَ مُعاناةٍ لا توصَفُ من مَرَضٍ عُضال..

كانَ شَرْطُهُ الوحيد ليتعاوَنَ معَ الأطباء، في محاولةِ إنقاذه، عن طريقِ العلاجِ الكيماويّ، وغيرِه، ألاّ يُخبِروا أمّهُ بحقيقةِ مَرَضِه.. ولم تعرفْ عمتي الغالية، إلاّ عندما اشتدّ عليهِ المرَضُ، ولم يعُدْ يمكنُ إخفاء شيءٍ عنها..

كانَ يخدمُ العَلَمَ، الخدْمَةَ الإلزامية في (حلب) عند أخي الغالي (اسماعيل) الذي كانَ يُرَدّدُ دائماً ما مَعناه : (إذا كانَ العَذابُ يُطهّرُ الإنسانَ منَ الذنوب، فبالتأكيد، “اسماعيل” إبن عمتي، فوراً إلى الجَنّة )..

هناكَ قُروحٌ في روحي، لا يُدْرِكُ كُنهَها سوى الذي خَلَقَني.. لا أريدُ إظهارَها هنا، يا أمي.. لأنها تجرح.. بل، تكوي.. وتغيّرُ الكثيرَ من نظرَةِ بعضِ الناسِ إلى بَعضِهم.. هل هوَ إنكارٌ للحقيقة..؟! لا.. فقد أوضَحْتُ الحقيقةَ لمَن تعنيهم.. وكانتْ ردودُ أفعالِهِم مُتفاوِتَة.. وغالباً، انهِزاميّة.. يُطَأطِئونَ الرؤوسَ أمامَ الأقوياء.. مُتجاهِلينَ أنّ قوّةَ الحقِّ أقوى مِن كلّ قوّة..

_________________________________________________________

أمي.. اليوم شُيّعَ الشهيدُ الرابعُ والعشرين، إلى قرية (شريجس) شابٌّ وسيمٌ ، هو رابع شهيدٍ من عائلتهِ في هذهِ الأحداث.. استُشهِدَ في (زَمَلكا).. وقبلَ عِدّةِ أيام، أخبَرَتني الغالية الدكتورة، أنّ زوج (هِبَة ) الشابّة الجميلة، التي تعمل في تنظيفِ البيوت، ومنها بيت الدكتورة، وبيتي، قد استُشهِدَ في (خناصِر) عند (حلب).. لها وَلَدان، بنت في الصفّ الرابع الإبتدائي (التعليم الأساسي) وصَبيّ أصغر منها..

(هِبَة) تعاني من مُشكِلة صحّية، خَلْقيّة (استقامَة في العمود الفقْريّ) تُغري حَماتَها (خالتَها) بالهَدايا (ثياب مُستَعْمَلة، مثلاً) كي تعتني بالطفلَين، ترعاهُما في غيابها، وبعدَ إنهائها لأعمالِها في البيوت، تعودُ (هِبَة) إلى بيتِها الذي مازالَ قَيدَ التأسيس.. تنظّفهُ، وتطبخُ لطفليها، تحمّمهما، وتساعدُ ابنتها في دروسها، أثناءَ موسمِ الدراسة.. وتذهبُ إلى الحقلِ، تزرَعُ الخُضارَ، والحبوب، بقدونس، نعناع، خسّ، رشّات، بصَل، ثوم، سبانخ، سلق، هندباء، حنطة، عديس، حمّص، تبغ.. وغيرَها.. تكفي كمؤونةٍ لأسرتِها لمُدّةِ عامٍ كامل.. وتبيعُ منها، قبلَ أن تعودَ وتزرَعَ للعامِ القادم.. النقودُ التي تأخذها من مُشَغِّليها، تصرفها على صغيرَيها، وعلى نفسِها، وأحياناً، على زوجِها الذي قالتْ أنّهُ كانَ شِبْهَ عاطِلٍ من العمل.. طُلِبَ إلى (الإحتياط ) خَدَمَ في (تَلكَلَخ) وفي عِدّةِ أماكِن أخرى، كانَ لا يأتي سوى كلّ عِدّةِ أشهُرٍ، مَرّة.. تُعَطّلُ عَمَلَها في البيوتِ، أثناءَ وُجودِه.. مَرّةً واحِدَةً رأيتُهُ منذ عِدّةِ أشهُرٍ، في عيادةِ صديقتي.. كانَ قادِماً ليَعتذِرَ من الدكتورة عن زوجَتِهِ التي تخجَلُ أن تترُكَ العَمَلَ عندها، بحجّةِ أنّ الدكتور أخبَرَها أنّ عَليها بالراحة، لأنّ وَضْعَ ظَهْرِها لا يَحتمِلُ التّعَب.. لكن، ما إن عادَ إلى الخِدْمَةِ في (خَناصِر) حتى عادتْ (هِبَة) لتعمَلَ في البيوت.. وعندما سألتُها عن ظَهْرِها، قالتْ : الدكتور يطلبُ منّي الراحة، وأنا كيفَ سأعيشُ إن ارتَحْتُ..؟! كيفَ سأرَبّي طِفلَيّ..؟! أعلّمُهُما، وأطعِمُهُما، وأكسوهُما، وأداويهُما، وأداوي نفسي، إن لم أشتغِل..؟! وإذا – لاسَمَحَ اللهُ – حَدَث لزوجي شيء، كيفَ سأدَبّرُ أموري..؟! وكيفَ ستكونُ حالَتي..؟! قلبي يقولُ لي أنهُ لن يعود..!!

لن أعَلِّقَ، يا أمي..

_________________________________________________________

كنتُ سأكتبُ الوقائعَ الهامّةَ، واليوميّةَ، في هذهِ الرواية.. لكنني لم أستطِع.. لعِدّةِ أسباب..

أمي.. في قرية (الرّقْمِة) تجاوَزَ عَدَدُ الشهداءِ الثلاثينَ شهيداً، وشهيدة.. وفي الكثيرِ منَ القرى، تجاوَزَ العشرَةَ شهداء.. أقَلّ، أو أكثر.. في قريَتِنا الغالية، كانَ أوّلُ شهيدٍ، في أوائِلِ الأحداثِ، في (حِمْص) العَميدُ الرّكْنُ (عيسى صالح عبد الرحمن سلامي) إبن إبن عَمّتِك ( البَطَلة، آمنة صالح صالح ) التي شارَكَتْ بالثورَةِ ضِدّ الغزاةِ الفرنسيينَ في مَطلَعِ القرنِ العشرين (الماضي) إلى جانبِ إخوَتِها، وغيرِهم منَ الثوّارِ، والثائرات.. ثمّ تزوّجَتْ رجُلاً طيّباً، بسيطاً.. هاجَرا معاً إلى (الأرجنتين).. واستقرّا في (التوكومان).. وأنجَبا عِدّةَ أبناءَ، هم (علي.. و.. عبد الرحمن.. و.. يحي.. و.. كامل.. و.. صالح ) وابنة واحدة، هي (سَعْدَة) كانتْ تكبرُكِ بعامَين.. ما تزالُ تعيشُ مُتَنَقّلةً بين (الأرجنتين) و (أسبانيا) عند ابنتها (ماريا) و ابنَيها (صالح) و (آصف).. (سعدة) من المظلوماتِ اللاتي تزوّجْنَ من رجالٍ أكبر من آبائهنّ.. لأنهنّ من بناتِ العَرَبِ القليلاتِ في (الأرجنتين).. وكما أخبَرْتِني، يا غالية، في روايتكِ، التي لكِ الحقّ بأن تُنسَبَ لكِ (نبْضُ الجذور).. كم كنتِ تحدّثيننا عن عذاباتها، عندما تزوّجَتْ من ذلكَ الشيخِ الجليل..!! (من بيت الشيخ علي عيد، في جَبْلة)..!! وكم حَنِقْتِ مِنها عندما جاءَتْ، في إحدى زياراتِها إلى الوطن (سوريا) وعندما سألَتْ عنكِ، أخبَروها من ضِمْنِ ما أخبَروها أنني تزوّجْتُ من (إبن الشيخ محمد علي اسميعيل) الذي كانتْ تعرِفُ أباهُ الفاضِل، من (الأرجنتين) عندما كانَ مُغتَرِباً.. كانت تحبّهُ وتحترمُهُ، كما الجميع.. لكنّها استنكَرَتْ زواجيَ المُبْكِر، وسَكَني في بيتٍ منعزِل.. فاتصَلَتْ بكِ – يوماً – وطلبَتْ منكِ أن تأخذيني إلى بيتكم، كي لا أبقى وَحيدة، وأعاني غُرْبَتَين (لا تخسَري ابنتَكِ، يا ابنةَ خالي..)… لكنّكِ حَنِقْتِ على تدَخّلِها فيما لا يَعنيها.. وكأنها تعرِفُ ما يجبُ فِعلُهُ أكثرَ منكم..!!! (لو سَمعَ أبوكِ بهذا الكلام، لجُنّ..!!)..

(هذا الكلام ) كانَ حُلُماً عندي، يا أميَ الغالية..

ف (الجَنّة، بلا ناس.. ما بتنداس)..

***********************************************

على الصفحةِ التالية من الدفترِ الذي أنقلُ منهُ ما كتبتُهُ سابقاً، هنا، على اللابتوب، كتبتُ في منتصَفِ الصفحة، ما يلي :

ومنذُ حوالي شهر، استُشهِدَ إبن جيراننا، (النقيب.ملاذ ) على الحُدود، قُرْبَ (دَرْعا).. ولم يُحْضِروا جُثمانَهُ حتى الآن..!!

(كنتُ فخورةً بكم يا ماما..!!! آااااااخ..!!)

(ألله يرحَمه يا أم (ملاذ ).. إن شاء الله، تظلّينَ فخورةً بهم..)

(- آخ يا وَيْلي على هذا الفخر..!!)

_________________________________________________________

أوّلَ أمس، توفّيَ الفنّانُ المُبْدِعُ الأصيل (وَديع الصافي) (وَديع فرَنسيس) عن عمرٍ بلَغَ (92) عاماً.. نَعَتْهُ (الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون) و (وزارة الإعلام) السوريّتان.. سيُدْفَنُ غداً في الثانية بعدَ الظهر.. رحِمَهُ الله..

نَعَوتُهُ أنا على صَفحَتي على (الفيسبوك) من (لابتوب صديقتي، الدكتورة) لأنّ (كمبيوتَري) (أعطاكم عُمرَه).. (الدّائم ألله)..!!

كتَبْتُ على صَفحَتي مَقاطِعَ من أغانيهِ، لا قَتِ الكثيرَ منَ الإعجاب، وبعضَ التعليقات (المُبْدِعُ لا يموت.. فهوَ خالدٌ في أعمالِهِ الإبداعيّة.. وفي وِجْدانِ الأجيال.. )

_________________________________________________________

أكثرُ المَحَطّاتِ التلفزيونيّةِ، والإذاعيّة، تغطيَةً لما يجري في (سورية) بمِصْداقيّة، هيَ (المَنار) و (النور) التابِعَتَينِ ل (حِزْبِ الله).. و ال (NBN) التابعة ل (نبيه برّي) (حَرَكة أمَل) اللبنانيّتَين.. وأحياناً (المَيادين) و (روسيا اليوم)..

حَفيدَتُكِ الإعلاميّة (يارا محمد صالح ) كانتْ معَ زميلَتِها الشهيدة (يارا عباس) من أوائلِ (المُراسِلاتِ المَيدانيّات) كانتا تُرافِقانِ (الجيشَ العربيّ السوريّ).. وتنقلانِ ما يَحْصَل، من أرضِ الواقع..

_________________________________________________________

(صَلاةٌ مُشتَرَكَةٌ من جميعِ الطوائفِ، تُقامُ في “لبنان” من أجلِ السلامِ في “سورية” ) دَعَتْ إليها (الكنيسة الأرثوذوكسيّة)..

_________________________________________________________

هَيّا مَعي يا أمي.. هَيّا.. لنقرأ..

لم أكنْ أعرفُ أنكِ تحبّينَ القراءةَ، وتستمتِعينَ بالشّعر، إلى هذهِ الدّرَجَة، سوى في الفترةِ الأخيرةِ التي بقيتُ فيها إلى جانِبِكِ يا أمي، قبلَ أن ترحَلي.. كنتُ أقولُ لكِ : هل أقرأ لكِ ماكَتَبْتُ من شِعر، أو من نثر، أو بَعضاً من روايتِنا نحنُ الإثنتَين (نَبْضُ الجُذور) أو مَقالاً قرأتُهُ وأعجَبَني..؟! فتُرَحّبين.. (معقول، ألاّ تقرئي..؟!نعم، اقرئي فوراً ) فأقرأ على مسامِعِكِ، وأسألُكِ : – هل أعجبكِ..؟! فتُجيبينَني : (هل أعجَبني..؟! أعجَبَني جداً..).. كم كنتِ تنفَعِلينَ بما أكتب..!! أو، عندما أقرأ لكِ بَعضاً من (نبضُ الجذور)..!! كنتِ تستعيدينَ الأحداثَ، وتقولينَ لي – بتعَجّب- : ( – كيفَ عرفتِ..؟! كأنكِ كنتِ حاضرة..!!) فأرُدّ : (ألستِ أنتِ التي حدّثتِني بها، يا أمّي..؟!)

(- إي والله، صحيح..)

وكثيراً ما كُنتِ تُضيفينَ لي بعضَ الأحداثِ التي كنتِ قد نسيتِها أثناءَ كتابَتي للرواية.. وكنتُ أسَجّلُها على ورَقة، أو على دفتر.. لكنّ أوراقي كثيرة، وكثيرة جداً.. وأحياناً مُبَعْثَرة..

_________________________________________________________

تراكَمَتِ المُعيقاتُ، والحاجاتُ التي كنتُ أصطدِمُ بصخورِها القاسية، العَصيّة على الإقتلاع، ومن المُستحيلِ حَلحَلَتُها، أو الخروجُ من رِبْقِها، أو تجاوُزها. فأنهارُ، وأسقطُ عاجزةً مُتلاشيةَ القوى، دونَ سلاحٍ، ولا ذرّةِ أمَل، ولا أيّ مُعينٍ يفهَمُ ما حَلّ بي، كي يعرفَ كيف يساعِدُني.. فطلَبْتُ الذهابَ إلى (طبيبٍ نفسيّ).. ولم يكنْ ذلكَ ممكناً سوى في العاصمة.. كنتُ أخترعُ من خيالي أهدافاً بسيطة.. كأحلامِ فأرة.. بإمكاني الوصولُ إليها بجهدٍ بسيط.. تتكفّلُ برَفعِ معنوياتي فوقَ الصفرِ، بذَرّة.. وتشجّعُني على رَسْمِ أفقٍ آخر.. ومُحاوَلةِ الوصولِ إليهِ، لرَسْمِ أفُقٍ آخر، والسعيِ نحوهُ بلا طاقةٍ تُذكَر.. كأنني أزرَعُ الوقتَ الثقيلَ ببذورِ الأمَلِ المُرتَجى.. كتبتُ مَرّةً في إحدى أقسى الحالات : ( نيرانٌ تكوي الضلوع.. براكينُ تُذيبُ الصّخور.. لكنّ هنالكِ بَصيصَ نورٍ، بَعيدٍ.. بعيد.. يوحي بالإقدام……. إلخ )..

لم يَبخَلْ عليّ زوجي بكلّ مايستطيعُ من مالٍ، وجَهْدٍ، وعاطفة.. في محاولاتٍ حَثيثةٍ لأستعيدَ صِحّتي.. كان يأخذني بسيّارة تاكسي (طَلَب) من طرطوس، إلى دمشق.. وقَبلَ أن أنهارَ تماماً، وعندما بدأتُ أشكو من آلامٍ في رأسِ مَعِدَتي، أخذني عمي الغالي(علي) (أبو مَعن) معَهُ إلى الدكتور (جوزيف) من أفضل الأطباء في دمشق  (استُشهِدَ على أيدي خُوّان المُسلمين) .. كان عمي يقيمُ مع عائلتهِ، في بيت الشهيد المرحوم (صالح محمد صالح) (أبو علي) قربَ مَشفى (المُجتهِد).. وكانَ قدِ استأجَرَهُ بعدَ استشهاد صديقِهِ، وصَديق الجميع (أبو علي) المُساعد أوّل في الجيش العربي السوري، الذي استُشهِدَ قبلَ زواجنا بحوالي ثلاثة أشهر.. ولشدّةِ حُزننا وحُزنِ الجميعِ عليه، لم نعمَلْ حفلةَ زفاف.. بل، استأجَرَ خطيبي سيّارة تاكسي، اصطحَبَني فيها إلى (فندق السّفير) في طرطوس.. وبعْدَ يومَينِ من زواجي.. جاءَ أبي إلى عندنا في الفندق.. خَجِلْتُ جداً، وأنا في (قميصِ النوم) حاوَلَ ألاّ يجعَلني أخجَل، وألاّ ينظرَ إليّ إلاّ بشكلٍ مُوارِب، متضاحِكاً، مُحاوِلاً أن يبدو سَعيداً… لكن…………..!!

أمي…

لكن..

لكنّهُ فاجأنا بكلّ ما يستطيعُ من تَماسُك، أنكِ وَلَدْتِ لي أخاً.. لكن يبدو أنهُ مريضٌ منذُ الوِلادَة.. فرِحْتُ وتفاجأتُ وخَجِلتُ.. سألتُهُ : – لكنّ أمي كانتْ تقول أنّ مَوعِدَ ولادَتِها بعدَ عشرينَ يوماً..!! أجابَني : وَلَدَتْ.. لكنّها تَعِبَتْ جداً بالولادَة… نظرتُ في عَينيكَ الخضراوَين الجميلتَينِ، يا أبي الغالي.. وأنا مُستَنفَرَة : – ماذا تعني..؟!! – أعني أنها الآن مريضة.. لكنّها تحَسّنَتْ قليلاً.. جُنِنْتُ، دونَ أن أستطيعَ البَوحَ بمخاوِفي عَليكِ، يا أمي.. أضافَ أبي : – كنتُ آتياً إلى (طرطوس) بشغلٍ، لكنني أحببتُ أن أزورَكما هنا، وأن أخبرَكما أنها مريضة قليلاً… قلبي طارَ من صَدري يا أبي.. سألهُ عريسي إن كانَ علينا أن نعودَ إلى القرية.. فأجابَ بالنفي….. أمي…. بحَدْسي، أدرَكْتُ أنّ أبي لم يكنْ آتياً إلى (طرطوس) إلاّ ليُخبِرَني أنكِ مريضة.. بل، ومريضة جداً.. تأكّدْتُ من ذلك، وأنا أرى اضطرابَهُ البالغ، وهو يحدّثنا بابتسامٍ مُصطَنَع.. لاحَظْتُ ارتجافاً غيرَ مألوفٍ بصَوتكَ، يا أبي.. أنتَ القويّ الرّاسِخ… لكنّكَ أكّدْتَ لنا أنهُ لا داعي لأن نعود.. بل، علينا –فقط – أن نعرفَ أنّ أمي مريضة من الولادة.. لم أقتنعْ يا أمي.. غادَرَنا أبي.. وبقيتُ، ولم أبقَ، مع عريسي في الفندق.. لاحظَ خوفي واضطرابي.. حاوَلَ تهدِئتي، دونَ جَدوى.. طلَبْتُ منهُ أن نعودَ إلى القرية لأرى أمي.. لكنّه قالَ لي : ما رأيُكِ أن نطمئنّ عليها عبرَ الهاتف..؟! وافقتُ.. نزلنا إلى الطابقِ الأسفلِ من الفندق.. طلَبَ من النادلِ، أن يتّصِلَ لنا إلى (الشيخ بدر) حيثُ لم يكُنْ هنالكَ جهازُ هاتفٍ، سوى في دُكّان تاجر القماش.. جاءَ الصوت.. تناوَلَ السّمّاعةَ من يَدِ الرجل، وأنا خَلفَهُ في أقصى دَرَجاتِ خوفي عليكِ، يا أمي..

-ألو… ألوووو.. ألو ألو… أنا فلان أسألُكَ كيفَ هيَ (المريقب)..؟! فيها شيء جَديد..؟!!

-ماذا..؟! ألم تسمَع….؟!!!

اضطرَبَ، وهوَ بالكادِ يسمعُ ما يقولُ (أبو محمّد)..

– لم أسمعْ بماذا..؟!؟!

هنا… كانَ لدَيّ عَقلٌ….. وطااااااااااار…………..

صَرَختُ.. عِدّةَ صَرَخاتٍ موجِعَة….. أسرَعَ لتهدئتي، وطمأنتي أنّ (أبو محمّد) لم يكنْ يقصدُ أكثرَ ممّا حَدّثَنا بهِ أبي.. لكنني لم أصَدّق.. وطَلَبْتُ العودَةَ حالاً إلى القرية.. وأمامَ اضطرابِهِ، وإحراجِهِ من تصَرّفي المجنون.. قرّرَ أن يمتثلَ لطلَبي.. استأجَرَ تاكسي، وعُدْنا بها إلى القرية.. كانتْ جموعٌ من عَشَراتْ النساءِ والرّجالِ والأطفالِ، أمامَ بيتنا – بيتكم، يا أميَ الأغلى… دَخَلتُ مُسْرِعَةً أريدُ أن أراكِ.. لكنّ عَمّاتي، وبالأخصّ (فاطمة ) لم يسمَحنَ لي بالدخول، قبلَ أن أهدأ…. لكنني رَجَوتهنّ…..

دخلتُ…

أمي……………………….!! آاااااااخ عليكِ يا أميَ الغالية……..!!

الحمدُ لله..

أمي…… أما آنَ لي أن أستريحَ، قبلَ أن أتابِعَ السّرد…؟؟!!!

_________________________________________________________

-اكتبي.. اكتبي يا فاطمة.. وكما يقول الشاعر (وما مِنْ كاتِبٍ، إلاّ سَيَفنى…. ويُبقي الدّهْرُ ما كتَبَتْ يداهُ…… فلا تكتبْ بيدّك غيرَ شيءٍ…. يسرُّكَ – في القيامةِ- أن تراهُ )

وتتابعين..

– والله يا ابنتي، هؤلاءِ، أفضلُ لكِ من الأبناء.. (وتقصدين، كتبي التي ألّفتُها..)

كم كنتِ سعيدةً، لأنني أصبَحْتُ شاعرةً، وكاتبةً، معروفةً، ومُحتَرَمةً من قِبَلِ الكثيرين..!!

_________________________________________________________

طَلَبْتِ مني أن أحْضِرَ ورَقةً، وقلَماً..وأكتب (سلامٌ عليكمْ.. شَرّفَ اللهُ قَدْرَكُمْ…. ودامَتْ عليكمْ نِعمةٌ، وسُرورُها…. فلا تُزهِرُ الأيامُ إلاّ بقُرْبِكمْ…. وأنتمْ ضِيا عيني اليمينِ، ونورُها )

-تسلم عينِكِ اليمين، واليسار، وصاحبتهما.. يا أميَ الغالية.

ففعَلْتُ.. أخبَرْتِني أنكِ تريدينَ أن تهدي هذينِ البَيتين، لأبنائِكِ، وبَناتِك، وأحفادِك، وحفيداتك، وكَنايِنِك.. قلتُ لكِ :

– اكتبيها أنتِ بخطّ يَدِكِ، يا أمي.. يَسعَدونَ بها أكثر..

-معقول..!!

-طبعاً يا أمي..

-والله لستُ متأكِّدَةً إن كنتُ ماأزالُ أتقِنُ الكتابة..

-ولوووو….!!

-يا الله.. هاتي لأجرّب..

لكنني لاحَظْتُ لأوّلِ مَرّةٍ، أنّ خَطّ يدكِ المُمَيّز الحنون، ينحَرِفُ عن الأسطُرِ المتوازية، وأحياناً تكتبينَ الكلمةَ التالية، على يمين الأولى، فاقترَحْتُ عليكِ ألاّ تتعِبي نفسَكِ بكتابةِ أوراقَ كثيرة، فأنا سأتكفّلُ بكتابَتها على الكمبيوتر، لمرّة واحدة، وأطبَع لكِ عَدَدَ النّسَخِ الذي تريدينَ، وأكثر..

-صحيح..؟!

-ما رأيِكِ يا أمي..؟! أليسَ ذلكَ أفضل من أن نتعِبَ أنفسَنا..؟! لماذا خُلِقَ الكمبيوتر..؟! أليس من أجلِ إراحةِ الناسِ، وتسهيلِ أعمالهم..؟!

-إي والله ممتاز..

ففعَلْتُ.. وبعدَ أن عَرَضْتُ عليكِ نموذجاً أعجَبَكِ، طبعْتُ لكِ نسخاً كثيرة، وأخذتُ رأيكِ، كي نختصرَ من استهلاكِ ورَقِ الطباعة، أن نقسِمَ الورقَ إلى حَجمٍ صغير، ونضعَ كلَّ نسخةٍ في ظرفٍ أبيضَ مُستطيل، عليهِ خطوطٌ زهريّةٌ، وسماويّة، دونَ أن نطوي الورقة.. ثمّ تكتبينَ، بخطّ يدِكِ، على كلّ ظَرْفٍ، الإهداءَ الذي تصوغينَهُ من روحِكِ الطيّبة، باسمِ كلّ شخصٍ من أحِبّائك.. أدُلّ قلَمَكِ، بسَبّابَتي، على مكانِ الكلمة..

فجَعَلتِني أحتفظُ بالظروفِ المُزَيّنة بخطّ يدِكِ المُمَيّزِ، في درجِ الكمودينة، قُرْبَ سَريرِكِ الذي كانَ في الغرفةِ الوُسطى (أوضتنا) وكلّما كانَ يأتي أحدُ أحبائكِ، كنتِ تُهدينهُ ظَرْفَهُ الخاصّ.. وتتبادَلانِ القُبَلَ الدافئة، وأحياناً.. الدموع…

احتفظَ الجميعُ بهَديّتِكِ الراقية، كتميمَةٍ ثمينة.. ودُرّةٍ فريدة..

_________________________________________________________

أخبَرْتِني، مَرّةً، أنّ أمّكِ، ( جَدتي خديجة غانم سلمان ) كانتْ تُرَحّبُ بالشمسِ عندما تطلعُ بعدَ يومٍ بادرٍ، بقَولِها: (يادِفّاية العْرايا )..

_________________________________________________________

( رجالُنا مُرْهَقونَ بأثقالِ الحياة.. ونساؤنا مقهوراتٍ من تقزيمِ الرّجالِ لهنّ، والإستخفافِ بمدى الأعباءِ التي يتحَمّلْنَها.. فيُضافُ الغُبْنُ، والقهرُ إلى باقي الأعباءِ التي تثقِلُ كَواهِلَهُنّ..

لماذا لا تقبَلونَ بهِنّ شَريكاتٍ في بناءِ الحياة.. لهُنّ ما لكُم.. وعليهِنّ ما عَليكم.. وتقدّرونَ جهودَ كِلا القطبَينِ الأساسيّينِ في بناءِ الحياةِ المتوازنة..؟! كي تكونَ الأسرَةُ هي اللبنة الأولى المَبنيّة على أسُسٍ ثابتة، متينة.. كنُواةٍ صالحة، لمُجْتَمَعٍ صالح.. مماثلٍ لها في البناء..!!

ويكونَ التكافُلُ، والتراحُمُ، والتعاطُفُ، والتكامُلُ، والإحترام المُتبادَل.. أساسَها المتين…؟؟؟!!!)

من مَنشوراتي على الفيسبوك.. لاقتْ تعليقاتٍ متفاوتة..

_________________________________________________________

أمس.. مساءً.. وبعدَ إخراجي المدفأة والسجّادة إلى الشُرفة، وإغلاقي للبوري المُثبّتِ في سقفِ الصالون، بعِدّةِ أكياسٍ مُستعمَلة من النايلون، استخدَمتُ لإدخالها في فتحةِ البوري العالية، عصا طويلة كانت حَمّالة (ستارة).. جلستُ لأستريحَ قليلاً، بعدَ أن عَبّأتُ دفاتري القديمة الخاصّة جداً، المُدَوّن عليها (تاريخي).. أو، الكثير، الكثير من ذكرياتي، ويومياتي التي كتبتُ أغلبَها حين حدوثها، أو، دَوّنتُها كأفكار كانت تراودني، أو آراءَ في هذه الحياة، أو مشاعرَ صادقة، أو مُقتطَفات من مُطالَعاتي… المهمّ، أنها خاصّة جداً، وهامّة بالنسبةِ لي.. عَبّأتُها في كيسَينِ من القطنِ الأبيض (كيسَيّ طحين).. يمكن كنتُ قد اشتريتُها من بنت خالي (الشيخ ابراهيم) من مُخَصّصاتها من الفرن الآليّ الوحيد الذي تعمل بهِ منذ عدة سنوات، عملاً شاقّاً، كباقي العاملينَ، والعامِلات.. لكن، الأهَمّ أنهُ يدرّ عليها أجراً مادياً يكفيها، وقد سمعتُ أنّ خالي، أباها،  قد أورَثَها هي وأخواتها الثلاث، أرضاً، وغيرَ ذلك، لا أعرفُ بالضبط.، ولكن، ربما كتبَ باسمِ كلّ واحدةٍ منهنّ، رزقاً يضمنُ لهنّ العيشَ الكريم، طوال حياتهنّ.. كما أوْرَثَ أبناءَهُ، إخوتهنّ الثلاثة.. أما ابنه الأكبر، فقد توفيَ منذ مدةٍ قصيرةٍ، في بيت أخيه الأصغر…

استرَحْتُ قليلاً، لكنني شعرتُ بالحاجة إلى الإستحمام، بعد أن تعرّقْتُ كثيراً، وتغبّرْتُ، و، ربما تشحوَرْت.. واستغلّيتُ حاجتي إلى الحمّام، لأصبغَ شعري قبلَ ذلكَ باللون البُنيّ الفاتح، لكنني لا أضمنُ أنّ الحمّامَ الشمسيّ ساخنٌ بما يكفي..

كان زوجي قد حضَر،  أظنّ أنهُ كان في التعازي التي تكثرُ جداً هذه الأيام.. شهداء.. و وفيات طبيعية.. عمي (أبو محمد) (كامل عباس أحمد عباس) رحمه الله.. كان قد توفيَ يوم الإثنين الماضي، في عيد الشهداء (6 – أيار) وهو يزرعُ شتلَ البندورة، في حديقةِ بيتهم في (الشيخ بدر) (الأندروسة).. والتعزية في (مَبَرّة المريقب ) التي سُمّيَتْ باسم (مَبَرّة الإمام علي زين العابدين ) عليه السلام.. يمكن، بطلبٍ من أبي الغالي، الذي طلبَ من إخوتي أن يبنوها قبلَ وفاتهِ بمدّة لا أعرف قدرها.. وبالتأكيد، سيكونُ أعطاهم مبلغاً من المال من أجلِ ذلك، كمُساهَمةٍ أوّليّةٍ، تشجّعُ مَن يريدُ من أبناءِ القرية للتبرّعِ لبنائها، لمَصلحةِ القرية.. وقد دَعَمَتهم بعضُ الشركاتِ، أيضاً..

لن أطيلَ أكثرَ بكثير..

وأنا أضعُ الصّباغَ على شعري، شعرْتُ برائحة واخذة جداً، من هذا الصباغ، أو، الأكسجين المُكَمّل له.. تذكّرتُ أنه حَصَلَ معي – مرّةً – ما يشبهُ ذلك، بالإضافة إلى السعال، والعطاس- ربما – وضيق تنفس.. فأخبرتُ الدكتور (محمد ) على الخلوي، فقال: سآتي فوراً.. وأعطاني حبوب (كورتيزون) (بريدلون ) لعِدّة أيام.. وقال : هذا تحَسّس. إن حَصَلَ  معكِ مرةً أخرى، اتصلي بي على الفور..

بالأمس، لم أشعر بضيقِ التنفّس، لكنني شعرتُ بما يُشبهُ التنبّهَ العصَبيّ في جسمي كلّه، وما يشبهُ الهياج، أو، ربما شعرتُ ب (لَخّة قلب ).. وخِفتُ أن (أصَفْرِن )… هل انخفضَ ضغطي..؟! هل ارتفع..؟! هل..؟! هل..؟! وشعرتُ بالحاجةِ الماسّة إلى التغوّط..

خرَجْتُ إلى الشرفة.. عَلّ أكسجينها مَداهُ أوسَع من المنزل.. عُدْتُ، وأخرَجْتُ جهازيَ الخلويّ، اتصلتُ بالغالية صديقتي الدكتورة . ومن أوّل رَنّة، أجابَتْ.. كأنها كانت تتوقّع مُكالمة، أخبَرتُها بذلك، سألتُها: هل آخذ (دي هيستامين) ..؟! قالت : – فوراً.. قلتُ : وإذا احتجْتُ للمُهَدّئ العصبيّ، أستطيعُ أن آخذهُ، أيضاً..؟! قالت : نعم.. لا يتعارَضُ معه..

أخذتُ مُضادّ التحسّس.. قرَطتُ الحبّة، لأستعجلَ مفعولَها، وشربتُها مع بعضِ الماء.. وصِرتُ أمشي جيئةً، وذهاباً، على الشرفة، بعد أن أشعَلتُ اللمبة الوحيدة عليها.. شعَرْتُ بالبردِ يلسَعُ نقرَتي، وصدري، مع أنني ألبس بجامة ربيعية، لكنّ الرطوبةَ كانتْ باديةً من خلالِ الوادي الذي كان يبدو مغموراً بالضباب الرطبِ القادمِ من جهةِ الجنوبِ الغربيّ، حيثُ البحرُ الأبيضُ المتوسّط، يفتحُ بلادَنا على العالمِ الواسع.. كانتْ غيومُ الضبابِ تصِلُ شُرْفةَ منزلنا.. حاوَلْتُ الإستمتاعَ بالبرودةِ المُنعِشة، دونَ أن أخافَ من عواقبها (وتّاب ) مثلاً.. حاولتُ الإسترخاءَ قدْرَ الإمكان، بالإستعانة بالقوّةِ الخيّرة، الأقدَر على كلّ شيء ( الله ) تسندني دَعَواتُكِ يا أمي، ورضاكِ عني، وأعرفُ أنّ اللهَ يحبّكِ.. فاسترَحْتُ – لله الحمد – واستمتعْتُ بهذا الجَمالِ البادي من حَولي على الشرفة.. جبال.. وديان.. بحر.. وضباب.. برودة منعِشة.. شُرْفة واسعة تتيحُ لي المشيَ فوقَ بلاطها، كمشاويرَ في الطبيعةِ الخلاّبة، دونَ تعَثّرٍ بحجَر، أو خوفٍ من طارئٍ في هذا الليل…….

الشرفةُ تحيطُ بها النباتاتُ، والأشجار، وبعضُ الورود، شجرةُ الكينا الراسخة، أعرَقُ ما يُظلّلها، وما يزيدُها جَمالاً، وألفة.. الأحواضُ التي زرَعتُها بيديّ منذ عدةِ أعوام، بما أحبّ من الزهور.. بعضُها من جارتي (نهى) التي تعرفُ أصولَ وُرودِها، حتى أجداد الأجدد، كأنها مخلوقات حَيّة.. وهي كذلك..

بعدَ مضيّ حوالي نصف ساعة على وضعيَ الصّباغَ على شعري.. دخلتُ المنزل، أغلقتُ البابَ الخارجيّ بالمزلاج.. كان زوجي مُستلقياً على الديفون في الصالون، أجرى – بعدَ قدومه – عدةَ مكالمات، وتلقّى أخرى، أيضاً.. سألتُهُ، حين دخلَ الصالون، قبلَ أن أضعَ الصباغ.. – هل سمعتَ (نصرَ الله )..؟! قال : لا….. قلتُ لهُ : رائع ..!

أحضرْتُ ثيابي، ودخلتُ الحَمّام، بعد أن تأكّدْتُ من أنّ الماءَ فاتر، أدخلتُ كرسيَّ خيزرانٍ، لهُ مَسند، لأجلسَ عليهِ، وأنا أستحمّ، فظهري يؤلمني، وأخافُ أن أدوخ.. أزَلتُ الصباغَ  عن شعري بالماءِ الدافئ، ثمّ بالشامبو.. عقصتُهُ بشكلةِ شعرٍ، كنتُ قد استوليتُ عليها من بيت أهلي – بيتنا – بيتكم يا أمي، بعدَ أن عَرَضتُها على كلّ الصبايا.. من بناتِ إخوتي، وأخواتي، ولم تتعرّف عليها أيٌّ منهنّ.. ليستْ لأحدٍ مَعلوم، فاستولَيْتُ عليها..

أكمَلتُ حَمّامي بماءٍ أقرَبَ إلى البرودة. تنشّفتُ بالمنشفةِ العاديّةِ التي كنتُ أنشّفُ بها يديّ و وجهي، لبستُ ثيابي، وخرَجْتُ، وأنا أشعرُ أنني لستُ على مايُرام.. نشّفتُ شعري، وقدَمَيّ، وبين أصابعي، وأنا جالسة على الديفون في الصالون، مُقابلَ التلفزيون، وزوجي مازالَ مُستلقياً (دَخَلَ الغالي إبن أخي الأغلى) ربما كانَ يريدُ أن يستعيرَ (بارودَةَ الضغط) من (عَمِّه)، كالعادة..

شعرتُ بالحاجةِ إلى الإستلقاء، فدخلتُ غرفةَ النومِ الغربية، استلقيتُ في سريريَ ( الهَزّاز) (الزقزاق) وأنا خائفةً قليلاً من أن يسقطَ بي خشبُهُ الرديء.. لكنني تجاهلتُ الموضوع، وقرأتُ قليلاً في روايةٍ أعطتني إياها كاتبتُها (نهاد أحمد) عندما كنتُ أشاركُ بأمسية أدبية في فرع اتحاد الكتّاب العرب في طرطوس.. استمتعتُ بقراءة ما استطعتُ منها (74) صفحة، على دفعتين.. لكنني كنتُ أشعرُ بالبرد.. رغم وضعي البطّانية الحمراء الناعمة السميكة، تحت اللحاف الذي لم أضعْ له ملحفةً من زمان.. قمتُ، وتناولتُ حَبّتيّ مضاد قلق وحَبّة مضادّ تشنج مديدٍ، في محاولةٍ للنوم.. وبعد مدّة، قد تكون ساعة.. لا أدري.. نمتُ.. واستيقظتُ في السابعة إلاّ ثلثاً، خرجتُ إلى الحَمّام، وعُدتُ لأحاولَ النوم.. مازالَ جسمي مَشدوداً من الداخل، ولو بشكلٍ أقَلّ من الأمس.. ظهري يؤلمني قليلاً في أسفله.. لستُ مُرتاحة.. نهضتُ.. وقلتُ لزوجي، الذي كان في بداية استيقاظه : – أنا سأنزل إلى القرية.. قال : إي..

اصطحَبْتُ معي تفاحتين من أسفل البرّاد الكبير، وجاكيت من أختي، وبنطاليَ الأسود، وبلوزةً، وقميصاً أكمامُهُ قصيرة، أحضرتُها من (البالي) القميص ب(200) ليرة سورية، والبلوزة ب (400) ليرة.. وسوتيان أسود، اشتريتهُ منذ أيام ب (300) ل.س، وحقيبتي، التي أهدَتني إياها أختي، مع أخرى صغيرة.

وضعتُ الكيسَ عند بابِ مَدْخَلِ بيتكم – بيتنا – بيت أهلي، بعد أن فتحتُ البابَ الخارجيّ الأسود، وعُدتُ لأحضِرَ المفتاحَ من بيت أخي المُجاوِر، ناوَلتني إياهُ زوجتُه.. دخلتُ البيت، جلستُ على الديفون نفسِهِ الذي كنتُ أجلسُ عليهِ عندما كتبتُ الجزءَ الأوّلَ من هذه..؟؟؟!!!(الرواية)…!!! أو.. المذكّرات..!! أو اليوميّات..!! لا يهمّ.. إنها كتابةٌ صادقة.. لا تقولُ كلّ شيء.. لكنها لا تكذب….

أحضرتُ سكّيناً، وصحناً.. قشّرتُ التفاحتين، وأكلتهما.. وكنتُ قد تناوَلتُ دوائي على الريق.. وجلستُ لأقرأ في (ديلارا) أو أتابعَ التلفزيون.. أو أكتب……….. لكنني فَضّلتُ الكتابةَ، مع أنني كنتُ أظنّ أنني لا أميلُ إليها الآن، بقدْرِ ما أميلُ إلى القراءةِ، أو معرفةِ ما حدَثَ بعد خطاب (نصر الله) بالأمس.. الخطاب الذي أشعرَني بالقوّةِ، والأمل، والتفاؤل، و رَدّ الإعتبار لبلدي المظلوم، المُتكالَب عليه من قِبَل (العدوّ) و مِمّن كنا نظنّهم (أصدقاء).. (120) دولة تتآمرُ على (سوريا) الغالية.. مئةٌ وعشرون دولة ظالمة مستعمِرة، قويّة بسلاحِها المادّيّ، وقدرتها على إحاكةِ الفِتَنِ، وإشعالِ النعراتِ الطائفيّةِ، والمذهبيةِ، والعِرقية، وكلّ أنواع التفرقة، وإثارةِ الضغائن بين أبناءِ البلدِ الواحد، والتاريخ الواحد، والماضي والحاضر الواحد، وكلّ شيءٍ مُشتَرَك.. تستخدمُ كلّ ما تملكُ من قدرة على التفريقِ، والتمزيقِ، والقتلِ، والسّلبِ، والنهبِ، وتخريبِ بُنيةِ الدولة، وحَرقِ المؤسّساتِ التعليمية، والصحّية، والقضائية، والعسكرية، والمدنية، والخِدماتية، والكنائس، والجوامع، وذبحِ جنود الجيش، وإلقائهم في (نهر العاصي) أمامَ الشاشاتِ، وعلى مرأى من أهلهم وذويهم، وأبناءِ وطنهم صغاراً، وكباراً، وأمامَ العالمِ أجمَع…!!

(حسن نصر الله) بالأمس، وضعَ النقاطَ الأخيرةَ، على الحروفِ الأخيرة (ياابن الكرام) هكذا أناديهِ، أو أكتب لهُ  كتعليقٍ على (الفيسبوك) مثلاً.. أو النت.. إلخ

قال، أنهُ لن يسكتَ على ماحَدَثَ من ضربِ (سوريا) ومحاولة تفتيتها، وإضعافها، وإخراجها من موقعِها الهام في (قلبِ مِحْوَرِ المُقاوَمة ) وأنه (باسم حزبِ الله ) الذي هو (أمينُهُ العام) سيقفُ إلى جانبِ (سوريا الأسد) ويدعمها بكلّ ما أوتيَ من قوّة (كما وقفتْ سوريا الغالية، وتقفُ معهم ومع كلّ المُقاوِمينَ الشرفاء، في أصعَبِ الظروف.. خصوصاً، أثناءَ عدوان تموز عام 2006م على لبنانَ الشقيق، والتوأم ) وأنهُ سيقبَلُ كلّ ما عَرَضتهُ، وتعرضُهُ (سوريا) الغالية، وقيادَتها الحكيمة، التي تتعاملُ مع العدوّ الصهيوأمريكيّ والأوروبيّ، بشكلٍ عقلانيّ حكيم، وليس بشكلٍ غريزيّ.. بل، تردّ عدوانهُ المستمرّ.. وآخره القصف الصاروخيّ على (جمْرايا) قربَ (دمشق) فكانَ الشعبُ يغلي بانتظارِ الردِّ السريع.. البعض – كما قالَ سيّدُ المقاومة – البعضُ ممكنٌ أنهُ كانَ يريدُ رداً مباشراً وحاسِماً وعنيفاً على ضربات العدوّ، ليشفي غليله، وتعودَ ثقتَهُ بقدرات جيشِ بلده ودَولتِه وقيادتِه.. والبعضُ الآخر، كان يتمنى الردّ السوريّ المباشر، ليرى سقوطَ (سوريا) قيادةً، وجيشاً، وشعباً.. ليشفي غليلَ كرههِ ل(سوريا ) وأمنياته بإزالتها من الوجود.. لكنّ الردّ السوريّ جاءَ (استراتيجياً) عقلانياً، وليس انفعالياً، كما تمنّى الكثيرون..

كان العدوّ قد أعلنَ أنّ الحربَ على (سوريا) هي بهدَفِ تدميرها، أو إضعافها، أو فَصلها عن (مِحْوَرِ المُقاوَمة) ومَنعِها من تزويدِ (حزبِ الله) و (المقاومة اللبنانية) و (الفلسطينية) بالمزيدِ من الأسلحة، لمحاربةِ (إسرائيل) ودَفعِ عدوانِها على البلادِ، والعِباد.. فكانَ الردّ السوريّ العقلانيّ، الإستراتيجيّ :

-أنّ سوريا ستزوّد (حزب الله) والمقاومة في (لبنان) بأسلحة نوعيّة، واستراتيجية، لم تزوّدها بها من قبل.

-فتح جبهة الجولان للفصائل الفلسطينية المقاوِمة، التي تريدُ محاربة (إسرائيل) لاستعادة حقوقها المُغتصَبة، ولكلّ من يريدُ المساهمةَ في ذلك من العرب..

…………………….. إلخ

_________________________________________________________

الساعة الآن، العاشرة إلاّ ربعاً من صباح يوم الجمعة في 10/5/2013م.. كانت ساعةُ الحائطِ في بيتكم – بيتنا – بيت أهلي، متوقّفةً منذ عدةِ أيام.. وكانت في حقيبةِ يدي بطّاريتان.. وضعتُ قبل قليل، إحداها في قفى الساعة.. وهاهي الآن تعمل بشكلٍ صحيحٍ، مُصدِرَةً تكّاتٍ متواترة، ناعمة، تشعرني بالأمانِ، والدفء.. هاهو (موتور) أخي يدور.. هل هو نازلٌ إلى (الشيخ بدر) (السوق)..؟! أو طالعٌ إلى بيتهم (فوقَ المَبَرّة) على (الصّفحة)..؟! لا أدري.. وقد يكونُ أحدُ ابنيه..

سأنهضُ الآنَ عن الديفون، أغلقُ الدفتر، أعيدُهُ إلى مِحفظتي، هو، والرواية (ديلارا) ونظّارةَ القراءة.. وأضعُ نظّارةَ البُعدِ على عينيّ، وآخذُ معي كأساً زجاجياً كبيراً، أضعُ فيهِ كيساً من الشاي، وملعقة سكّر.. وأذهب إلى بيت أخي الغالي، لأشرَبَ عندهم كأساً من الشاي الطيّب..

مازلتُ أشعرُ بالبردِ، وبشَدِّ جسمي من الداخل.. سآخذُ حَبةَ دواءٍ، بعد أكلِ التفاحتين..

إلى اللقاء يا أمي…..
الساعة الآن تقاربُ التاسعةَ من صباح يوم السبت، الحادي عشر من أيار عام 2013م.. كان الشتاءُ قد حَزَمَ حقائبَهُ، ورَحَل.. لكنه تذكّرَ أنهُ نسيَ بعضَ جرارِ الماءِ التي كانَ قد خَبّأها في طَيّاتِ بعضِ الجبال، فعادَ فجرَ هذا اليومِ، يبرقُ، ويرعُدُ، متوعّداً مَن يظنّ أنهُ تجرّأ وسَرَقها.. وعندما وجدها على حالها، مُفعَمَةً بالماء حتى (شفّتها) بعدَ أن كشَفَ عنها أغصانَ بعضِ الشجيراتِ الخضراءِ الرّطبة.. كانت تحتضنها، بأمانة، حَمَلها على جناحِ الغيم.. أخفاها في حضنِ (حِرْجِ) الضباب.. وارتفعَ بها في سمائنا.. وهاهو منذُ الفجرِ يُفرِغُها في رُبوعِنا الخصيبة.. يسقي بها العِطاشَ من كلّ الكائناتِ التي تُشكّلُ الحياة..

_________________________________________________________

اليوم هو الجمعة السابع عشر من أيار “مايو” عام 2013م.. الساعة الآن السابعة وستّ عشرةَ دقيقة، غروبَ الشمسِ، على ما أظنّ.. الكهرباء مقطوعة منذ السابعة…

بالأمس، مساءً، توقّفَ المطرُ عن الهطول.. والرعدُ، والبرْقُ، أيضاً توقّفا.. اليوم رأيتُ الشمسَ تظهرُ أحياناً من خلفِ الغيومِ الشفيفة، التي تكادُ تغطّي السماءَ بشكلٍ كامل.. مَدَدْتُ إحدى السجّادتينِ اللتينِ كانتا قد أُشبِعَتا مَطراً منذ أيام، مَدَدْتُها على الشرفة الواسعة.. رَشَشْتُ فوقها بعضَ ال(سار) البودرة، وسَكَبْتُ فوقها الماءَ من (النبريج) الأحمر القديم المربوطِ بالصنبورِ الخارجيّ.. وبدأتُ أدعَكُها بالمسّاحة ذات العصا الطويلة التي تنتهي بفرشاةٍ مستطيلة، أتاحَتْ لي أن أنظف السجادة بسهولة أكثر.. شطفتها جيدا بالماء، وطويت طرفها، وأخبرتُ زوجي بأنني تركتها ليخرجَ منها بعضُ الماء، قبل أن نرفعَها إلى حرفِ الشرفة لتجففها الشمس.. كان يغلق بابَ الغرفة الوسطى المقابل للباب الخارجي بحجارة (الخفان) (15) سنتمتر، والإسمنت الذي أحضره لنا أخي الغالي، بطلب مني.. وكان قد هدَم تحت النافذة من جهة الممشى، قبالة باب غرفةِ النوم القديمةِ، قبل أيام، ليحولَهُ إلى باب، بدل الباب المقابل للباب الخارجي، كما طلبتُ منه.. نزلت إلى القرية، مصطحبةً معي ثيابي النظيفة، وحقيبة كتفي.. كنت أنوي أن أستحم في (بيت أهلي) فغالبا سيكون الحمّام الشمسي ساخناً قليلاً.. بينما هنا، سأضطرّ لأن أملأ ربعَ طنجرةِ الألمنيوم الكبيرة الخاصةِ بالحمام، بالماء، وأحملها من الحمام إلى المطبخ، وأرفعها فوق البوتوغاز، لأغليها فوق رأسينِ من النار، ثم أعيدها إلى الحمام، وأضيفها ماءً بارداً حتى تصبحَ بالسخونةِ التي يتحمّلها جسمي.. وأستحم..

في بيتكم – بيتنا – بيت أهلي، يا أمي الغالية.. تحمّمتُ بماءٍ فاتِر.. ولبست ثيابي النظيفة.. وجلست أفطرُ، خبزاً مسخناً على الغاز.. ذكرتك يا أمي.. أنت من أغريتِني بتسخينِ الخبزِ بهذه الطريقةِ، قبل أكلهِ.. كم كنا نحب ذلك، أنا وأنتِ يا أمي..!!

كنت قد أحضرتُ، قبل أن أستحمّ، جرزةً من أوراقِ البصَلِ الأخضرِ الطريّ الشهيّ، من (الخربة) وبعضَ أوراق (الرشات) من زراعتي.. غسلتها، وأكلتها مع الخبز المسخن وزيت الزيتون، وجلست على نفس الديفون المجاور لمكان رأسكِ الغالي، في سريركِ الملاصقِ للحائطِ الشرقيّ من غرفتكما الشرقية.. آآآآآآآآآه….. كم أحبّ الشرقَ، يا أمي..!! آه.. يا أبي..!! أحبهُ، كما أحببتماهُ أيها الغاليَين.. مُتعَبٌ.. ومُتعِبٌ، وأصيل…………… يشعِرُني بالأمان، يا أمي.. ويا أبي.. ويا أهليَ الغوالي.. أيها الشرقيّون الأحرارُ الكرام..

سأنقلُ الآن ما كتبتُهُ على الخلَوي، منذ أيام، ثم أنقلُ ماكتبتُه بنفسِ الطريقةِ بالأمس، الخميس، مساءً..

(على جَناحِ غيرتي عليك – ياوطني- أرسم أحرف الوجدان. أزنرها بروابط الحنين.. أقلّدها رايةَ الوفاء.. وأطلق في سمائكَ رياحَ الشوق… أجمعُ أوراقيَ المتناثرة على أرصفةِ العمر.. أعلّقُ كلّ ورقةٍ بخيطٍ مَتين.. وأطلقُ عِنانَها في سمائكَ العاصفة.. تذوبُ حروفها النابضة.. وتنهمرُ شلاّلاتِ فرَحٍ قادم.. في حقولكَ العاشقة.. لتبعثَ في روحِها النشوَةَ الغافية.. فأستعيدُ ذاتي. )

من أين آتي بهذا الكلام غير المفهوم، يا أمي..؟! من أين، يا أبي..؟! طبعاً، من الوجدان.. من الذات الحقيقية.. منكم.. وممّن قبلكم.. وقبلهم.. من هذه الروح الشرقيّة العابقة بالحبّ، والخصوبةِ، والعطاء..

( مُتخَمَةٌ أنا بحبّكم.. ومُثخَنة……………. إلخ ) لن أكملَها.. ليستْ جميلة….. ههه.. جاءت الكهرباء قبل دقائق، في تمام الثامنة مساءً.

_________________________________________________________

العمليةُ العسكريةُ الواسعةُ والضخمةُ، التي يقومُ بها الجيشُ العربيّ السوريّ البطل، متواصلةٌ منذ الصباحِ الباكرِ من هذا اليوم، السبت الخامس والعشرين من شهر أيار 2013م.. إنها اشتباكات بين الجيش العربي السوري والجماعاتِ الإرهابية المُسلّحة في مدينة (القْصير).. القنّاصَةُ يحاولونَ إعاقةَ تقدّم الجيش.. هكذا يقول مُراسل (المنار) (محمد قازان).. هاهي (المنار) تعرضُ مَقطع (فيديو) يصوّر قيامَ قذارات الإرهاب من منظمة (القاعدة) الإرهابية (جبهة النصرة) تعدمُ عدداً من الشبان السوريين بالرصاص، بعضُهم باللباسِ العسكريّ، موثوقيّ الأيدي من الخلف، ومُلقَونَ على بطونهم.. هاهو صوتُ القاتلِ ينهَقُ صائحاً : ( هادي القاهدة يا حيوانات )..!! أصواتُ الإشتباكات في (القصير) و (الحميدية) و (مطار الضبعة) العسكريّ، تُسمَعُ بوضوحٍ من بيتنا في (الضَّهر) ومن قريتنا الغالية (المريقب)..

قلبي يغصّ بأنهارِ الدموعِ، يا أمي..

كلّ يومٍ شهيدٌ، أو شهيدان، أو ثلاثة.. يُشيّعونَ في هذهِ القرى الناهِضة.. وهناكَ جَرحى ومخطوفون.. أطباء، ومهندسون، مدنيون، وعسكريون، مُجَنّدون، أو احتياط، ضباط، أو صَفّ ضباط، أو عساكر.. إناثٌ، ورجال.. بعضُهم، أو بعضُهُنّ استُشهِدَ، أو جُرِحَ أثناءَ هجوم العصابات الإرهابية المُجرِمة على معامل الدّولةِ، قبلَ أيام – مثلاً- (شركة وسيم ) للألبسة الجاهزة في دمشق..

سأسرِع لأنهي ما تبقّى لي من صفحات رواية (الأسود يليقُ بكِ) للكاتبة الجزائريّة (أحلام مستغانمي) وأتفرّغ لمُتابعةِ كلمةِ السيد (حسن نصر الله) في احتفال ذكرى (الإنتصار والتحرير) عام 2000م.. قبلَها كنتُ قد قرأتُ رواية (نهاد أحمد) (ديلارا) وهي إصدارها الأول، وتكلّمتُ معها لأبلغَها إعجابي بروايتها، وتشجيعِها على الكتابة، مما أسعَدَها جداً، وقالت لي – بحَماسةٍ ظاهرة – : – سأصعدُ، وأكتبُ الآن..

بالأمس، يا أمي.. صارَ لكِ غائبة عن عَينَيّ شهرٌ كامل………. آآآآآآآآآخ.. الحمد لله.. ورحمةُ اللهِ على روحِكِ الطاهرة.. ياغالية.. ياصديقتي.. وحبيبتي.. وأمي……

قلتِ لي مرّةً : ليتنا، أنا وأنتِ لوحدِنا في هذهِ المنطقة…!!

سألتُكِ ضاحِكَةً : لماذا..؟!

أجَبْتِني: كنا نعيشُ سعيدتين، فرِحَتين….

وقلتِ لي عدّةَ مَرّات: ويلي عليكِ ما أطيَبِك، ياابنتي..!! والله ليستِ الطيبةُ جيدةً، إلى هذا الحدّ..

_________________________________________________________

في تلك الرواية، تروي الكاتبة (أحلام) بعضَ ماجرى في بلادها – بلادنا، أيضاً – الجزائر، على مدى عشرةِ أعوام إرهابٍ دامٍ، قذر.. يذبحُ البريء، يكفّرُ الناس، يتصرّفُ بحياةِ الناسِ، كأنهُ رَبٌّ طاغية.. يتحَكّمُ بالمخلوقاتِ، والبشر، يقطّعُهم، يذبحهم، يغتصبُ النساء (عندنا صاروا يمارسون جهاد النكاح ) كما عندهم أيضاً.. كلّ قذاراتهم في بلادها – بلادنا، متشابهة، تؤكّدُ بأنّ فاعِلَها واحد، والمُخَطِّطَ لها، وداعِمَها، أيضاً.. لكنّ السيدة (أحلام) تروي مُغالَطةً تاريخية كبيرة، بادّعاءِ مَعْرِفة واضح، حول ماجرى في بلادِنا…

(قالَ السيد حسن نصر الله، أنّ اليوم ذكرى ولادة الإمام عليّ عليه السلام، الذي يقول : ” مَن نامَ، لم يُنَمْ عنه “. )

_________________________________________________________

اليوم، يا أميَ الغالية، هو الأحد الثلاثين من حزيران 2013م..

هل أحدّثكِ عمّا جرى في فترة غيابي عنكِ في هذه الصفحات..؟! الأمرُ يطولُ، يا أمي..

استُشهِدَت (يارا عباس) بطلقةِ قَنّاصٍ في رأسِها الصغير.. بكاها الكثيرون، ومنهم نحنُ.. (يارا) بنت أخي الغالية، بكتْها أكثرَ من أيّ شخصٍ منا.. كانت ماتزالُ تلبسُ قطعةً سوداءَ من ثيابها، وكتبتْ في صفحتها على الفيسبوك، ما معناه : (ماذا سأقولُ لعِطرِكِ يا يارا، حين أفتحُ خزانتي..؟! وماذا سأقولُ لثيابكِ..؟! لأغراضِك..؟! لرائحتكِ في خزانتي..؟! قلتِ أنتِ أثناءَ اختطافي :- لا أستطيعُ العيشَ بدونِها……. يارا..كيف يمكنني العيش بدونكِ يا يارا..؟! …… إلخ ).

وكتبتُ، أنا، على صفحتي:

( أعتذر يا يارا .. لم أقدرْ أن أحضرَ زفافكِ، ياعروسَ الجنة .. لماذا قتلوك ..؟! لأنهم يرغبون في قتلِ أنفسهمُ الدنيئةَ النتنة.. غاروا من جمالِ روحك.. من جرأتِك.. من شبابك.. من طيبتِك.. من نُبْلِ مَقصَدِك.. من حيويتك.. من صِدقك.. من وضوحِ هدفك.. من سُموِّك.. من حبكِ للخير.. من رغبتكِ بالحياة الحرةِ الكريمةِ، لكِ ولأبناءِ وطنكِ الطيبين.. قارَنوا دناءَتَهم، مع سُموّكِ ونُبلِك وشَرَفِكِ وشهامتِك.. فانقضّوا على أنفسهم الخسيسَةِ وقتلوها.. وارتفعْتِ يايارا.. ارتقيتِ ياابنتي إلى مَراتِبِ الخالدين .. إلى الجِنانِ التي تليقُ بكِ يانخلةَ سوريا الباسِقة.. انتقلتِ من جحيمِ عَفَنهم،  إلى رحابِ رحمةِ الله .. فلتهنئي ياطفلتي الغالية يارا عباس.. )

_________________________________________________________

شهداء.. جرحى.. زواج.. إنجاب.. تخاصُمات.. مُصالحات.. حضور في المركز الثقافي….. إلخ.. حياة كاملة جرتْ في تلك الفترة..

طلب مني الكاتب (رياض) إرسال طلب ثالث للإنتساب للإتحاد، لكن.. دون تقاعُد، ودون طبابة، ودون مردودٍ مادّيّ.. إلخ… وفاة عمي أبو محمد (كامل عباس أحمد).. والآن، مرض زوج عمتي (آمنة) (علي عبد الحميد – أبو مهنّد ) وقد أجروا له عملية قلب مفتوح، أمس.. وقال لي ابنه أنه نزَفَ في الليل الماضي، ووضعوا له المزيدَ من الدم (O-).. كما قالت لي بنت عمي..

**************************************

اليوم، يا أمي، كان هناكَ شهيدان، أحدُهما من (العَسْلية) متزوّج، ولهُ بنت.. قرأتُ ذلكَ على الفيسبوك.. والآخر، من (كوكب الهوى) متزوّج، ولهُ ولدان.. استُشهِدا في (الرقة) أثناء عملية (أسَد الصحراء) لتحرير مدينة (الرقة) من رِجْسِ العصابات الإرهابية..

_________________________________________________________

اليوم، يا أمي الغالية، هو الجمعة الثاني عشر من تمّوز 2013م الثالث من رمضان المبارك..

لستُ صائمة، يا أمي.. صُمْتُ اليوم الأول من هذا الشهر الفضيل، براحة، ودون سحور.. مع أنني كنتُ أخشى كثيراً من عدَم قدرتي على تحمّلِ العطش.. فما تزالُ نوباتُ التعرّقِ تداهمني، يومياً، ولفتراتٍ متفاوتة.. خصوصاً عند القيامِ بأعمالٍ تحتاجُ جَهداً كبيراً، كالمشي، أو الحَفر في الأرض، أو الزراعة،أو التسوّق، أو أعمال المنزل من تنظيف وغيره.. والدواءُ الذي أتناولهُ يومياً لحماية معدتي من التقرّح ومن القلَس، الذي ظلّ لمدّة عشرات السنين يكوي المريء لدَيّ.. ويؤلمني جداً، ويوتّرني، ويمنعني من تناول الكثير من الأطعمة.. حتى وأنا صائمة.. كثيراً ما كان القلَسُ  يحرقني في صدري، وينتقلُ الألمُ الشديدُ والضاغِطُ إلى ظهري، ويتوزّعُ على جانبيّ صدري من الأعلى، ورقبتي وذقني وحَنَكي.. ويُضطرّني لأخذِ الأدوية المُخَفّفة له، والموصوفة من قِبَلِ الأطباء المختصّين، بعد التأكّد من سلامة التشخيص، عن طريق التنظير الهضمي للمعدة والمريء والإثنيّ عشري.. أجريته ثلاث مرات في حياتي، حتى الآن، كان آخرها في (مشفى الباسل) الحكوميّ في طرطوس، أثناءَ مرضكِ ياغالية.. حيث داهَمني سُعالٌ شديدٌ، شبه متواصل، مع آلام شديدة في صدري، وبردٌ وارتجاف.. قال لي الدكتور (محمد) أنه من هذا (الكريب) الجائحة، التي أصابتِ الكثيرين والكثيرات، فيروسيّ السبب.. أعطاني خافضَ حرارة ومسكّناً للألم، حبتين كل ستّ ساعات، وشراباً مُضادّاً للسعال ومُقشّع.. دون جدوى تُذكَر.. انهَدّ حيلي.. نمتُ في الصالون في بيتنا- بيتكم يا أمي، في غرفة الغالي إبن الغالي، كي لا أعديكِ.. أنتِ التي لم يكن ينقصكِ مُعاناة، يا أمي..

جَهّزَ لي ابنُ أخي الديفون المُقابل لسريره.. فرَشَهُ، ووضعَ لي فوقه شرشفاً وعِدّةَ وِسادات.. وبعد يومين أو ثلاثة، أوقدَ لي مدفأةَ الحطبِ التي كان قد ثبّتها في الزاوية الشمالية الغربية من الصالون- غرفته، التي كان ينامُ فيها منذ عدّةِ أشهر، بعد أن ينزل إلى دوامهِ في طرطوس، من السابعة والنصف صباحاً، حتى ما بعد السادسة، أو السابعة مساءً.. أو أكثر. وكان عَمُّهُ، حبيب قلبك، قد طلبَ منه أن يبقى قريباً منا.. أنا، وأنتِ ياغالية.. على الأقلّ في الليل، إذا احتجنا إلى مساعدة.. كان – أحياناً – يساعدني على إنهاضِكِ، أو قلبِكِ في سريركِ من جهة إلى أخرى.. أما الحمّام، فغالباً كُنتُ أحَمّمُكِ بمُفرَدي، وأحياناً قليلة، كانت تساعدني أختي الغالية، بَعْدَ انتهاءِ دَوامِها في المَدرَسَة….

كنتُ أحضنكِ من تحتِ إبطيكِ الغاليين المتداعيَين، و أُنهِضُكِ من فوق السرير، لأجلسكِ على الكرسيّ البلاستيكيّ البُنيّ، الذي ثقبَهُ حفيدُكِ من وَسَطه بطلبٍ مني، وألصَقتُ أنا حولَ حوافّهِ، بشكلٍ دائريّ طبقة من الإسفنج غلّفتها بالنايلون، كي تكون جَلْسَتُكِ فوقهُ مُريحةً، ياغالية.. كنتُ ألصِقُ هذا الكرسيّ بسريرك، كي لا يسقطَ جسمُكِ الحبيب المُتهالك من بين يديّ.. أو يؤلمني ظهري جداً عندما أنهِضُكِ.. وعندما أفلِحُ في إجلاسِكِ عليهِ بأمان، أحَمّمُكِ، وأكونُ قد حَضّرتُ الماءَ الساخنَ، وبعضَ الباردَ من الحَمّام إلى الغرفة بواسطة عدّة أواني بلاستيكية، أو طناجر من الستنلس، والليفة، والشامبو، أو الصابون المصنوع من زيت الزيتون، زيت (مَهْل) الزيتون من عندكم.. يرسله أبي إلى أحد الخبراء في صنع الصابون في قرية أخرى.. يغلونهُ، ويفرشون السائلَ المُضاف إليه موادّ أخرى (قَلو) يصبّونهُ فوقَ مَدّة من القماش، أو النايلون، أو ورَق الجرائد.. ثمّ يقطّعونهُ قِطعاً، قِطَعاً، بواسطةِ أخشابٍ مُستطيلة، ويجففونهُ، ثم يصفّون ألواحَهُ في كيسٍ قماشيّ، ويرسلونهُ إليكم، فيصفّهُ أبي الغالي بسحاحيرَ بلاستيكية.. تخزّنونهُ كمؤونة، وتستحمّون بهِ طيلةَ أيامِ السنة.. وقد تهدوننا أو تهدوا غيرنا من الأقارب بعضَ الألواح….. لكن، منذ سنوات، كنتما توصيانِ أختي، أن تُحضِرَ لكما من طرطوس، صابوناً سائلاً (شامبو) خاصّاً بحَمّام الرأس والجسم معاً..كنتما تستخدمانهِ للحمّام .. كانَ أبي، بعدما كبرَ بالعمر، وصعبَ عليهِ الإستحمام بنفسه، يطلبُ منكِ، أو من أحدِ إخوتي أن يُحَمِّمَهُ. أو، على الأقلّ، يفركُ لهُ ظهرَهُ بالليفة والشامبو.. كما كنتِ تفعلين.

أمي..

نويتُ اليومَ أن أوَجّهَ كلامي للغالية زوجة عمي، حماتي.. رحمةُ اللهِ عليها.. لكنني عَدَلْتُ عن ذلك.. لا أعرفُ لماذا.. !!

أحبّها جداً، يا أمي.. وكانتْ أيضاً تحبني جداً، وتشفقُ عَليّ………………………….. هنا سأختصرُ مَقطَعاً من روايتي هذه…….

أمي.. والله أحبكِ جداً..

تضحكين..!! وأنا أضحكُ من هذا الكلام المباشَر البديهيّ الساذج الصادق..

حينَ أمرُّ قربَ (مقامكِ) الحبيبِ، الذي يدعونهُ (قبراً) أبتسمُ، وأشعرُ – غالباً – بالفرَحِ، والسعادة.. لأنني أشمّ رائحتَكِ يا أمي.. أحياناً قليلة، لا أستطيعُ سوى أن أصعَدَ إلى مقامِكِ، شمال مقام عمتي الغالية (ندّة) أمي الثانية.. وعلى جنوبها مقام زوجة عمي (محمد) رحمها الله (مريم عباس – أم رامي) أقرأ الفاتحةَ على روحكِ الطاهرة.. أكلّمكِ.. وأذرفُ الدموع.. أشعرُ بالحنينِ إليكِ.. وبشعورٍ لا يمكنُ وَصفُهُ من الحبّ، والحنان، والإستئناس بحضورِكِ معي.. أمي.. وأطلبُ منكِ أن تدعي لي بالتوفيقِ، والحمايةِ، والهدايةِ إلى الخير.. وأنا متأكّدةً أنكِ تسمعينني، وتشعرينَ بما أشعرُ به، وتعرفينَ حاجاتي، وتدعينَ لي القوّة الخالقة للكون (الروح الكلّيّة) التي امتزَجْتِ بها، فجْرَ يومِ الثلاثاء، الرابع والعشرين من شهر نيسان من هذا العام 2013م.

زوجي نزلَ قبلَ أكثر من ساعة، يمكن إلى السوق (الشيخ بدر) لا..لا.. إلى صلاةِ الجمعة في جامع (الشيخ علي سلمان) قدّس سِرّه. أو، ربما، في (الدَّرْوِة) الجامع الذي حَلمتِ أن تزوريهِ في حياتِكِ الدنيويّة.. لكن.. للأسف.. لم تستطيعي.. رغمَ أنّ أخي أخذكِ إلى قربه.. قرب (دَرْوَة الشيخ علي سلمان) ليُحَقّقَ لكِ حُلمَكِ برؤيةِ الغرفة (الجامع) التي بناها أبناؤكِ، ورفاقُهم من شبابِ القرية الغوالي، في المكانِ المُقَدَّسِ، التي ماتزالُ تعبَقُ في أرجائهِ اللامَحدودة، صَلواتُ المُقدّس (الشيخ علي سلمان) حيثُ كانَ يأوي إلى صخرةٍ في ذلك المكان، جنوبي قريتنا الغالية (المريقب) الذي عُرِفَ بها (الشيخ علي سلمان المريقب) يتأمّلُ بِخَلقِ اللهِ تعالى.. بقدرَتِه.. بقوّته.. بربوبيّته.. فيسبحُ في بحارِ القَداسةِ، والحبّ، والخيرِ، والسعادة اللامَحدودة.. من خلالِ تواصُلِهِ الروحيّ الصّوفيّ التأمُّليّ، مع القوّة الأقوى، والأعظَم، والأقدَر، والأرحَم، والأعْدَل.. القوّة المُطلَقة.. الخالقة للكون.. التي هي (الله)..

سَحَرني لقائي هذا معكِ هذا الصباح، يا أميَ الغالية..

كنتُ سأكتبُ غيرَ ماكتبتُ الآن.. لكنّني آثرْتُ أن أتركَ روحي تكتبُ ماتشاءُ بحُرّيةٍ لا مَحدودة.. يُترجمُها قلَمي هذا إلى حُروف، وترسمُها عضلاتُ أصابعي، بأمرٍ من عقلي وروحي، على صفحات هذا الدفتر الزهريّ اللونِ، الأبيض الصفحات، والذي كنتُ قد حَضّرتُهُ لأكتبَ عليهِ (قطوفاً من مُطالَعاتي)..

سأنقلُ ما أكتبُ إلى شاشةِ الكمبيوتر العجوز، إذا تكرّمَ عليّ، وابتسَمَ في وجهي مُرَحّباً، عبْرَ شاشتهِ البخيلة، التي لا تفتحُ إلاّ على كيفها، وبمُنتهى حُرّيتها، ومتى شاءت.. لتعزفَ باقةً صغيرةً من الموسيقا، وتفتحَ فمَها لتقولَ لي ضاحكةً (مرحبا…. ) فيتهَلّلُ وجهي.. إذن.. سمَحَتْ لي هذه الشاشة الصغيرة، بالدخولِ من نافذةِ روحِها الصّنعيّة، التي أنتجَها العقلُ البشريّ، منذ عدّة عقود.. استطعتُ التواصُلَ بواسطتها مع العالم أجمَع، عن طريق (الأنترنيت) ومؤخّراً (الفيسبوك) و (اليوتيوب) لأعَبّرَ من خلالها عن ذاتي.. وأعرفَ الآخرين أكثر.. من خلال التواصُلِ الحَذِرِ معهم.. لأنّ هذه الشبكة العنكبوتية من صُنعِ التكنولوجيّين العالميين، الذين قد يستخدمون التكنولوجيا للسيطرةِ على الآخرين، بعدَ الإحاطةِ بكلّ المعلوماتِ عنهم، وإيهامِهم أحياناً أنهم غيرُ مُراقَبين.. فليُعَبّروا عَمّا يريدونَ، عبرَ (شَبكةِ التواصُلِ الإجتماعيّ) (الفيسبوك) والتي يُقالُ أنّ مالِكَها، أو صانِعَها أمريكيّ يهوديّ صهيونيّ.. وبأنّها (أضخّم شركةِ تجسّسٍ في العالم)..!! لكن – حَسبَ رأيي- لها فوائدُها، ومَضارّها.. مثل كلّ الصناعات في العالم.. يستطيعُ المُدرِكونَ لخفاياها أن يستخدموها ويوظّفوها لخدمةِ الإنسانية.. كما لفنائها.. أو لخدمةِ مصالحِهمُ الشخصيّة…… وهكذا….!!

منذ ساعة، أيّ، في الواحدة ظهراً، جاء التيارُ الكهربائيّ.. واشتغَلتِ الغسّالة الآليّة التي كنتُ قد وضَعتُ فيها (وَجبَةَ) غسيلٍ مُلَوّن.. واشتغَلَ البرّادان، الكبير، والصغير الذي أهدَتني إياهُ الغالية الحبيبة أختي، منذ عِدّة أعوام، لأستخدمَهُ في (المَحَلّ) (المكتبة).. والآن، أضعُهُ في غرفة النوم..

الساعة الواحدة ظهر الجمعة 12/7/2013م

الساعة الآن الثانية إلاّ سبع دقائق بعد ظهرِ الجمعة..

تركتُ الكتابة قبل قليل، واتصلتُ بصديقتي الغالية المهندسة.. لم أجدْها في بيتها.. اتصلتُ بالغالية (نهى) أجابَ زوجُها.. وبعدَ أن تبادَلنا التهنئة بقدوم الشهر الفضيل، والأمنيات والدعاء أن يُعادَ علينا وعلى كلّ الطيبينَ في العالم، وعلى هذا الوطنِ الأغلى، بالصحة والعافية والسلامة والسلام والأمان.. نادى زوجتَه.. جاءتْ (نهى) تبادَلنا المحَبّة، والهمومَ الخاصّةَ والعامّةَ، الصحّيةَ، والنفسيةَ، والإجتماعية، والحالة العامّة في الوطن.. أخبَرَتني أنّ (إبن الأستاذ محمد غانم) استُشهِد.. أذاعوا اليوم في الجامع عن خبر استشهاده (متزوّج، ولهُ ثلاثة أولاد.. زوجته من وادي العيون.. هو ضابط في الجيش والقوّات المُسَلّحة العربية السورية ) قالتْ: لم يقدروا عليهِ في كلّ المحافظات.. كان بطلاً.. ألله يرحمه.. وإنسانيّاً جداً.. إلى أن استهدَفوهُ في (تلّكَلَخ)..

جاءَ زوجي.. دخلَ البيت.. بَدّلَ ثيابَهُ في الغرفة الشماليةِ، وخرَجَ إلى الشّرفة.. جلسَ في ظلّ شجرةِ الكينا العاليةِ الوارفة.. كنتُ بعدَ انتهاء مكالمَتي مع جارتي، أتمشّى ضمنَ البيت، وأنا أشتغلُ الصوف.. (الإسلام السياسيّ، هو عدوّ الإسلام الحقيقيّ.. الحوار هو الحَلّ.. لماذا لا يتكلّمونَ عن أحداثِ (حَماه) في الثمانينات..؟! مَن تبقى لديهِ أحقادٌ من الثمانينات، كيفَ تجلسُ معهُ على طاولة الحوار، وهو مايزالُ حاقداً منذ ذلك الوقت..؟! تُفتَحُ خلالَهُ كلّ الملفّات، لتظهَرَ الحقائقُ كما هيَ.. يتوَضّح الخطأ من أيّ طرَفٍ كان، يا (أستاذ طارق) لم يبدأ الحوار.. الحوار الوطني بمَن حَضَر.. (لجنة مُتابعة الحوار الوطني.. ليس بالشأن السياسي فقط.. بل، في المجال الإقتصادي، والإجتماعي.. وكلّ شيء.. اجتمَعَت.. للتحضير للحوار.. الحوار عمليّة استمرارية في دمشق وفي كلّ المحافظات.. ينحكي بكلّ الأخطاء.. ويُنقَل على الهواء مباشرةً ).. هذه مُقتَطَفات ممّا يدورُ بينَ المُذيعة في التلفزيون العربي السوري (الفضائية السورية) و ضيفها (المحلل السياسي)..

(حلب تتعرّض لحِصار حقيقي من كلّ النواحي….) (أنا مع تسيير القوافل التي تسمّى (SNj) ..) ( أنتَ مع معركة الرأي العام ) (الرأي العام مع الدولة، وليس مع النظام..) (برأيكَ، لم يعرف الرأي العام ماذا يجري في حلب، لحدّ الآن..؟! – لا………… ).. يركّزون على ما يحصل في حلب. يُطالبُ المُحاوِرُ أن يحكي أهل “حلب” عمّا يجري في مدينتهم.. كي لا ندَع للقنوات المُغرِضة تشويهَ الواقع.. هذه مسألة تراكُميّة.. (كلّ إنسان الآن داخل سوريا، هو مُقاتِل.. هو عُنصُر صمود..) (حلب، الآن مُحاصَرة..).

(نسبة القنْص على بعض الأتسترادات 90%.. هل يسألُ القَنّاصُ: هذا مُوالي.. وهذا مُعارض..؟! ) (هم يريدونَ قَتْلَ الحياةِ في سوريا.. )

كلّ هذا ممّا يجري من حِوار على شاشة (الفضائية السورية) بين المُذيعة، والمُحاوِر.. السيد (طارق…)

_________________________________________________________

اليوم، يا أمي، أحضَروا جُثمانَ الشهيد البطل العَقيد (نضال محمد غانم سلمان) سمعتُ من بيتنا – بيتكم – أصواتَ الرصاصِ الناعي..

كنتُ قد طلبتُ تاكسي من بيتكم –بيتنا – صباحاً، وذهبتُ إلى المركز الثقافي، لأحضِرَ رواية (قصّة موت مُعلَن) للكاتب الكولومبيّ المعروف (غابرييل غارسيّا ماركيز).. انتظرَني السائق، حتى أحضَرْتُ الكتابَ من مكتبةِ المركز، ثمّ أقَلّني إلى عيادةِ صديقتي.. وصَلتُ قبلَها بعِدّة دقائق.. كانت الساعةُ حوالي التاسعة والنصف صباحاً.. كانت تنتظرُها مَريضة.. وكانت مُتعَبة، وعليها أن تذهَبَ إلى المَشفى، لأنها مُناوِبَة.. شربتُ عندها كأساً من الشاي الأخضر، كنتُ قد أحضَرْتُ وَرقاتَهُ الخضراء معي.. اتصَلَتْ معي الغالية (يارا) بنت أخي، وطلبتْ مني أن أحضَرَ إلى بيتهم، لتراني وأراها.. أمس، حَضَرَتْ من (دمشق) إجازة لعِدّة أيام.. فطلبْتُ تاكسي مرّةً ثانية، وطلعتُ إلى بيتهم..

كانَ أخي موجوداً هو و (يارا) وأختُها وزوجُها.. زوجتُه كانتْ في تشييعِ الشهيد (رحمهُ الله)..

أمس، كنتُ أنشُرُ الغسيلَ غربيّ البيت.. ناداني زوجي:

-يتكّلّمونَ معَكِ من (دمشق)..

-مَن..؟!

-تقولُ أنّ اسمَها (ميساء يونس)..

-المُذيعة..؟!

-لا أعرف.

استفسَرْتُ منَ المُتصِلة :

– هل أنتِ المُذيعة..؟!

قالت : – نعم..

أخبَرَتني أنها تقدّمُ برنامَجاً اسمُهُ (وَقفة مع كتاب) يقَدَّمُ عَبْرَ (إذاعة صوت الشعب) فقط، في رمضان، الساعة الثامنة والربع مساءَ كلّ يوم.. وهو برنامَجٌ جديد، يهدفُ إلى المُساهَمةِ بتشجيعِ الناسِ على القراءة.. وأنها أخذَتْ رقمي من ابنةِ صديقتي، التي عَرّفَتها عليها زميلتُها..

فاخترْتُ كتاب (داغستان بلدي) للكاتب الداغستانيّ المَحبوب (رسول حمزتوف) لكنني – في اليوم التالي – عندما اتصَلَ بي المُخرِج (حكمت الشيخ بكري) كنتُ قد استبدَلتُهُ برواية (قصة موت مُعلَن) للكاتب الكولومبيّ (غابرييل غارسيا ماركيز).. لصغرِ حَجم الرواية.. ولسهولة استعادةِ أحداثِها، ولأهَمّيتِها أيضاً..

_________________________________________________________

واستُشهِدَ (أحمد)…

أخبَرَتني زوجةُ أخي، على الهاتف..

بكيتُ.. بكيتُ…

نزلتُ إلى عند أهلهِ، وزوجته، التي كانت تجلسُ على سريرِهِما المُزدَوج، وفي حُضْنِها طفلةٌ صغيرةٌ، لا أظنها أكمَلتِ العامَين.. وفي السريرِ الصغيرِ، إلى جانبها، طفلةٌ أخرى حديثةُ الولادة..

هل رأيتَ طفلَتَكَ الثانية، يا أحمد..؟!

لا أظنّ، يا حبيبي..

اتصَلْتُ على رقمِكَ الخَلَويّ.. يرنّ.. يرنّ.. يرنّ…. ولا مُجيب…….!!

أينَ ترقُدُ الآنَ يا أحمد..؟! في بَرّادِ أيِّ مَشفى يا حبيبي..؟! (تشرين العسكري) في دمشق..؟! أم في (إبن النفيس) الذي تعمل فيه أختُكَ كمُمَرّضة..؟! اتصلتُ بها.. أجابَتني ابنتُها.. قالتْ أنهم في (المريقب).. لم أرَها عندما ذهبتُ هذا الصباح إلى بيتكم ياغالي.. رأيتُ إخوتَكَ أمامَ بابِ الدار.. وبعض شباب القرية.. دخَلتُ البيت، أو، البيوت المبنيّة حديثاً.. آآآآآآآآآآه……!! كم كانَ بيتُكم بائساً، يا أحمد..!! آه…………..!!

لكن.. بعدَ أن اشتغَلتُم في (الخليج)… أحضرتَ بعضَ المال.. واشتريتَ سيارةً شاحنةً صغيرةً كُحليّةَ اللون.. واشتغلتَ بأعمالِ البناءِ، والدّهان.. إلى أن استطعْتَ إكمالَ بناءِ بيتِكَ الصغير، ياغالي.. وعندها قرّرْتَ أن تتزوّج.. أحبَبْتَ فتاةً بسيطةً فقيرة من (شريجس) وعندما أخبرتَني بذلك، أرسَلتُ لها معكَ بعضاً من رواياتي، لتقرأها.. لكنّكَ أخبرتَني أنها لا تهوى القراءة.. قلتُ لك : المهمّ أنني أهدَيتُها لها لأنها تحبّكَ، يا أحمد.. وكنتَ قد أوقَفتَ سيارتَكَ الشاحنةَ بعْدَ القريةِ بقليل، كنتُ نازلة سيراً على الأقدام إلى السوق.. قلتَ لي: تفضّلي.. كم كنتُ سعيدَةً برؤيتِكَ ياغالي..!! سألتكَ إن كانتِ السيارةُ لك، فأخبرتني أنكَ اشترَيتَها، ومازالَ عليكَ الكثير منَ الدّين، لكنكَ تعمل بالدّهان، لتؤمِنَ باقي ثَمَنَها، وتكملَ بناءَ بيتِكَ الصغير.. وأخبرتني أنكَ تحبني جداً، وأنكَ لا تنسى كم كنتُ لطيفةً معكَ، في طفولتِك.. ترَحّمنا على الغالية (فَهيمة) أختكَ التي كنتَ ترافقُها دائماً، كأنكَ قِطٌّ صغيرٌ يرافقُ صاحبتَة.. وضحكنا.. أنزلتَني في السوق.. وحلّفتني إنِ احتجتُ شيئاً من السوق (الشيخ بدر) أو، احتجْتُكَ لأيّ شيءٍ بإمكانكَ عمَله ( -أمانة.. لا تترَدّدي في طلَبي.. أنا بالخدمة.. اعتبريني ابنَكِ..).. لي الشرَف، ياغالي..

حبيبي.. يا أحمد.. ألله يرحم روحَك يا حبيبي..

دَعَوتُ اللهَ أن تكونَ استُشهِدْتَ فوراً، دونَ أن يخطفوك، ودونَ أن يُعَذّبوك، ودونَ أن يجرَحوا جَسَدَكَ الغَضّ الطريّ الجميل، يا أحمد.. تمنّيتُ ألاّ تكونَ قد تألّمْتَ قبلَ استشهادِك..

آآآآآآآآآآخ.. يا أحمد…!!

أمّكَ البائسة المريضة العجوز الهزيلة الشاحبة، كانت تجلسُ على يمينِ بابِ بيتهم الصغير الحديث، المُقابل لبيتكَ المُشابه، من جهة الشرق (الرّوَيسة).. عَزّيتُها، وأنا أبكي بمَرارةٍ حارِقة.. كانت عدّةُ نساءٍ تجلسُ في غرفةِ زوجتك، التي تطلبُ ألاّ نعزّيها ( أحمد لم يمتْ.. لا.. لا.. ما مات.. لا تعزّوني.. أرجوكم.. لا تعزّوني.. سوف يحضرُ الآن.. والله أنا لا أستطيعُ العيشَ بدونه.. والله.. والله.. لا أستطيعُ العيشَ بدونِه…….) وتهزّ الطفلةَ في حضنِها، والوَليدَةُ تنامُ في سريرِها الصغير…

كان في الغرفة، أيضاً، بعضُ النسوة.. قالت لي إحداهُنّ : أنتِ التي كنتِ تعزّيننا، وتقوّيننا يافاطمة..!! فأجَبْتُها : والله أحبهُ جداً.. والله أحبهُ جداً..

سألتُ عن أمّكَ وأخواتِك.. أخبروني أنهنّ في بيتهم المقابل لبيتكَ، على بُعدِ أمتار قليلة.. بحثتُ عن أختكَ المَفجوعة (نجوى) كانت عيناها محمرّتان.. مَذهولتان.. غير مُصَدّقة.. قبّلتُها، وضَمَمتُها.. عَزّيتُها، وقلت : (يا أللــــــــه..!! بعدَ كلِّ دعائِنا له..؟! ) أستغفرُ اللهَ العليّ العظيم..

دَقّت لي الغالية صديقتي، وهي قادمة من قريتهم، لألاقي لها إلى أمام بيت أهلي.. لتصطحبني معها بسيّارتها إلى حيثُ أكتبُ هذه السطور (عيادتها).. قبل قليل، أذاعوا نبأ استشهادِكَ ياغالي، من مئذنة جامع (الشيخ بدر) مُعلنينَ أنّ مَوعِدَ دَفنِكَ غير معروف..!! وقبل حوالي نصف ساعة مَرّتْ جنازةُ شهيدٍ آخر من (برمانة المشايخ) قرية (مجبر).. والآن، تقرأ الدكتورة على الفيسبوك نبأ استشهادِ شابٍّ آخر من قرية (برمانة رعد).. رحمكم الله أجمعين.. وألهَمَ أهلكم ومُحبّيكم الصبرَ الجميل…

ودااااااعاً…. يا أحمد…..

في الطريقِ إلى هنا، رأيتُ مجموعةً من شبابِ القرية، ومنهم أخاك، يحفرونَ لكَ القبر..

آآآآآآآآآآآخ….. الحمد لله…

(كلُّ مَن عليها فان. ويبقى وَجْهُ رَبّكَ ذو الجلالِ والإكرام )

قبل ظهر الأربعاء 22 رمضان المبارك/31 تموز 2013م

_________________________________________________________

أخبَرَتني زوجة أخيك، ونحنُ نسيرُ مع مئاتِ المُشَيّعين والمُشيّعات خلفَ جنازتكَ ياغالي، أنكَ اتصلتَ بأخيك، وأخبَرتَهُ أنكم مُحاصَرون، وأنّ عَددَ القتَلةِ المجرمين كبير.. طمأنكَ أنهُ لا بُدّ أن تأتيكم نجدة.. لكنكَ أخبرتَهُ أنّكم قِلّة.. والمجرمون كثُر.. ويهجمونَ بهَمَجيّةٍ كبيرة.. وأخبرتَهُ أنّ عليكَ كمية من الدَّينِ هنا، وكمية من الدَّين هناك.. أوصَيتهُ أن يوَفّيها عنكَ بعدَ استشهادِك.. وأن يهتمّوا بطفلتيكَ، وزوجتكَ الصغيرة.. قالت أنّ أخاكَ أخبَرَهم أنهم كانوا يهاجمونكم من تحتِ البناية، إلى أعلاها.. حيث كنتم في الطابقِ الثالث من المبنى.. وأنهم أصابوكَ من خاصرتكَ صعوداً نحوَ كتفك، أو رقبتك، عبرَ صَدركَ الطريّ ياغالي.. هل أصابوكَ في القلبِ، يا أحمد..؟! هم عصابات إجرامية مُدَرّبَة بشكلٍ عالي.. دَخلوا هذا الوطنَ الأغلى (على غَفلةٍ، أو على خيانة ) وقال أنّ فريقَ النجدة التي قدِمَت إليكم، سَحَبوكَ، وأسعَفوكَ تحتَ وابلِ القَنص، إلى (مشفى المزة العسكري)، بعد أن بقيتَ تنزفُ ربما لساعات، قبل أن يتمكنوا من الوصولِ إليك.. وأنّ زميلَكَ (من وادي العيون) كان قد التقطَ جهازكَ الخلوي بعد إصابتك، وأخبَرَ أخاكَ أنّ إصابتكَ طفيفة، لكنهُ بعد قليل، عاد وأخبَرَهُ أنكَ استُشْهِدتَ ياغالي..

فجرَ يومِ الأربعاء الثلاثين من تموز 2013م

حِرمانٌ في الحياة.. ثمّ حِرمانٌ مِنَ الحياة، يا أحمد…!!

دفنوكَ اليوم يا حبيبي بعد الظهر بقليل..

رحمكَ الله.. إلى جِنانِ الخُلدِ، أيها البطل..

_________________________________________________________

اليوم هو الأربعاء الثامن والعشرين من آب 2013م..

منذ يوم أمس، والعالَمُ يترَقّبُ عُدواناً أمريكياً مُباشِراً على سوريا، بتأييدٍ من الدّوَلِ الإستعمارية، وفي مُقدّمَتِها ( تركيا والكيان الصهيونيّ) بحِجّةٍ باطِلة، أنّ (قوّات النظام) أي (الجيش العربي السوري) قد ضَرَبَتِ المواطِنينَ بالأسلحة الكيماوية (غاز السارين)..!!

أجلسُ على الشرفةِ الغربيّة من بيتنا – بيتكم، يا أمي.. قلتِ لي أنني وُلِدْتُ في (بيت الوسطاني) عند مطلعِ فجرِ يوم الأربعاء الرابع عشر من تشرين الأوّل عام 1953م، الموافق للسادس من صفَر عام 1373هجرية.. كما دَوّنَ عمي الغالي (علي ) في دفتر يومياتهِ الصغير.. وهو عبارة عن مفكّرة صغيرة اقتطعْتُ منها الورقة المدوّن عليها تاريخ ميلادي، وغير ذلك.. (اليوم وُلِدَت لأخي ابنة.. جعَلَها اللهُ من أبناءِ الحياة).. كان ذلكَ بعدَ وصولكم من الأرجنتين أنتِ والغالي أبي والغالي أخي بخمسةٍ وعشرينَ يوماً..

أظنّ أن مَوقِع (بيت الوسطاني) هنا، حيث أجلس، أذكرهُ كالحُلُم، كانت لهُ (بَوّابة) من الشرق، مُقابل دار (بيت الشرقي)..

هل هذا هو سرُّ شعوري بالدفءِ والأمان، هنا في هذا المكان، أكثرَ من أيّ مكانٍ في العالم..؟! أم أنهُ الوطن..؟! هنا خُلِقْتُ.. وهنا ترَبّيتُ.. لعِبتُ مع الأطفال في (الدّوّارة) هنا، أمامَ بيتنا في وسط (المريقب) وفي (الزاروب).. وعلى (الرّوَيْسة) وعلى (بيدَر الضيعة) الذي بُنيَتْ على أنقاضِهِ مَدرسةٌ ابتدائيةٌ، منذ سنوات.. في (الحاكورة) مكان بيت أخي، الحاليّ، حيث كنا نلعبُ أنا وإخوتي وبعض الأطفال تحتَ دالية (قلب الطير) وكانَ غصنٌ طويلٌ ثخينٌ منها يتفرّعُ بشكلٍ شبه أفقيّ ليصِلَ إلى أعلى شجرةِ التوتِ الكبيرة، التي كانت تستقيمٌ بشموخٍ بموازاةِ أخواتها في أوّلِ، وعلى جانب الطريقِ التي تصلُ (المريقب) ب (الأندروسة).. كانَ الغصنُ يشكّلُ في وسطهِ حَرف سبعة (7) تسمحُ لنا بامتطائهِ، والتأرجُحِ فوقهُ، والقفزِ من فوقِهِ.. نتشبّثُ بالغصنِ المَرِنِ المتأرجحِ، ونقفزُ من تحتهِ بعِدّةِ سنتمترات.. نُدخِلُ رؤوسَنا الصغيرة بينهُ وبينَ ساعِدَينا المُتمَسّكَينِ بالغصنِ بقوّة، ونقفزُ بالمقلوب.. ونرتمي على الأرضِ واقفينَ، على الأغلب.. في مباراتٍ رائعة، تُسعِدُ قلوبَنا الغضّة.. وتمرّنُ عضلاتنا ومفاصلنا وعظامَنا على التأقلُمِ والتكيّفِ مع طبيعةِ الجبالِ التي نعيشُ فيها.. أحياناً يسقطُ أحَدُنا من فوقِ الغصنِ، و (ينفشخ) ويسيلُ بعضُ الدمِ من رأسِهِ من خلالِ شَعرهِ الكثيف.. فيبكي قليلاً.. وهو ذاهبٌ إلى أمهِ لتغسلَ جرحَهُ بالماء.. ثم تدهنهُ ب(الدوا الحمرة) وتضغط عليهِ بقطعةِ قماشٍ بيضاءَ نظيفة، تلفّها على مَدارِ رأسِهِ الصغير، وتعقدها من الخلف، حتى ينقطعَ النزيفُ ويشفى الجرحُ بعد عدّةِ أيام.. وأنّ البعضَ كانت تُكسَرُ يدهُ.. أو ساعده، نتيجةَ تلكَ القفزات..

على البيادر، كنا نحلمُ أن تسمحَ لنا جَدّتي (أم صالح) أو عمتي (ندّة) أو (آمنة) أن نجلسَ على (المرج) الذي تجرّهُ بقرتانِ، أو ثورانِ، أو حماران.. يدورانِ فوقَ الزرعِ المَشرورِ بشكلٍ دائريّ على البيدر، دَوراتٍ عديدة.. حتى تفَتّتَ البحصاتُ المُثبّتة في أسفلِ (المرج) أغصانَ الحنطةِ، أو الشعير، أو (القطانة) .. الحمّص.. أو العديس.. أو الجلبانة.. أو الكرسَنّة.. وغيرها من البقول.. وعندما تصبحُ أغصانُ الزرْعِ ناعمةً (تبن) تنفصلُ عنها الحُبوبُ.. فتُذَرّى تلالُ (التبن) وتُفصَلُ عنها (القَصْرينة) الخشنة، وتُجمَعُ الحبوبُ فوق البيادرِ، وتُنقَلُ على ظهورِ الدوابّ في (عُدولٍ) منَ الخَيشِ، حيثُ تفرَّغُ داخلَ البيوتِ الطينيّةِ، المُطَيّنة حديثاً.. فوق (السيباط) في كلّ بيت.. أو على الأسطحة.. وتغربِلُها النسوة ب (المَسْرَد) ثمّ ب (الغربال) من (العَين الواسعة) إلى (العَين الضيّقة) ثمّ تُنَقّى الحبوبُ من الحصى الصغيرة، ومن الحبوب الأخرى الناتجة عن الأعشاب الضارّة.. و (تُصَوّلُ ) الحنطةُ المُعَدّة للسلَلْقِ.. كل عائلة حسبَ حاجَتها السنوية من (تنكات) الحنطة (البلَديّة) السمراء، أو (الطليانية) الفاتحة، لتحويلها إلى (برغل).. فتُسلَقُ في (مَرَدّات) من (قَصّات البراميل) الحديدية.. توقَدُ تحتها أغصانُ الأشجارِ اليابسة، و (قرامي) الحطب الجافّة، وتُشوى على جَمْرِها بعضُ (عرانيس) الذرة الصفراء.. وتؤكَل.. وبَعْدَ السّلقِ، تُرفَعُ الحنطةُ المسلوقةُ من الماءِ الغالي، لتوضَعَ في (قَفِف)  مَصنوعة يدوياً من أغصان الريحان (الآس) المُتداخِلة، فتُصَفّى من الماءِ، ثمّ تُرفَعُ إلى الأسطُحِ، على الأكتافِ.. تصعَدُ المرأةُ أو الرّجُلُ وهم يحملونَ (القفّةَ) على دَرَجاتِ سُلّمٍ خشبيّ، حتى تُصبِحَ أكتافُهم مُوازية للسطح، فيتناوَلُ (القَفِفَ) بعضُ الشباب، أو الرجال، ويفرشونَ الحنطةَ المسلوقةَ الحارّةَ، فوقَ أرضِ الأسطُحِ المُطَيَنةِ بعنايةٍ، بالترابِ الأبيضِ الناعمِ، وتُترَكُ لتجفّ تحتَ أشعّةِ الشمسِ، عدّةَ أيام، تُحَرّكُ كلّ يومٍ عدّةَ مرّاتٍ، بواسطةِ الأقدامِ المَغسولةِ جيداً، لتجفّ بسرعةٍ أكبر.. فترتسمُ دُروبٌ رائحَةٌ، وغادية فوقَ الحنطةِ المَفروشة..

كم كنتُ أستمتعُ (بتحريكِ السّليقة) أو (البرغل)..!!

كانتِ الحنطة الجافة تُجمَعُ في (عُدولٍ) من الخيشِ الأسمر، وتُحَمّلُ على ظهور الحميرِ، بعدَ رَبطِها بقوّة، وتؤخَذُ إلى (طاحون الشيخ) عند (نهر البلّوطة) أو (طاحون  الشيخ بدر) عند (نبع الحلو).. فتُجرَشُ، وتُعادُ بنفسِ الطريقة، إلى البيوتِ، وتُرفَعُ إلى السطوحِ، وتُشَمَّسُ بنفسِ الطريقةِ، ثمّ يُنقّى (البرغل) مرّةً ثانية، ويُنَخَّلُ، حتى يُفصَلَ البُرْغُلُ الناعمُ، عن البُرْغُلِ الخشِن.. ولكلٍ استعمالاتُهُ الخاصّة..

( المسارد) و (الغرابيل) و (المناخل) كان أهلُ القريةِ يشترونها من (الرّيّاس)..

_________________________________________________________

كانت (المريقب) عبارة عن عِدّة حارات.. (حارة الضهر) مؤلّفة من ثلاث بيوت.. (بيت الشيخ محمد علي اسميعيل) و (بيت الشيخ محمد صالح) و (بيت الشيخ ياسين سلامي)…… و.. (حارة بيدر الخاليّة) فيها (بيت الشيخ علي عبد اللطيف سلامي).. و.. (بيت علي هاشم ونوس) وعلى سفح (بيدر الخاليّة) كانت هناك عدّة صناديق حجَرية مبنيّة فوق قبور.. وفيما بَعد، بُنيت فوق القبور، قِبّة.. وصارت تُدعى (قِبّة الشيخ عبد الرحمن سلامي).. وعلى ارتفاع عِدّة أمتار، من الغرب، كانت هناكَ عِدّة بيوت (بيت محمد ديب العجي) و (بيت علي محمد ديب العجي) و (بيت عزيز محمد ديب العجي).. وفوقها بِعِدّة أمتار، (بيت الشيخ علي حسَن عبد الرحمن سلامي) و (بيت كامل حسَن عبد الرحمن سلامي ) و فوقها (بيت جَدّي الشيخ سليم صالح صالح).. وبقايا (مْصِيف).. و (بئر ) و قربَهُ (جرنٌ ) حجَريّ أسود، ذو حَوضَين بعُمقِ حوالي متر.. وعَرضٍ مشابه.. كانَ أحدُ الحَوضَينِ مكسوراً.. والحوضُ الآخرُ صالحاً للإستعمال.. وفي أعلى قِمّةِ الجبَل (جَبَل المريقب) أو (ضهر المريقب) تترَبّعُ عِدّةُ قبورٍ، أقدَمُها قبر (الشيخ محمد ال بالضهر ) مَبنيٌّ فوقَهُ صندوقٌ حَجَريٌّ رماديُّ اللون.. ومؤخّراً بَنى أحَدُ المُغترِبين (الشيخ يحي عبد الرحمن سلامي ) فوقَ القبرِ، قُبّةً إسمنتيّة.. وهي عبارة عن غرفة واسعة تحوي القبور الموجودة هناك.. ويمكنُ للمُصَلّينَ أو الزوّارِ، أن يدخلونها ويُصَلّونَ فيها.. ويوقِدونَ البَخورَ.. ويقرؤونَ القرآن.. ويدعونَ اللهَ العَليّ القديرَ، أن يُحَقّقَ لهم ما يرجونهُ من خير.. لهم، ولأحِبّتهم، ولكلّ الناسِ الطيّبين..

كانتْ هناكَ، أيضاً (حارة المْحَطّة) وفيها (بيت علي حَبيب حَسِن) و (بيت محمد سلمان اسميعيل) و (بيت عَليا مرت علي محمود سليمان حَمّود) الذي بناهُ لها ولأولادهما، زوجها بعدَ أن تزوّجَ امرأةً ثانية، وسكنَ في (الأندروسة).. و (حارة بيت خَضّور) وفيها (بيت محمود عيسي خَضّور) و (بيت سليمان سْعيد خضور) و (بيت محمد سليمان سْعيد خضور) و (بيت علي أحمد سْعيد خضور) و (بيت محمود علي اسميعيل ).. و (حارَة بيت زرّوف) وفيها (بيت جوهْرة القرحيليّة) و (بيت أحمد علي زرّوف) و (بيت عبد الرحمن زرّوف) و (بيت الشيخ سلمان غانم محمد) و (بيت خالي الشيخ محمد ابراهيم عباس) وبَعدَها باتجاه الشمال (حارة بيت القرحيلي) وفيها (بيت أحمد القرحيلي) و (بيت محسن القرحيلي).. ولنعُدْ قليلاً نحوَ الجنوب، إلى قربِ (بيت خضور) و (بيت زرّوف) وعلى مَرجٍ، يترَبّعُ (جامع الشيخ علي سلمان المريقب) وعلى تَلّةٍ صغيرة غربيّ الجامع، مَقبَرَةُ الرجال، التابعة لقرية (المريقب).. أما مقبَرةُ النساء، فهيَ أقرَبُ إلى مَركَزِ القرية (المريقب) على ورْكِ (جَبَل المريقب) تحت (بيدَر الخاليّة) في منطقة تُدعى (الرّامة) لكونِ (رامَةٍ) من الماءِ كانت تتجمّعُ شماليّ المقبَرة.. في أسفلها نبعٌ ماءٍ ضَحْل.. كانتِ (الرّامة) تتجلّدُ في الشتاء.. وأحياناً يكونُ الجَليدُ سميكاً جداً، لدَرَجَةِ أننا كنا نحن تلاميذ وتلميذات الصفوفِ الإبتدائيّة، (نتزلّجُ) فوقها.. ونحاولُ تكسيرَ الجليدِ السميكِ الذي يُغطّيها، بالحِجارة، بكلّ ما أوتينا من قوّة.. أتذكّرُ أخي (اسماعيل).. عندما كانَ يَجْهَدُ في تكسيرِ جَليدِها، ونحنُ نازلونَ إلى المَدرسة، يحملُ كلُّ طفلٍ منا (قِرمة) حَطَب، للتدفئة على مدفأة الحطب في المدرسة.. أحياناً تفلتُ (القِرْمَةُ) من أيدينا الصغيرة (المُكَرْفِحة) من البرد…. كانت هناكَ، أيضاً (حارَةُ الصّفحة) تحت (حارة الضهر) من جهةِ الجنوب.. كانَ فيها بَيتان (بيت خالي الشيخ ابراهيم ابراهيم عباس) و (بيت علي محمد عباس).. والحارة الأمّ في (المْرَيْقِب) كان بيت أهلي، وما يزال، في مَرْكَزِها.. على جانبهِ من الجنوب (بيت علي ابراهيم اسميعيل) ومن الجنوب الشرقي (بيت حبيب حسن/السْكيف، وزوجته جوهرة) و (بيت محمد حبيب حسن/السْكيف) وكان أمام بيتهم من الجنوب (مْصيف بيت حبيب) وفوق (بيت حبيب) من الشمال، كان، ومايزال (بيت أهلي.. بيتنا.. بيت الشرقي) الذي كان لجدّي أبو أمي (الشيخ سليمان صالح صالح.. وزوجته، وطفلهُ الذي لم يرَه) ومقابل (بيت الشرقي) مَنّ الغرب، كان هناك (بيت الوسطاني) الذي وُلِدْتُ فيه.. وكان لجَدّي (الشيخ محمد صالح صالح، وزوجته حَبّوب، وابنتهما الوحيدة، عمّتي خديجة) و بَعدَه باتجاهِ الغرب (بيت الغربي) وهو بيت جَدّي (الشيخ علي صالح صالح، وزوجته، (قنوع عبد الرحمن سلامي)، وابنتيهما ستّي سَعدة، وفضّة زوجة محمود علي اسميعيل، وابنهما الوحيد، يحي علي صالح) الذي تزوّجَ ابنةَ عَمّه(عمتي خديجة) ورُزِقا طفلة لم تعش سوى عِدّة أشهر.. توفيَ أبوها بعدها.. وبقيتْ (عمتي خديجة) و أمها (أمّي حَبّوب) محتميتانِ بكَنَفِ جَدّي (الشيخ سليم) إلى أن تزوّجَتْ (عمتي خديجة) من (الشيخ علي حسن ) الأرمل، الذي عندهُ عدّة أبناء وبنات، وهو من قرية (بْجَنّة) في الجرد..

أمام بيت أهلي، من الشمال.. كانت، وما تزال (الدّوّارة).. و(بيت ابراهيم علي حَسِن”الإسكافيّ”) شرقيّها.. وكان (دُكّانهُ) مقابل (الدّوّارة) من الشرق.. وبينهُ وبين بيتهم، كان هناكَ دارٌ واسعة، فيها بئرٌ خاصّ لهم، عليه (طْرُمْبة) يخرجون الماءَ منهُ بواسطتها.. وتحت (بيت ابراهيم) من الشمال (بيت اسميعيل خضور، وابنه الوحيد”ابراهيم” وزوجته الأولى “مَريِم” التي أنجَبَتْ لهُ ثلاث بَنات “سْعَيْدِة” و “مَرّوش” و “فاطمة”..).. أمّا (الزّاروب) الذي يتخلّلُ القرية من وسَطِها، فكان، ومايزالُ يبدأ من بين بيت أهلي وبيت ابراهيم.. مُتّجِهاً نحوَ الشرق.. مارّاً خلفَ (بيت الشرقي) على يمينهِ (بيت كامل غْبيسو – ونّوس) وله أخ (أحمد غْبيسو – وَنّوس) يسكن بيتاً منفرداً، بين (عين شْعات) و (المْغَيْسِل)…… و (بيت محمود سليمان حَمّود) وعلى يسارهِ (بيت أحمِد العجي) و (بيت حْسان العجي).. وعلى يمينهِ أيضاً (بيت حَسِن) و (بيت عباس حَسِن) و (بيت عزيز حسِن) وبيت أمّهِما الأرمَلة (كَلتوم) وابنتُها (حَفيظة).. وجَدّتهما التي كنّا ندعوها (ختيارة بيت حَسِن) .. ومن يسار الزاروب أيضاً (بيت محمد حَسِن العجي، وزوجته سليمَة) و (بيت محمود محمد حَسِن العجي).. ومن يمين الزاروب، أيضاً (بيت جدّي الشيخ أحمد غانم محمد، وزوجته فضّة) ومن يسار الزاروب أيضاً (بيت ابراهيم علي حْسان، وابنه صالح ابراهيم علي حسان “صالح ديبة”).. تليه (الرَوَيْسة).. تلكَ التلّة الخضراء الذي يتربّع فوقها صندوقُ قديمٌ لوَليّ صالح (الشيخ سلمان) وحَولهُ عدّة قبور.. وتحتَهُ من جِهةِ الجنوب، شرقيّ (بيت الشيخ أحمد غانم) هناكَ مقام (الشيخ جمعة) وحَولهُ عدّة قبور، أيضاً.. وقد بُنيَتْ فوقهُ قُبّه.. وهي عبارة عن غرفة مطليّة باللونِ الأبيض، تضمّ القبور، لها سقفٌ من قُبّةٍ خضراء…

لنعُدْ إلى غربيّ بيتنا – بيت أهلي..

هناكَ (بيت يوسف محمد عباس) وغربيّه (بيت كامل محمد عباس) وغربيّه (بيت جدّي الشيخ سليمان صالح،وزوجته” كفى” من “القليعات” ) وفوقهُ (بيت علي سليمان صالح) وتحت بيت علي سليمان، من الجنوب (بيت جدّي الشيخ عباس أحمد عباس).. شرقيّهُ (بيت محمد عباس أحمد عباس، وزوجته كاملة سلمان غانم محمد).. وفوقهُ من الشمال، كانت هناكَ غرفة كبيرة، قديمة “بيت” تسكنُهُ (ستّي أم عباس) (حْمامة) وهي أمّ (ستّي أم صالح) أيضاً.. ثمّ.. (بيت علي ابراهيم اسميعيل) من الشرق.. وتحتَ القرية من الجنوب كان (بيدَر الضّيعة).

***********************************************

ما رأيُكِ، أن نقرأ بعضاً من مشروع رواية لم تكتمل، كنتُ قد كتبتُها عام 2007م، ثم ألغيتُها، وكتبتُ ( مجنونةُ الخصيبة )..؟؟!

أعرف أنكِ ترغبين… فطالما كانت تمتعكِ كتاباتي..

هيّا .. يا غالية ..أخبريني عندما تمَلّين..

( سألتني:

– كيف أصِل إليهم..؟!

أجبتُها:

– سيري نحوهم..ولابدّ أن تصِلي..

قالتْ:

– أنتِ دائماً حالِمة..

قلتُ:

– وما العيب في ذلك..؟!

ردّتْ بنزق:

– الأحلامُ أوهام..

أجبتُها بصوتٍ مرتفع :

– بل هي مُقَدّمةٌ للواقع.. )

– مَلَلْتِ، يا أمي..؟!

– مَلَلت..!! اقرئي.. اقرئي..

-يا الله..

(  –  روتْ لي/ حبيبة/.. أحاديثَ.. عادية.. بعضها ممكن.. وبعضها يحمل من الغرابة الكثير.. لدرجة أنكَ لو سمعتَها.. قد لاتصدّقها..

لكنها تنفعلُ بشكلٍ عنيف..عندما تراني أشكّ بما تقول..

لذلكَ.. كثيراً ما ألتزمُ الصمتَ.. كأغلب النساء في بلادي.. وأدّعي الموافقة.. وأنني أصدّقها كما تصدّق أية امرأة أحاديث الرجال..أو كما يدّعي الأبناء /المطيعون/أمام آبائهم..أنهم مقتنعون بما يُملونه عليهم من أوامر..ونواهي..أو كمايدّعي أيّ مقموع..أمام أية سلطة قامعة.. موافقته.. بل إذعانه لمطالب هذه السلطة..المتسلّطة..هي تُملي فقط.. وعلى الآخرين الإمضاء.. والموافقة../دون شروط مُسْبَقة/..أي دون سماع الرأي الآخر..أو بالأحرى عدم الاعتراف بحقيقةٍ بديهيّة طبيعيّة..هي ببساطة.. حقّ الآخر..أياً كان هذا الآخر.. بالوجود.. والتعبير عن ذاته.. وخصوصيّته.. وفرادته..التي لا تنفي.. ولا يمكن لها أن تنفي الآخر..الموجود بالقوّة الطبيعية.. قوّة الحقّ..

والتي لاتقبل الاعتراف بحقيقة موضوعيّة..أن لكلّ إنسان.. خصوصيّة فرديّة.. تختلف عن خصوصيّة الإنسان الآخر..اختلافاً يُثري الحياة.. ويمنع عن الناس جميعاً..الشعور بالملل والعُقم..نتيجة التشابُه..والنرجسيّة..الناتجين عن الاستبداد..والتسلط..ومحاولة إلغاء الآخر..

أوافقها مُرْغمة..ولا أتعِبُ نفسي كثيراً لأستقصي صِدقها..أو عَدَمه..لذلكَ أبقى مُتفرّجةً سلبيّة..أنفعل بما أسمع..أو أرى..ولا أفعلُ شيئاً..

كانتْ جدّاتنا../رحمهُنّ الله/.. يُرَدّدنَ دائماً هذه المقولة../ألله يستر.. من حُكم المحكوم../..

فالمَحكومُ بالصمت..لا بُدّ – مهما طالتْ مُدّةُ حُكمِه -..أن ينفجرَ صَمْتُهُ – يوماً- كما تنفجرُ البراكين.. تتحدّدُ قوّةُ انفجاركلّ بُركانٍ بمقدار الضغطِ الموجودِ داخله.. وبمقدار ما يستطيع هذا البركان أن يُحْدِث من اتساعٍ.. كوّنَه على شكل فُتحَةٍ في القشرة الأرضيّة.. ليقذِفَ حِمَمَهُ منها..

ولا يهمّهُ عند ما يحدث هذا الانفجار.. متى يقع ..أو أين يقعُ..أو مَنْ يُصيب..

المهمّ عندها .. أن يُفرّغ طاقته.. التي فاقتْ قدرته المحدودة بالفِطرة.. على الاحتمال .. )

 

 

(- كنتُ أقذفهُ بالحجارة..متعبةً..مرهقة..

كدتُ أسقط ..بل سقطت عدة مرات ..ونهضت..

عاد أكثرهم من مسافات متباينة..حتى ظننت أنني ربما أصبح وحدي..

كان هذا الشعور يزيد من إحساسي بالضعف والإنهاك..لكنني –رغم ذلك- كنت أتابعُ رَجْمَه ..غير عابئة ..

عصرت قلبي..نزفتْ عيناي ماتبقى من أنين وغصص حارقة..

كنت ألهث..وألهث..عندما سمعتُ حفيفَ ثوبه..

ووسط نصف التفاتة..ألقى بكَفّهِ فوق كتفي..وأخذ يناولني حجراً..ويقذفُ آخر..

شعرتُ بالقوة..

– إذاً..لستُ بمفردي..

ساورني شكّ من وجوده..تباطأت يداي..

حثني:

– تابعي..أنا معكِ..

ازدادت حيرتي..

– هل من المعقول أنك مختلف عنهم..؟!

شدّ على كتفي..ومن ثَمّ..على ساعديّ..

– اطمئني..إنني صديق..

التفتّ إلى الخلف..كانوا جميعاً يتبعثرون في تفرّعات الطرق الراجعة..

تطلّعتُ نحو الأفق الأماميّ..

كادتِ الشمسُ تغرب.. ولا يزال الغولُ يستشيط.. وينفثُ سمومَه نحوَنا.. يرغي ويزبدُ كلما رأى أحداً يتراجع.. وتزدادُ شراستُه في وجهي عندما يراني وَحيدة ..

– ولا يهمّكِ.. حتى لو لم يبق أحدٌ إلا أنا وأنتِ.. سنطرده ..

شعرتُ بالقوةِ تُبعث في روحي وجسدي .. كما لم تكن من قبل..

التقطتُ حجراً أكبر.. ثم حجارة..

وحتى الآن.. لم أتعب.. )

هههههههه تعِبْتِ أنتِ يا أمي..؟!

لا عليكِ…. سأتوقّفُ عن القراءة الآن..

_________________________________________________________

أغوصُ في تلك الأعماق، مسافاتٍ متفاوتة.. واتساعات مختلفة.. أو انفراجات.. تبدو هناك أشكالٌ واضحة.. وأخرى غائمة.. وبعضها بين النور والظلمة.. ظلالٌ، وأعشاب.. شمسٌ، وغيوم.. مطرٌ، وجفاف.. بردٌ، وقيظ.. حربٌ، وسلام.. و، بين بين.. ضياعٌ، ووجود………………….

هاهي ملامحُ شيخٍ جليلٍ، يعتمرُ لبّادةً، على رأسه، تدلّ على مرتبةٍ دينيةٍ رفيعة، يتنقلّ على دابّتهِ بين القرى المتناثرة على أكتاف تلك الجبال.. بهمّةٍ عالية.. وإحساسٍ جسيمٍ بثقلِ المسؤولية.. وبالواجب المترتّبِ عليه، في تلكَ الظروفِ العصيبة.. يرافقُ الشيخ، رجلان قويّا البُنية، إلى حَدّ ما.. يقطعان معه الدروب الضيقةَ.. المُحَصّاة.. والمُتربة.. والمُعْشبة.. وأحراش السنديان، والبلوط، وشجيراتِ  الريحان (الآس )، التي تبدو فوق أغصانها الحانية، بعضُ حبّاتِ الآس (حنبلاس ) الخضراء… والتي يميلُ بعضُها إلى البياض…. يتغذّون منها ومن ثمر السنديان العتيق (الدوّام ).. حين يعضّهم الجوع.. وتبعُد المسافة بين القرى المقصودة..

على الشيخ مَهَمّاتٌ كثيرةٌ.. سيؤدّيها على أكملِ وجهٍ، قدرَ المُستطاع.. كما فعلَ آباؤهُ، وأجدادُه.. لم تكنْ  تثنيهم عن أداء الأمانات، والقيامِ بالواجبات.. أيةُ ظروفٍ.. مهما قسَتْ.. أو، سهلتْ.. هي الأمانة، التي عجزتْ عن حَمْلها الجبال…!! فكيفَ يحملونها دون أن يسلّموها إلى أصحابها على أكملِ وجه..؟! ناكرينَ ذواتهم.. مُكتفينَ بالحَدّ الأدني من حقوقهم المادّية، من هذه الدنيا الفانية..

إنني أراهُ يركبُ دابّتَهُ، ويقطعُ الأحراشَ، والجبالَ، والوديان.. يرافقهُ اثنانِ من أتباعِهِ، يحرُسانه من الأعداء.. فقد كانَ قَتْلُ العُلماءِ أهَمّ عندهم بكثير من قتل الناسِ العاديين (العَوامّ ).. كان كلّما وصَلَ إلى قريةٍ،أو مزرَعَةٍ صغيرة.. يحيطُ بهِ الناسُ بالكثيرِ من السرّية.. يحاولونَ كَتْمَ خبرِ وصوله عن الناسِ البسطاء، خوفاً من إفشاءِ سعادَتهم، فلا يستطيعونَ إخفاء شعورهم بالأمان، والقوة.. والحماية.

هاهو ينزلُ عن (البغلة ) بقنبازهِ الأبيضِ، المُخَطّط بخيوطٍ من القصَبِ اللامع، مفتوح الجانبين من أسفلِ الكاحل، إلى منتصفِ الساق.. يظهرُ تحتَهُ (شنتيانهِ) القطنيّ الأبيض.. يتوكّأ على عصاهُ القويّة.. يسوّي (اللبّادة ) البيضاء التي تحيطُ برأسهِ، تتوسّطها من الأعلى دائرةٌ حمراء.. يُحَيّي المُستقبِلينَ، بصوتٍ خفيض.. يُدْخِلُهُ بَعضُ الرجالِ، (المَضافة).. بينما يقودُ أحدُ الحارسَينِ الدابّةَ، ويربطها بأحَدِ الأوتادِ، خلفَ جُدران صَمّاء. يُهرَعُ أحدُهم ليسقيها بدَلوٍ مَعدنيّ، للتوّ أحضَرَهُ من النبعِ القريب.. ثمّ يخلطُ بعضَ (التبنِ)، ببعضِ الشعير، ويديرُها فوقَ (المَعلف) أو (الجّرْفة) الخشبية.. ينتظهرها حتى تشبع.. ويحرُسُها (متل عين الرّمْدانة).. ويعتني بالسّرْجِ المُثبّتِ فوقَ ظهرها، وجَيبيهِ، من الجانبَين..

وحينَ يُنهي الشيخُ مَواعظَهُ، ويُلقي على الناسِ (العامّة) أو (العوام) بعضَ علومه.. ويستمع – بكلّ اهتمام – إلى أهَمّ المشاكل التي يعاني منها الناسُ هناك.. ويُفتي لهم بأكثرِ الحلولِ الملائمةِ لها.. ويقرأ مع بعض الرجال الآخرين الموثوقين، فاتحةَ الشباب الراغبين بالزواج (على سُنّةِ اللهِ، ورسوله ).. ويعقِدُ قرانهم على الفتياتِ اللاتي قبلنَ بهم أزواجاً.. ولا ينسى – بعدَ أن يدفعَ لهُ البعضُ زكاةَ أمواله – أن يوزّعها على أكثرِ الناسِ فقراً، وأكثرِهم حاجةً.. لأنهُ يُعتبَر بمثابة (بيت مال المُسلمين).. عندها – وبنفسِ السرّيّة – يخرجُ الشيخُ مُحاطاً بالرجال.. وبسرعةِ البرق، يركبُ (بَغلتَه) وينزلُ مع الحارسَينِ، باتجاهِ قريةٍ، أو مَزرَعةٍ أخرى.. وعن قِمَمِ التلالِ المُحيطة، يخفرُهم أقوى الرجال، وأكثرُهم أمانةً، وثقة.. حتى يختفون عن الأنظار.. داخلَ الأحراشِ.. وبين أحضانِ الوديانِ، والتلال.

_________________________________________________________

في أحدِ الأيام.. عندما كان (الشيخُ العالِم) يزورُ قريتهُ التي وُلِدَ فيها، ليطمئنّ على أسرته، وجيرانه.. ناوَلَهُ أحدُ البُسطاءِ قطعةً دائريّةً بحجم كَفّ الرجل، من (التين المُهَبّل).. (هَبّولْ تين ).. قبلَ أن يودّعَ أهلَهُ وأبناءَ قريته، على أمَلِ العودةِ بين فترةٍ، وأخرى.. حين تسمحُ لهُ الظروف.. فهوَ لم يُهْمِلهم يوماً.. لكنّ تأخّرَهُ بالقدوم، كانَ بسببِ مَشاغِلِهِ الكثيرة في قرى أخرى.

كانَ يتقاسَمُ المناطقَ مع بعضِ العلماءِ الآخرين، المُتنوّرين.. لتشملَ رعايتهم كلّ الرعيّة.. لم يَنسَ أحدُهم – يوماً – الحديث الشريف (كلّكم راعٍ.. وكلّكم مسؤولٌ عن رَعيّتِه )..

استدارَتِ الفرسُ بسرعة.. ركَلها بكَعبيهِ رَكلَتين.. قبلَ أن تندفعَ مُسرِعَةً من تلكَ الساحة الواسعة أمام بيته الذي يتوسّطُ القرية.. حيثُ كانَ يجتمعُ أهلُ قريته، التي يشعرُ فيها بالأمان أكثرَ من أيّ مكانٍ آخر.. فالكلّ، إمّا أقارب.. أو جيران.. أو مَعارف.. أو أحباب.. والقريةُ بسيطةٌ جداً، على أيةِ حال.. فهيَ صغيرة.. وبيوتُها بائسة.. مثلها مثل أغلب القرى والمَزارع.. أثخَنَتهمُ الحروب.. وألّفَ بينهمُ الظلمُ الذي لم يستثنِ أحَداً منهم.. فبنوا بيوتاً من حجارةٍ، وطين.. متلاصقة.. يتخلّلُ القريةَ (زاروبٌ) بعَرضِ أربعةِ أمتارٍ، على الأكثر.. يتيحُ للناسِ الدخولَ إلى بيوتهم،والخروجَ منها.. من الجانبين.. ويصلُ (الزاروب) إلى تلّةٍ في آخر القرية من الشرق.. اسمها (الرّوَيْسة).. حيثُ يعتلي قِمّتَها مَقامَينِ لوَليّينِ صالحَين، يرقدانِ فيهما منذ مئات السنين.. مقام (الشيخ جمعة).. ومقام (الشيخ سلمان).. وهُما من أقدَم عُلماء، ومَشايخ القرية، والمنطقة.

جميعُ أهل القرية،يعرفونَ بعضَهم.. ويتعاوَنونَ فيما بينهم.. ويتكافَلون.. ونادراً ما يُعْرَفُ فيها مُراوِغ..

لم تبتعِد (البَغلةُ) كثيراً.. كانت قد قطَعَت تَلّتينِ، أو ثلاث.. ولم يكنِ (الشيخُ العالِمُ) قد أكَلَ أكثرَ من نصفِ (الهَبّول)، حينَ شعَرَ بالمَغصِ الشديدِ، والدّوار.. وبالحاجةِ المُلِحّةِ للإقياء.. توقّفَ عن المَضْغ.. و بقدرةِ قادرٍ، توقّفتِ البغلة.. دَقّت بحافريها الأرضَ بقوّةٍ، وصهَلتْ، وفرائصُها ترتعد.. صهيلاً متواصلاً.. كأنهُ إنذارٌ بمُصيبةٍ عظيمة حَلّتْ براكبها، الذي نزلَ عن ظهرها مُتكئاً على كتفيّ مُرافقَيه.. ارتمى فوقَ الترابِ، وراحَ مافي أحشائهِ يخرجُ من أعلى ومن أسفل.. بلونهِ الأخضر المائلِ إلى السواد…

-ديروني على القِبْلة…

-دخيلك يا شيخ..!!

-ديروني…. ولا تتّهِموا أحداً..

-دخيلك يا (شيخ صالح) دخيلك يا سيدنا..!!

-إنهُ قضاءُ اللهِ، الذي لا رادّ لحُكْمه…. تماسَكوا… ولا تعاقبوه..!!

-فَعَلها (عَبّوس)..؟! أقسمُ أنني……….!

-لا… لاااااااااتفعلْ، ياأحمد….!! إنها مشيئةُ الله تعالى… وما شاءَ فعَل.. إنه القضاءُ المحتوم.

وأخذَ (الشيخ صالح) يصلّي، بما تبقّى لديهِ من قوّة.. ويقرأ الفاتحة.. ويتشاهد.. وجسدُهُ المُتهالكُ مُتّجهٌ إلى القِبلة… حتى غارتْ عيناهُ.. واصفرّ وجهُهُ النورانيّ، حتى صارَ بلونٍ التراب… كانتْ آخر كلماتهِ التي سمعها بوضوح مُرافقاه.. (أحمد) و (علي).. وهُما يندبانِ سيّدَهما.. ويمسحانِ عرَقَهُ، ومفرزات جسَدهِ الرغويّةِ المدمّاة..

(أشهدُ أن لا إلهَ إلاّ الله.. وأشهدُ أنّ محمّداً رسولُ الله )

ارتجّتِ الأرضُ من تحتِ أقدامهما.. وصاحَتْ كلّ ديوكِ القرى، بصوتٍ واحد… و (دَقّتِ الخليلة )… ثمّ سادَ السكونُ الجليل..

عندما سمعَ الأهالي صوتَ الصهيل.. وعرفوا أنّ دابّةَ الشيخِ قادمةٌ نحو القريةِ، جامحةٌ.. وهائجة… لم يكنْ على ظهرها المُرتعِد سوى السرجُ الفارغ.. تنادَوا هَلِعين… واجتمعوا في ساحةِ القرية أمام بيت (الشيخ صالح) حيثُ وقفتِ الدابّةُ المهتاجة.. وراحت تضربُ الأرضَ بحافرَيها.. وصهيلها المُلتاع يخرقُ عِنانَ السماء.. ويوقظُ، حتى الصغار..

صاحتْ (أمّ صالح):

-راح صالح…….!!

صرَختِ الزوجةُ الحاملُ بطفلها الأول:

-لا… لااااااااا…. لااااااا…

لكنّ زوجة عمّها – حماتها- هدّأتها:

-الحمد لله يا ابنتي.. الحمد لله… ولا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بالله العليّ العظيم..

_________________________________________________________

تمَسّكَ أهلُ القريةِ التي كانَ يقصدُها الشيخُ قُبيلَ وفاته.. تمسّكوا بجسمانه الطاهر.. وأقسَموا أن يدفنوهُ في أرضِ قريتهم، تيمّناً، وبرَكة.. ولم يُمانع أحدٌ من أسرته… فالشيخ الجليلُ لم يكنْ يعني فئةً دون أخرى.. أو عائلةً دون أخرى.. أو قريةً دونَ أخرى… إنه شيخُ الجميع.. وعَلاّمَةُ الجميع.. ورمزُ الجميع.. وبركةُ الجميع.. بعلمهِ الواسع الذي كان يخدمُ بهِ الجميع.. وبزُهدِهِ بمَتاعِ الدنيا الفانية..

أثناءَ تشييعِ الشيخ، اجتمعَ كلّ مَن استطاعَ السيرَ على قدَميهِ، من رجالٍ، ونساء، وأطفال.. دفنوهُ – في مَوكِبٍ مَهيب – تحتَ سنديانةٍ مُعَمّرَة.. كانَ قد أوصاهم ألاّ يقطعوها.. وأن يتركوا الأشجارَ التي حَولها تنمو، .. لتعودَ الخُضرةُ إلى تلكَ القِمّة، بعدَ أن أحالَها الجَرادُ، والقحطُ، والحروبُ إلى شبهِ موات.. وبنوا حولَ قبرهِ ( صندوقاً) من الحجارةِ البيضاء التي تفنّنَ الحَجّارون بزخرفتها، وتدويرِ أطرافها.. ونقشوا عليها (سورةَ الفاتحة) وأرّخوا بالشعرِ لميلادِ الشيخِ، ووفاته.. بالتقويم الهِجريّ.. ونقشوا اسمَ المؤرّخِ، أيضاً.. وصارَ مقامُ الشيخِ مَزاراً لكلّ مَن عرفهُ.. وكلّ مَن استفادَ من عِلمهِ، وخِدمته، وإنسانيّته.. ونكرانهِ لذاتهِ.. وتفانيهِ في خِدمةِ الآخرين.

هُرِعَ أحدُهم، يحملُ سكّيناً، ويحاولُ أن يغرزها في قلبِ مَن أعطى الشيخ العلاّمةَ (هَبّول التين).. لكنّ الآخرينَ رَدَعوه.. ألم تكنْ وَصيّةُ الشيخِ لهم، ألاّ يُعاقِبوا الفاعِل..؟! كانَ متأكّداً أنهُ إنسانٌ بسيط.. وأنّهُ أعطاهُ التينَ، بمُنتهى صفاءِ النيّة.. لكن.. من أينَ جاءَ بالتينِ المسموم..؟! واعترفَ (عَبّوس) أنّ قريبَهُ (الإقطاعيّ) الذي يأتمرُ بأمرِ أسيادِهِ الغرباء.. هو الذي طلبَ منهُ أن يناولهُ للشيخ.

وعلى مدى عقود.. صار السنديانُ ينمو، ويكبر، ويزدادُ اخضراراً، دونَ أن يَمَسّوه بأذى.. ظلّ – كما خلقه الله- شجراً طبيعياً.. وشكّلَ غاباتٍ كثيفة متداخلة الأغصان.. ساهَمَتْ بالتوازنِ البيئيّ.. تنشرُ أشرعةَ خضرتها، لتُمتعَ الناظرين، وتثمِرَ (الدّوّام) الذي كانوا – في المَجاعات – يطحنونهُ، ويمزجونَ طحينَهُ بالماء، ويخبزونَ منهُ أرغفةً ليأكلونها.. ويتفيّؤون ظلالَها أثناءَ الراحةِ من الحَرّ الشديد، عند عَودتهم من أعمالهم الشاقّة.. أو يختبئون في أدغالها من الأعداء.

وكم مرّةٍ، حَلُمَ بعضُهم أنّ (الشيخ) يعاقبُهُ عقاباً شديداً، لأنهُ تجرّأ على قطعِ غصنٍ من أشجارِ (الوقْف).. مُخالفاً وَصيّةَ (الشيخِ العالم).. الذي أتيحَ لهُ الحصولُ على الكثير من العلوم والمعارف، لم تُتَح لل (عَوام ) منهم..!! وكم كانَ يسخرُ منهُ الآخرون، ويبقى موضعَ شماتتهم، لاستباحَتِهِ الحُرُمات..!!

صارتْ قِمَمُ الجبالِ مُزدانةً بمساحاتٍ واسعةٍ من الأشجار.. وأغلبها من السنديانِ المُعَمّر.. وصارَ يؤمّ المزارات عَدَدٌ كبيرٌ من الناس (الزوّار).. ليتبرّكوا بالأولياء.. ويطلبوا الدعاءَ والإستغفارَ والشفاءَ والرحمةَ والنصرةَ على الأعداء.. بل، وشفاءَ العُقم.. واستعادَة الأشياء المفقودة.. والإعتراف بالخطايا.. وطلب المغفرة والسّترَة.

صارَ مقامُ الشيخِ مزاراً للبائسين، المُستضعَفينَ من رَعيّته.. ومن باقي الرعايا.. وحتى من إخوانهِ العلماء….كان الإخوانُ يبكونَ فقدانَ كنزٍ من كنوز الوطنِ، والمنطقة.. وأخاً لهم وسنداً.. والرعايا صاروا يبكونَ حاجَتَهم إليه، ويعتبرون خسارته، خسارةً لهم مادّية، ومعنوية.. فمازالوا بحاجةٍ إلى المزيدِ من الدعمِ، والحماية.. والعدلِ، والإهتمام.. كانت تنقصهم أغلبُ حاجاتِ معيشتهم.. كما ينقصهم تنظيمُ هذه الحاجات.. والتوزيع العادل للثروةِ الشحيحة المتبقيّة والمُنتزَعة من قِبَلِ الأبطالِ المؤمنين الصابرين المتفانين الشجعان.. من أفواهِ المُعتدينَ الفاغرة..

_________________________________________________________

أسلافُهُم، كانوا أيضاً، في زمَنِ المَجاعاتِ، والجَرادِ، والقَحْطِ، قد أفتَوا بتحْريمِ أكلِ أنثى الحيواناتِ، للحِفاظِ على الأرحامِ، التي ستَلِدُ لهمُ المَزيدَ منَ الرؤوس.. وبذلكَ استطاعوا أن يكفَلوا المَزيدَ من مَصادِرِ الطعامِ، والكِساءِ، وغيرَ ذلكَ من حاجاتِ مَعيشتهم.. وكلّما لا حَظوا أنّ نوعاً من أنواعِ الحيواناتِ البَرّيّةِ، أو الطيورِ، قد قَلّ تواجُدُهُ.. وخافوا من انقراضه.. كانوا يُسارِعونَ بالإفتاءِ بتحريمِ صَيدِهِ، أو أكلِ لَحْمِه.. فيكفَلونَ بذلكَ دَرَجَةَ من دَرَجاتِ التوازُنِ البيئيّ، الضروريّ للحياة، ولنظامِ الكونِ البَديع..

(عَبّوس) وأمثالُهُ، كانوا يستجيبونَ لمِثْلِ هذهِ الإفتاءاتِ، والقوانينِ الوَضْعيّةِ، الظّرْفيّةِ، بشكلٍ بَبّغائيٍّ، قاطِع.. كانوا مَحْدوديّ الفهمِ، ويتّبِعونَ أقوالَ فُقَهائهم، وعُلَمائهم، ومشايخِهمُ الثقاة.. بشكلٍ تلقائيٍّ.. لأنهم يثقونَ بهم ثِقَةً مُطلَقة، ومتأكّدونَ أنهم لا يُفتونَ بأمرٍ، إلاّ ويكونونَ قد تأكّدوا أنهُ لمَصْلَحَةِ الجميع..

في مُناسَباتِهُمُ السّعيدة، والمُحْزِنة، كانوا يحتفِلونَ بها بالدّعْوَةِ إلى صَلاةِ الجَماعَة، التي تزيدُ من ترابُطِهِم، وتآلُفِهِم.. يؤدّونَها قَبْلَ أن يتناوَلوا أطايِبَ الطعامِ، الذي يَحْرِمُهُم منها العَوَزُ، والفاقَةُ، في الأيّامِ، والأشهُرِ العاديّة.. ولا يَسْمَحُ الفقهاءُ بتذَوّقِ لُقْمَةٍ واحدةٍ، قبلَ انقِضاءِ الصَّلاةِ، وتناوُلِ أحَدِ الشيوخِ اللقمَةَ الأولى، التي تُعْلِنُ ابتداءَ توزيعِ الطعامِ على العامّةِ، والخاصّةِ، من الناس، دونَ السّماحِ لجَشَعِ، أو لِشِدّةِ جوعِ أحَدِهِم، أن تجعَلَهُ يأتي على الكثيرِ منَ الطعامِ، وتَرْكِ البَقيّةِ جائعين، دونَ أن يحصَلوا على حِصّتِهِم وَحَقّهِم، كغَيْرِهِم..

وأثناءَ هذهِ المُناسَباتِ، الأعيادِ، أو المآتِمِ، أو، حتّى النذور، كانَ أحَدُ الثِّقاةِ يَجْمَعُ الزكاةَ منَ جَميعِ القادِرين، كلٌّ حَسْبَ طاقَتِه.. ويحتفِظُ بها حتى انتهاءِ الجميعِ من تناوُلِ الطعام.. ثمّ يَجْمَعُ العامّةَ، صِغاراً، وكِباراً، نساءً، ورجالاً.. ويوَزّعُ عليهمُ الزكاةَ، بالتساوي.. فتبلغُ حِصّةُ الشخصِ، حَسْبَ مِقدارِ الزكاةِ المَجموعة.. ولا بأسَ أحياناً، من أن يُمنَحَ الذينَ يقومونَ بأعباءَ أكبَر، نصيباً أكبَرَ منَ الطعامِ، ومنَ الزكاة.. فقُوّتُهُ، أو ضَعْفُهُ، ينعَكِسانِ مُباشَرَةً على المُجتمَعِ (الرّعيّة).. ولم يكنْ أحدٌ يعترِضُ على ذلك.. فهذا حَقّ.. ولمَصْلَحَةِ الجميع..

بَعْدَ انقِضاءِ الزكاةِ، كانتْ تُعْقَدُ حَلَقاتُ الدّبكَةِ، في المُناسَباتِ السعيدة.. وحَفلاتُ عُقودِ الزواجِ، التي أُجِّلَتْ حتى قُدومِ العيد.. فيكونُ العيدُ مَحَطّةً مِنَ الفَرَحِ، والرّاحَةِ مِنَ الأعباءِ المُضْنيَة، وبدايَةً جديدَةً، بَعْدَ استِعادَةِ الطاقَةِ المَفقودَة، بِهِمّةٍ أعلى، وتفاؤلٍ بالعيدِ القادِم..

وعندَ انحِباسِ المَطَرِ، كانوا يدعونَ ل (صَلاةِ الإستسقاءِ).. وكانَ الصّغارُ يتجَمّعونَ، ويَهتِفونَ معاً : (يا رَبّنا.. يا رَبّنا.. إبعَتْ مَطَرْ، لزَرعِنا.. هُمَّ الكِبار، مأذنِبين.. نحنا الصِّغار، شو ذَنبِنا.. ؟؟؟؟؟؟؟!)

فيشعُرونَ بِقِيمَةِ دَوْرِهم في المُجتَمَع، وبأنّهُم يُساهِمونَ معَ الكِبارِ، في استِعْطافِ السماءِ، لتَجودَ عَليهِم بكَرَمِها، وتُغيثَهُم بما لَدَيها مِنْ خَيْرٍ مُطلَقٍ، لا نَفادَ له..

بينما يجتمِعُ الكِبارُ في صَلاةٍ جَماعيّةٍ.. يتواصَلونَ بأرواحِهِمُ الخاشِعَة، معَ القوّةِ الخالقةِ المُطْلَقَة، روحِ الكونِ الكُلّيّة، الخالِقَةِ للأكوانِ اللامُتناهِيَة.. (ألله).. كي يَجودَ عليهِم مِن خَزائِنِهِ التي لا تَنضُب..

يستَعينُ كلُّ فَرْدٍ منهم، بمِقدارِ القوّةِ الرّوحيّةِ لَدَيه، بالوُصولِ إلى أعْمَقِ نُقطَةٍ مُمكِنةٍ في روحِ الكونِ المُطلَقَةِ القُدْرَة، مُتَبَرّئاً من أغلَبِ الأخطاءِ التي ارتَكَبَها، بِعِلْمٍ، أو بجَهلٍ، أو نتيجَةَ التّسَرّعِ، والإنشِغال، دونَ استعمالِ العقلِ، إلى أقصى طاقَتِه.. فساهَمَ بالإخلالِ بنظامِ الكونِ البَديعِ العادِلِ الجميلِ المُتَوازِن.. وكانتْ إحدى نتائجِ هذا الخَلَلِ، أو الشّطَطِ، انحِباسُ المَطَر.. وبِقَدْرِ ما يُفلِحونَ في تجميعِ طاقاتِهُمُ الرّوحيّةِ الخَيّرَة.. وبِقَدْرِ صِدْقِ، وشَفافيَةِ صَلاتِهِم.. تكونُ الإستجابَةُ، التي قد تتأخّرُ إلى حين.. وقد تستَعْجِل.. فيَعُمَّ الفرَحُ الجَميع.. ويُقيمونَ صَلاةَ الشّكْر..

_________________________________________________________

ظلّ الناسُ في تلكَ المنطقة، ينظرونَ إلى (عَبّوس) نظرةَ احتقار.. ويضمرونَ لهُ الكثيرَ من الضغينة.. بعضُهم لم يصدّق أنّهُ كانَ مُغَفّلاً إلى درجة أنه لم يعرفْ أنّ قريبَهُ (الإقطاعيّ) لم يكنْ ليطلبَ منهُ (إهداءَ ) الشيخِ العلاّمة، طعاماً لذيذاً.. فقد كانتْ بينهما شبهُ قطيعة.. فالشيخُ ينظرُ بارتيابٍ كبيرٍ  للذينَ يتقرّبونَ من الأعداء.. صحيحٌ أنهُ لم يحاولْ إيذاءَهم مرّةً.. ولا التحريضَ عليهم.. لكنه كانَ يحذرهم.. ويتغيّرُ لونُ وجهِهِ بشكلٍ كُلّيّ، لدى رؤيةِ أحدهم، أو حضورهِ مع عامّةِ الناس، الذينَ كانَ لزاماً عليهم خِدمتهم.. وكانَ يعرفُ أنّ الأعداءَ يقدّمونَ لهم كلّ الإغراءات للتعامُلِ معهم.. فيمنحونهم من الأراضي التي يحتلّونها، فدادينَ عِدّة.. على حسابِ بقيّةِ المواطنين.. وعند زراعتها، كانوا يشغّلونَ فيها (العامّة) الفقراء.. فلاحة.. زراعة.. تعشيب.. حفر.. جني المحاصيل.. حصاد.. دراس.. تربية الماشية.. وغيرها من الأعمال المشابهة.. وكثيراً ما كانَ (الإقطاعيّ) يختارُ مَن يشاءُ من نساء الفلاحين، أو بناتهم.. عزباء، أو متزوّجة.. ويضمّها إلى أملاكه.. ومرّةً لا حَظتْ إحدى نساء أحد (الإقطاعيين ) أن مالكها يتطلّعُ إلى مضاجعةِ إحدى الفتياتِ الصغيرات الجميلات.. فأمرَ بإحضارها إلى بيته.. ولم تكنْ قد بلغتْ – بعدُ- سِنّ الحيض.. فتعهّدتِ المرأةُ باستلامِ الطفلة.. وتنظيفها.. وتزيينها.. وتهيئتها لفراشه.. لكنها شاغَلتهُ عنها بحِجَجٍ مختلفة.. فكانتْ تخبّئ الطفلة.. ليس لأنها تخافُ أن يتزوّج عليها.. فهذا تحصيلُ حاصل.. ولكن، كي تجنّبَها الألمَ النفسيّ، والجسديّ.. والعذابَ الروحيّ الذي عانتهُ هي، عندما امتطاها، وطرَحَها أرضاً.. وفَضّ عُذريّتَها بوَحشيّةٍ مُرْعِبة، قبلَ أن تنالَ رضاهُ.. فيضمّها إلى زوجاته.

وأفلحَتِ المرأةُ إلى حَدٍّ كبير.. مارَسَتْ عليهِ لعبةً، استطاعتْ من خلالها أن تُبْعِدَ الفتاة.. وألآّ تجعلهُ يُقارِبُها، إلاّ بعدَ أن جاءها المَحيض، وانتظمتْ دَورَتُها الشهرية.. علّمَتها كيفَ تتصرّفَ كي ترضيه، دونَ أن تؤذي نفسَها.. وأن تحصَلَ منه على ما تريد، دونَ أن تغضِبَه.. كأنها أمٌّ توصي ابنتَها، وتحرصُ على تجنيبها أكبرَ قدْرٍ من الآلام والمُعاناة.. وكانَ ذلك.. عاشتِ الضرّتانِ، كأنهما صديقتان.. تتعاوَنانِ على الحياة.. وتحتالانِ على الزوج.. لتكونا زوجَتيهِ المُفَضّلتين، في ذلك البيتِ الكبير، المليء بالزوجاتِ، والأطفال.

_________________________________________________________

لولا تعقّل ذوي (الشيخ العلاّمة) لكانَ الناسُ قد قضوا على (عَبّوس).. الذي ظلّ حائراً، غيرَ مقتنعٍ أنهُ هو الذي قتَلَ الشيخ.. فقد كانَ يحبّهُ جداً.. وأرادَ أن يُفاخِرَ أمامَ بقيّةِ أهلِ القرية، أنهُ أهدى الشيخَ تيناً.. وأنّهُ تقبّلَهُ منهُ بكلّ امتنان.. بل، وبدأ يأكلُ منهُ قطعةً قطعة، قبلَ أن تستديرَ الفرَسُ، ويُغادِرَ الساحة..

لكنّ هذا التعقّل، لم يمنعْ العائلة والمُريدين من أخذ المزيدِ من الحذرِ من (عَبّوس) وعائلته.. ومن التوجّسِ منهم ومن أفعالهم.. وإلاّ كانت (مُسامَحتُهم ) لهم، حَماقةً، وجَهلاً.. قد تفتحُ البابَ أمامهم للمزيدِ من الأفعال الغبية وغير المسؤولة.. التي قد تتسبّبَ بالمزيدِ من المآسي..

_________________________________________________________

لم تتردّد زوجةُ (الشيخ صالح) أن تسمّي ابنها البكر باسمِ أبيه الذي لم يُتِحْ له القدَرُ أن يراه.. فقد وَلَدتهُ بعد وفاةِ أبيهِ بعِدّةِ أشهر..

_________________________________________________________

 

عندما قرّرَ (أبي) الغالي.. (صالح سليم صالح صالح) السفرَ إلى الأرجنتين ليتزوّجكِ، يا أمي.. اجتمَعَ أهل القرية (المريقب) في بيتِ عمّك (الشيخ سليم صالح صالح) لتوديعه.. سهروا طوال الليل.. بعضُهم يوصيهِ بأن يسلّم له على قريبهِ في (ماركا) ويخبرهُ أنه بحاجة إلى مساعدة مادّية إضافية مُلحّة.. وهذا يرسلُ معهُ (خلعة) من المزار، وتراباً مقدّساً إلى أقاربه المغتربين هناك.. لتحرسَهم من كلّ شرّ.. وبعضهم يُرسِلُ لأخيهِ ( أبياتاً من العتابا ) مُرتَجَلة.. يبثّهُ فيها أشواقَه.. ويشرح لهُ حالَ أهلهِ، وحال الوطن في غيابه..

لم يكنْ أغلبُهم يعرفُ أنّ (ماركا) واسعة جداً.. وأنهُ ليسَ كلّ مَن غابَ، واغترَبَ، يسكنُ في (ماركا).. بل، ربما كان أحدُهم في مدينة، أو قرية أخرى من الوطن (سوريا) هاجرَ بحثاً عن عمل يكسب منه الرزقَ الحلال.. أو أنّ (تركيا) أو (فرنسا) قد اقتادتهُ مع مُرتزَقتها من باقي مُستعمَراتها، إلى مكانٍ آخر.. ليبيا – مثلاً- أو..!! أو..!! لتجنّدهُ وتستخدمهُ ليحاربَ باسمها ولمصلحتها ضدّ البلد الذي تستعمره… و انقطعتْ أخبارُه عن أهله من يوم أن اعتقلتهُ القوّات الغازية واقتادته من بيته، إلى ثكناتها العسكرية، ثم إلى معسكرات التدريب.. ثم.. إلى مستعمراتها.. ونادراً ما كان أحدهم يستطيعُ الهربَ، أو العودة إلى وطنه.. كان أغلب أهل القرية والمنطقة يعتقدون أنّ كلّ من غاب لمدةٍ طويلة، هو في (ماركا).. التي تنبعُ ذهَباً، ومالاً….!!

كان أبي سعيداً جداً بهذا الوداعِ العفويّ.. الذي خَفّفَ عنهُ وطأةَ تحمّلِ ذلكَ الليلِ الثقيل.. الذي – لولاهم- لكانَ طويلاً جداً.. فكانَ – بينَ فترةٍ، وأخرى – يُمازحُ حفيدَ (عَبوس) بشَتمِهِ لجدّهِ:

(- ألله يلعن جدّك.. اللي قتَل جَدّنا )..

فيحمَرّ وجهُ الحفيد.. ويضحكُ مع الآخرين.. لكنّ أبي لا يلبثُ أن يُلاطِفَهُ أخيراً.. ويربُتَ على كتفهِ، أن.. لا تفهمها إلاّ مزاحاً..

وعند طلوع الفجرِ، وَدّعهم أبي.. فرداً.. فرداً.. بالقبلات، والعِناق، والدموع.. وبرجاءِ الدعاءِ لهُ بالسلامة، والتوفيق..

حَمَلَ أغراضَهُ البسيطة.. وسافرَ محفوفاً بالدعاءِ، والقلقِ، والرجاء.. والأمل.

****************************************

(مارْدينكْ.. ماردا…. وأهلا بشباب ماركا… ) من أهازيجهم الشعبية، عند عودةِ بعضِ الشبابِ من بلاد الإغتراب..

(تاروح لسراية طرطوس.. وعيّطْ : يا سلمان.. شْباكْ..؟! ).. عندما يغلبُ الشوق والقلَقُ والحاجة إلى تواجدِ ودَعْمِ بعض المغتربين من الأهل .. مثل (سلمان) الذي يتغيّر اسمه عند مناداة مغترِبٍ آخر..

****************************************

عندما وَدّعَ جدّي (الشيخ سليم ) ابنهُ البكر (صالح ) أوصاهُ عدّة وصايا.. كان أهمّها ثلاث وصايا.. من ضمنها، ألاّ يتحزّب.. ويبدو أن الأحزاب التي كانت تتشكل وتحكم في تلك الفترة، لم تكن تلبّي طموحات جدّي الشيخ المجاهد – ونهاه – أيضاً – عن التعصّب الطائفيّ.. كان يعاني – كمجاهد – و بطل… كما يعاني جميع الشرفاء، ممّا ترَكَهُ المستعمر، العثمانيّ، ومن بعده، الفرنسيّ، بعد خروجهم من الوطن سوريا، من عصبيات طائفية، ومذهبية، وعِرقية.. كبديلٍ مَحَلّيّ لهم.. فاستعمرونا من خلال (الفتنة ) التي أشتعلتْ نيرانها في النفوسِ الجاهلة، والصغيرة..

****************************************

كانتْ عمتي (نَدّة) ترغَبُ بأن تستزيدَ من تعَلّمِ الخياطة.. فطلبَتْ من أبي أن يرسِلَها إلى دمشق، من أجلِ ذلك.. حيثُ كان عمي (علي) يدرُسُ في الجامعة.. سَكَنَتْ مع أخيها.. كانتْ تحكي لنا أنها لم تكنْ تجرؤ على إظهارِ هُوِيّتِها الحقيقية.. كانتْ تذهبُ كلّ يومٍ إلى بيت الخَيّاطة التي تُعَلّمُ عدّةَ بناتٍ.. تتبادَلنَ الأحاديثَ المتنوّعة.. كانتْ تجفَلُ عندما يتحدّثنَ بسُخريَةٍ عن أبناءِ الريف.. ويضحَكْنَ على سَذاجَتِهم، وتخَلّفِهم.. ويستغرِبْنَ لماذا لا تُشارِكهُنّ (ندى) الأحاديث.. كانتْ عمتي تكتفي بالقليلِ من الكلمات.. كي لاتُعْرَفَ من لَهجَتها.. فيَصِفنَها بالمهذّبة، والهادئة، والخجولة.. كانتْ تدّعي أنها من (مدينة طرطوس).. أحَبّتهُنّ، وأحْبَبْنَها.. وظلّتْ تذكُرُهُنّ بالخير.. إلاّ من التكَبّرِ على الرّيفيين.. وعلى أحاديثِهِنّ السطحية في المجالاتِ العامة.. سألتْها مُعَلّمَتُها، أينَ تسكن.. فأجابَتْها ببساطة، أنها تسكنُ مع أخيها.. فاستغرَبنَ الأمرَ، واستنكَرْنَ.. وحَذّرَتها إحداهُنّ أن تغسُلَ ثيابَ أخيها الداخليّة، مخافةَ أن تحبَل….!!!! وقد حَدَثتِ الكثيرُ من الحوادثِ المُشابهة….!!!!

_________________________________________________________

كانتْ عَمّتايَ (نَدّة) و (آمنة) وعمتي (سميرة) بنت خال أبي (الشيخ عبّاس)و بعضُ صَبايا القرية، يقُمْنَ بأغلَبِ أعمالِ الحقول.. ولا داعي لأعَدّدَها الآن.. لكنْ، أرَدْتُ أن أقول، أنّهُنّ بعدَ كلّ تعبهنّ اليوميّ.. من الصباح، حتى المساء.. كُنَّ يَجِدْنَ الوقتَ للخياطةِ، والتطريزِ، وتعَلّمِ القراءةِ، والكِتابة، التي حُرِمْنَ منها.. بينما حَظيَ بها إخوتهنّ، وأترابُهُنّ الشباب..

حتى وَصَل الأمرُ بهنّ إلى دَرَجَةِ أنهنّ أصبحنَ يقرأنَ كلّ ما يقعُ بينَ أيديهِنّ من روايات.. وأشعار.. عن ثوّار فلسطين.. وثوّار الجزائر.. (جميلة.. جميلة……… إلخ) في كتابٍ يتغنّى بالمناضلة الجزائرية (جميلة بوحيرد).. و الأناشيد الوطنية والقومية والحكايات الإنسانيّة.. كتب التاريخ.. من روايات وغيرِها.. تسردُ أحداث التاريخِ العربيّ في كلّ العصور.. ويحكينَ لنا – نحنُ طلاب وطالبات المَدارس – أحداثاً تاريخيّةً.. وأشعاراً للمتنبّي.. وأبي تمّام.. و أبي نواس.. والبُحتري.. وأبي فراس… والخنساء… و… و… و….. لم نكنْ نعرفُ عنها سوى القليل.. أو.. لا شيء..

وكلّ قراءتهنّ كانت على ضوءِ (البَصبوص) أو (الضّوّ ) الزجاجيّ ذي الفتيلة التي تمتصُّ الكيروسين، وتوقَدُ بالكبريت..

وكنّ يستمِعْنَ، باهتمامٍ، إلى كلمات الأغاني العاطفية وغيرِها، من المذياع الصغير في غرفتهنّ الخاصّة.. وقَبلها، في (بيت الشرقي) حيث كنتُ أنامُ مع عمتي (نَدّة) في نفس السرير المعدنيّ المُفرِد.. وعمتي (آمنة) تنامُ على سَريرٍ خشبيٍّ، تستندُ ألواحهُ المُسَطَّحَة على أربعةِ قوائمَ من الحَجَرِ، والخَشَبِ.. تجلسُ عليهِ، في السهرات، كلّ الصبايا الساهراتِ عندهُنّ بشكلٍ يوميّ.. ويتناقَشنَ في معاني كلمات الأغاني… ومرّةً كُنّ يستمعنَ إلى (أم كلثوم) في قصيدةٍ جميلة… منها (ياحَبيباً زرتُ يوماً أيْكَهُ..) لم تعرفْ أيّ منهنّ ما مَعنى كلمة (أيْكَهُ) فأرسَلنَ (عمتي سميرة) إلى بيتهم.. (بيت جدي عباس) الذي كانَ مَرجِعاً في اللغة.. لتسألَ أباها، وتأتيهنّ بالمَعنى الحقيقيّ للكلمة… وجاءَتْ مُسرعةً في تلكَ الليلة، تحتَ جُنحِ الظلام.. لتدخل البيت، وتخبرَهنّ بفرَحٍ غامر.. أن (الأيك) يعني (الشّجَر الكثيف، المُتداخِل).. وانتقلتْ فرحَةُ الفوزِ بالمَعرفة، إلى باقي الصبايا.. ومن كثرةِ الضحِكِ، سقَطَ (التختُ) الخشبيّ بهِنّ.. ورِحْنَ يضحكنَ.. يضحكنَ.. كل تلكَ السهرةِ الجميلة.. قبلَ أن تعودَ كلّ صَبيّةٍ إلى البيت، وتنامَ، لتستيقظَ في الصباح الباكر.. إلى الأعمالِ الشاقةِ، المُعتادَة..

ظُلِمَتْ تلكَ الصبايا كثيراً..

لم يتعلّمنَ في المدارس.. ولم يقبل أترابُهُنّ من الشبابِ المُتعَلّم، أن يقترِنوا بهِنّ.. وفَضّلوا عليهنّ الصبايا المُتعلّمات.. مع أنهنّ أصغر منهم بعقدٍ، على الأقَلّ..

_________________________________________________________

عمتي (فاطمة) تزوّجَتْ من ابنِ خالها (كامل عباس أحمد) بعدَ عودَةِ أبي من الأرجنتين، بقليل.. إبن عمتي البِكْر (محمد) كانَ يصغرني بأقلّ من عامَين.. رحِمَهُ الله..

عَمّتايَ (نَدّة) و (آمنة) كانتْ لهما غرفة من بيتنا الطينيّ الذي بناهُ أبي على أنقاضِ بيوتِ أعمامِهِ الثلاث.. كنّا ندعوها (أوضة عَمّاتي).. كانت تقعُ في وسطِ سلسلةِ الغُرَفِ الأخرى.. من الغرب في حائطٍ مُشتَركٍ مع بيت (يوسف محمد عباس) (أوضة الغربية) في آخرِها دَرَجٌ نطلعُ بواسطَتِهِ على السطح.. وتحتَ الدّرَجِ، توجَدُ ثلاثة مَواقِد، مبنيّة من الحجَرِ والطينِ، من الجانبَين.. يوضَعُ (الدّسْت) أو (الجْعيلة) أو الطناجر النحاسية، مختلفة الأحجام، فوق المَواقِد.. وتطبخُ نساءُ العائلةِ فيها، البرغُل.. والمَخلوطة.. والقمحيّة.. والمِقلي، الذي هو عبارة عن مجموعة من الخُضار البلديّة، مع الزيت، وأحياناً اللحم.. لحم الدجاج، أو الحَجَل، أو دَجاجة الحِرش.. وغيرُها من الطيور.. وفي المناسَبات، يسلَقُ فيها لحم العجول، أو الخراف.. وقد يُقلى بعضَ السّمَك الذي كان يُحْضِرُهُ الأصحابُ، والمُحِبّونَ، من (نهرِ البَلّوطة).. أهل (كفريّة) و (شريجس).. وكانتْ أمي تغلي الثيابَ التي تريدُ غَسلَها، في (جعيلة) أو (برميل) خاصّ، فوقَ تلكَ المواقِد.. ثمّ تضعُ كُرسيَّينِ صغيرَينِ أمامَ البيت، تضعُ (طشطَ) الغسيل فوقَ إحداها.. وتجلسُ على الأخرى.. وتبدأ الدعْكَ، بعدَ أن تبَرّدَ الماءَ المغليّ، من (الخابية) الكبيرة الموضوعة خارجاً، والتي تُملأ بالماءِ من عيونِ القرية الشحيحةِ الثلاث، وتُغَطّى ب (صِدرٍ) من الألمنيوم، فوقهُ (طاسة) نحاسيّة، أو (كال).. وهي مُخَصّصَة للغسيل، ولسقيِ الدوابّ، والدجاج.. ورَشّ أرضِ البيتِ الطينية، قبلَ كَنسِها.. كي لا يَتصاعَدَ الغُبار.. كانَ مَربَطُ الدوابِّ الصيفيّ على يمينها، وهي مُتّجِهَةٌ نحو الشرق.. يليهِ من الجنوب، (الدّار) الذي لهُ بابٌ واحد.. كنّا نقضي فيه حاجاتنا.. تستُرُنا جُدرانُهُ الأربعة، عن الخارج.. وكانَ خُمُّ الدّجاجِ الكبير، قربَ (الدارِ) من الشمال.. خَلفَهُ (الصّيرِة) المصنوعة من أغصانِ الشجَرِ المِطواعة.. تُزرَبُ فيها العنزاتُ، والغنمات، ويغلَقُ با بُها عليها، وهو عبارة عن عِدّة قِطَعٍ من الخشَبِ المُتقاطع.. المُثبّتِ بمَسامير.. تفتَحُهُ جَدّتي (أم صالح) بعدَ غروبِ كلّ يوم، حينَ تُجمَعُ الحيواناتُ من المراعي، وتُزرَبُ في (الصيرة) بعدَ أن تسقيها كلّها.. وتبدأ بحِلابَةِ إناثِها، بعْدَ أن ترخي عليها صِغارَها لترضعَ ما يكفيها، ثم تحلبُ الباقي.. لتغليهِ أمي.. وتسقينا منهُ، وتُرضِعَ منهُ إخوتي الرّضّع، بعدَ تمديدِهِ بالماءِ، وتحليَتِهِ بالسّكّر.. ويشرب كل مَن يريد من حليب البقر والغنم والماعز.. والباقي يُرَوّبُ ليُصبِحَ لبَناً، في اليومِ التالي، فيوضَع كما هو في الطنجرة، تحت (المْكَبِّة) المصنوعة من أغصان الآس (الريحان) إلى وقتِ الحاجة.. تأكُلُ العائلة، والضيوف منه.. ويوضَعُ باقي اللبَن، في جَرّةٍ فَخّاريّةٍ (خَضَّة) لها أذُنانِ جانبيتانِ، وفتحَةٌ صَغيرَةٌ من الأعلى (بَزّولِة).. يُضافُ الماءُ إلى اللبَنِ غيرِ المَقشود، ويُغلَقُ فَمُ (الخَضّة) بقماشةٍ قطنيّةٍ سميكَةٍ، ذات لونٍ فاتِح (السِّفّة) وتُثَبّت بالمطّيط، حولَ فمِ ال(خَضّة) عِدّةَ دَورات، يُدعى هذا المطّيط (عْدار).. تُمسِكُ (مَرتْ عمّي أم يحي) أو (ستّي أم صالح) بأذُنَيّ (الخَضّة) بعد أن تُغلِقَ الفتحة الصغيرة في الأعلى، بعودٍ صغيرٍ، في مُقَدّمَتِهِ قماشٌ فاتحٌ نظيف.. وتبدأ الخَضَّ المُتواتِر.. خَضّة إلى الأمام.. وخَضّة إلى الخلف، فوقَ (جلد الخروف) المُجَفَّف.. أو قماشٍ سَميكٍ مَرِن.. وكلّما تكاثَفَ الهواءُ داخِلَ (الخَضّة) وانتَفَختِ (السّفّة) توقفُ جَدّتي الخَضَّ لعِدّةِ ثواني، تفتحُ خلالَها الفتحة الصغيرة (البَزّولة) في أعلى (الخَضّة) ليَخرُجَ الهواءُ المَضغوط.. ثمّ تغلقهُ، وتتابِعُ الخَضّ.. وعندما يُصبِحُ صَوتُ اللبَنِ المَخضوضِ، ناعِماً، توقِفُ الخَضّ.. وتمسِكُ قَشّةً، أو عودَ توتٍ، رَفيعاً، نظيفاً.. وتدخِلُهُ من (البَزّولِة) ليَغرَقَ في اللبَن.. ثمّ تُخرِجُهُ ببطءٍ، وحِرص.. فإن خرَجَتْ على العودِ، أو القشّةِ، حُبَيباتٌ منَ الزّبدَة.. تكونُ عَمَليّةُ الخَضِّ قدِ انتَهَت.. أما إذا كانتِ الحُبَيباتُ ناعِمة، فيعني ذلكَ الحاجَةَ إلى المزيدِ منَ العمَل.. تُنزَعُ (السِّفّة) عن فمِ (الخَضّة) ويُدلَقُ اللبنُ المخضوضُ في طنجرةٍ نحاسيّةٍ كبيرة.. فتتجمّعُ حُبَيباتُ الزبدَةِ فوقَ اللبنِ، الذي أصبَحَ (عِيراناً).. تغسِلُ جَدّتي يديها جيّداً، قبلَ أن تجمَعَ الزّبدَةَ براحَتيها، وتجمّعَها لتُصبِحَ كَلَوحٍ، أو دائرة.. تضعُها في صحنٍ، ثمّ يشربُ مَن يحبُّ (العيران).. خصوصاً عند المرَض، أو العَودَة من (الحَصيدة) الحَصاد.. ويُرفَعُ باقي (العيران) مع بعضٍ الملحِ، فوق النارِ، حتى يبدأ الغلَيان.. عندها، يُرفَعُ عنِ النارِ، ويُترَكُ حتى يبرُدَ، ويُصَفّى بكيسٍ قطنيٍّ أبيضَ، ثمّ يُكبَسُ بحَجَرٍ، أو أيّ شيءٍ ثقيلٍ، يوضَعُ فوقَ الكيسِ، حتى يتخلّصَ من أغلَبِ مائهِ، ويتحَوّلَ إلى (قَريشِة)..

مازلتُ أذكُرُ، يا أميَ الغالية.. عندما كنتِ تطلبينَ منّي أن أقِفَ قُربَ (الغاز) أنتظر حتى يبدأ (العيرانُ) بالغليان، فأطفئُ تحتَه.. كنتِ توصينني ألاً أتركَهُ يغلي.. لأنهُ لايَعودُ صالحاً بشكلٍ جيّدٍ، ليتحوّلَ إلى (شنكليش).. ولا أن أطفئ النارَ تحتَهُ قبلَ أن (يَفسَخَ) من وَسَطِه.. لنفسِ السّبَب…

وكم كنتِ تَسعَدينَ عندما أريحُ يدَيكِ المتعبَتَينِ، من (فَرْكِ) (القريشَةِ) مع قليلٍ من المِلحِ، حتى (تَلِجّ) تتماسَكُ ذَرّاتُها وتصبحَ ناعمةَ المَلمَس..!! فنحوِّلَها إلى كُراتٍ دائريّةٍ مَضغوطَةٍ بعِنايَة، ونضَعها فوقَ طَبَقٍ منَ القَشِّ، فوقَ قماشٍ منَ (اليانِسِ) الناعِم.. ونعرِّضَها لأشعّةِ الشمسِ، مُدّةً أنتِ تقدّرينها.. بعدَها، ننزلها عن السطحِ، وتضعينها في (قطارميز) مَرطَباناتٍ زجاجيّةٍ، تغلقينهاجيداً.. وتتركينها في مكانٍ مُظلِمٍ من البيت.. وبعدَ شهرٍ، أو أكثر.. يبدأ سَطحُ الكُراتِ، بالتعَفُّنِ، دَليلاً على أنّهُ يتخمّر.. وعندما يتحوّلُ سَطحُ الكُرَةِ، بالكامِلِ، إلى عَفَن.. تُخرجينها من القطرميز، تغسلينها بالماءِ النظيفِ جيداً.. وتقشطينَ عنها العَفَنَ كُلّياً، بواسطةِ سكّينٍ صغيرة.. ثمّ تغمرينها بالزعترِ البَرّيِّ المطحون… عندها تكونُ قد أصبَحَتْ (شَنْكليش)……

_________________________________________________________

-نقرأ…؟!

-طبعاً، نقرأ….!!

-يا الله…..

(  كان الندى يتلألأ في ضوء القمر، الذي يخاصر طفولة الفجر.. وعادل يستمتع بمنظر الأعشاب المندّاة .. كأنها لآلئ أرضية ساحرة ..

الجو رطب ، وساكن .. إلا من أصوات محاريث ، واجترار ثيران ، وأصوات فلاحين : (- تاحْ .. تاحْ ..).. تحث الثيران على التقدّم في الثلم ، بهمّة ٍأكبر..

–       أمي .. أمي .. إنه ( دود العصمَلّي..)..

–       لاتدعَسْ فوقَه.. ولا تخَرّب بيتَه ..

–       أيّ بَيت ..؟! هذه الخيوطُ العنكبوتيةُ تسَمّينها بيتا ً..؟!

–       لا تتوَلْدَن.. لم تصِلْ سِنَّ الرجالِ، كي تتصرّفَ مثلهم.. وتخالفَ النساء..

وأمسكت العصا من يده ، عندما رأته يهمّ بتخريب ذلك النسيج الرقيق الذي نسجته فوقها تلك الديدان ذات الشعر الأسود..التي لا تعرف أم عادل .. ولا غيرها .. كيف لها أن تدرك أن شباط قد أتى .. لتظهر فوق التراب.. وعلى الأعشاب الندية.. تتكاثر، وتفقس بيوضها.. وتبدأ دورة حياتها مع زهر الزيتون ، والزعرور، وبراعم التين ، والتوت ، والرمان ..

وحيث يبدأ موسم تقليم دوالي العنب ، قبل أن تسري فيها الحياة من جديد.. ويسيل فيها النسغ ، قُبَيْلَ التبَرْعُم ..

ها هو النهر يغني أناشيده العذبة ، هادرا ًكصوت (نصري)..أو (فهد بَلاّن )، أو (أبي صالح ) ..

فاضَ قبلَ أيام .. وجرَفَ معهُ بيتَ عائلةٍ كانتْ تسكنُ جوارَهُ في تلك المَزرَعةِ التي تطلُّ عليها قريةُ (السورالأخضر) منَ ارتفاع عِدّةِ كيلو متراتٍ شمالا ً..  تغفو بيوتُها الطينيةُ في أفياءِ أشجارِ الحَورِ، والسنديانِ ، والجَوزِ، والدّلبِ ، وعرائشِ الدّوالي ..

ذلك النهرُ، دائمُ الجريان.. صيفا ً، وشتاء ً.. ينبعُ من جبالٍ شرقيةٍ بعيدة.. مكسوّةٍ أغلبَ أيامِ الشتاءِ بالثلوجِ ، والجَليد.. يثورُ عندما تزدادُ غزارةُ الأمطار.. في كانون .. أوفي آذار.. حينَ يبدأ ذوبانُ الثلوج .. يجرفُ كلَّ ما يُصادِفه.. ويغمرُ البراري القريبةَ من مَجْراه .. والأراضي المزروعَةَ بالخُضرَة ، والحمضيات .. والزيتون..

يتجهُ نحوَ الغرْب .. إلى مصبّهِ، في البحرِ الأبيضِ المتوسط ..

قربَ مدينةِ ( طرْطوس) منَ الشمال ..

كان الليمونُ الحامضُ ، يتواجدُ- فقط – في المزارعِ الصغيرةِ التي تسكنها بعضُ العائلاتِ على ضفّتيّ نهر ( البَلّوطَة).. كان الأهالي يشترونَ مؤونتَهم من تلكَ الثمارِ، ويخزّنونها في الترابِ الأبيضِ ( الحَوّار).. حيثُ تَحميها ذرّاتُهُ الجافةُ منَ التعفّنِ ، طيلةَ أيامِ السنة..

أغلبُ رجالِ تلكَ المَزرَعَة ، كما أغلبُ رجالِ المزارِعِ والقرى الأخرى في تلكَ المنطقة .. كانوا يذهبونَ للعمل في (لبنان).. بشكلٍ موسميّ ..حيثُ أنّ المواسمَ لا تكفي حاجاتِ مَعيشتهم.. وتعليمِ أبنائهم في المدارسِ البعيدة.. .. بعد أن ينهوا أعمالَهم في أراضيهم الجبليةِ التي تنزلق فيها التُّرْبَةُ نتيجةَ الأمطارِ التي تبدأ التساقطَ فوقها من حوالي منتصفِ أيلول .. حتى تصلَ إلى أقصى ذروَتها في كانون الثاني .. وتبدأ بالتناقصِ تدريجيا ً.. حتى شهر آيار.. فيبنونَ المُدَرّجات .. ليمنعوا التربةَ الجبَلية منَ الإنزلاق .. ويزرعونَ فيها مواسمَ الحنطةِ والشعيرِ والكرسَنّة والجلبانة والفول والذرة الصفراء .. وأشجار الزيتون والتين والرمان وعرائش العنب التي يحمّلونَ أغصانَها المَرِنة ، على قاماتِ السنديانِ أو البلوطِ أو البطم أو الخَرْنوب (الخَرّوب ).. كانت أنوعُ العِنَبِ التي تُزرَع في تلك المنطقة ، هي / الدّعْبيلي / و/ السّوديني / و/ قلب الطير / و/ صيباع العاروس / ..

أما أنواعُ التين .. فكانت / القطّيني / ذو اللبِّ الأبيضِ ، والشكلِ الدائريّ.. و / الرّمْلي / ذو اللبّ الأحمَر.. والشكل البيضاويّ.. والذي ينضجُ قبلَ غيره .. و/الشمّوطي/ ذو الحجمِ الكبيرِ،واللّبِ الأحمر.. و/ الحمْريني/ ذو اللبّ الأحمرِ الغامقِ و المائل إلى الاستدارة .. و/ الشّبْليوي / .. و/ الجِلْديني / ذو القشرةِ السّميكة .. والذي ينضجُ بشكلٍ متأخّر .. وتستطيع ثمراتُهُ ذاتُ اللبِّ الأحمرِ ، أن تصمَدَ حتى بدايةِ موسمِ الشتاء.. و/ الشتوي / ذو اللبِّ الأحمر.. الصغيرِ الحجم .. الذي ينضجُ متأخِّرا ًجدا ً.. حتى أنكَ ترى ثِمارَهُ الصغيرةَ الحَجْمِ في كانون.. تختالُ على رؤوسِ الأغصانِ التي تكادُ تخلو منَ الأوراق ..

لم يعرفوا زراعةَ التفاحِ ذي الحجم الكبير/ الشامي/ وأنواع الحمضيات.. إلا بعدَ أن تواصَلوا مع العالم الخارجيّ الأوسَع .. والأقربِ إلى جبالهم .. أو هوَ امتدادٌ لها .. (لبنان ).. تلك القطعة التي اقتُطِعَتْ من جَسَدِ الوطنِ الكبيرِ، كما اقتُطِعَ غيرُها .. عندما تكالبَتْ عليها وتضارَبَتِ المصالحُ الاستعماريّة .. تكالُبَ الوَحْشِ على الفَريسَةِ الثمينة .. فجعَلوا منها مِزَقا ً .. تقاسَموها بينَهم .. والأمّةُ الضعيفةُ ماتزالُ تئِنُّ تحتَ ضرَبات الغزاةِ، منذُ قُرون .. فزرَعوا – بالإضافة إلى البرتقال / البلدي / الذي كان يُزرَعُ في مدينة / طرطوس/ أنواعا ً منها .. مثل / اليافاوي / نسبة إلى مدينة يافا في فلسطين المحتلة.. و/ أبو صرّة / و/ اليوسفي / وكعب الفرس/ و/ الماوردي/.. ومؤخرا ً زرَعوا / الكريفون /.. وغيرَه……..

كانَ التفاحُ البَلَديّ الصغيرُ الحَجْم اللذيذُ الطعْم .. يُزرَعُ في المناطقِ المُرتفِعَةِ، منذُ أمَدٍ طويل .. ولم يكنْ يحتاجُ إلى تَقليمٍ، أو رشٍّ بالمُبيدات .. بل كانَ ينمو على شَكْلِ أشجارٍ تشبهُ الأشجارَ الحِراجيّةَ، في تُرْبَةٍ بِكْرٍ، وعلى جبالٍ بِكْرٍ، لم يستطعْ أيُّ غاز ٍ، أو مُستَهْتِرٍ أن يفضّ بكارَتها .. وأن يَنتَزِعَ منها شَرَفَها .. أو أنْ يُطوِّعَها لتُصبِحَ عَبْدَةً إلاّ لِخالِقِها..

رجالُها ، ونساؤها .. الأشدّاءُ على الظالمينَ الطامعين .. والرُّحَماءُ بينهم .. وعلى جميعِ الناسِ والخَلْق .. ماعَدا المُعْتَدين .. عَصيّونَ على التّدْجين ..

هُويّتُهُم :

( وإنّا لَتَرعى الوَحْشُ – آمِنَة ً-  بنا … ويَرْهَبُنا – إن نَغْضَبِ – الثَّقَلان ِ )..

كثيرونَ منهُم كانوا شعراءَ صوفيّينَ، أو عُشّاقا ً بارِعِين .. يخجَلونَ منْ إبداءِ مَشاعرِهِم للمرأةِ المَعشوقَةِ، فيتغزّلونَ في أشعارِهِمْ بالمَرْأةِ الرّمْز .. نادرا ً ماكانَ الرّجُلُ منهُم يتزوّجُ إلاّ امرَأةً واحدةً  أحَبَّها، وأخلصَ لها حتى المَوت.. إخلاصَهُ لهذهِ الأرضِ، ولانتِمائِهِ لهُويّتِه ..

أمّا المَرْأةُ العاشِقَة .. فكانتْ أيضا ً تخجلُ مِنْ أنْ تَتَغَنّي بالرّجُلِ الحَبيب .. فتصوغُ مَشاعِرَها تجاهَهُ على شَكْلِ أغان ٍ عِذابٍ .. تتَفَنّنُ في طبَقاتِها الصّوتيةِ، في كلِّ مَرّةٍ يَغلبُها الحَنينُ إلى الحَبيب .. تُرَدِّدُها في الأعراسِ، والأعيادِ، وعندَ زيارَةِ الأولياءِ الصالِحينَ، في أعراسٍ جَماهيريّةٍ لها طُقوسُها السّنَويّةُ الجميلة .. أو عندَ استقبالِ المُغتَرِبينَ العائِدينَ منْ بلادِ المَهْجَر ..

تماما ً كما تفعَلُ عَصافيرُها .. كطيورُ السّمّان .. والدّرغلّ .. والحَجَل .. والقُبّرات.. وأبو الحِنّ .. وعصفور الدّوري .. والتَّكْتوكِة .. والوَرْوَر .. ودَجاجَة الحِرْش.. والسنونو، الذي يعبُرُ تلكَ الجبالَ في مواسِمِ هِجْرَتِهِ السَّنَويّة .. يُغريهِ الجَمالُ، وتجذبُهُ الرَّوْعَة .. فيَحطُّ الرِّحالَ في وِديانِها وفوقَ جِبالها .. ويتنَقّلُ على أغصانِ أشجارِها .. يُغازِلُ طيورَها.. يُبادِلُها تحيّةَ الحُبّ .. قبلَ أن يعودَ إلى مَوطنِهِ الأصليّ .. لكنْ، بَعْدَ أنْ يتركَ بَصْمَة ً جميلةً في أماكنِ استراحَتِه .. و وَعْدا ً صادِقا ً بالعَوْدَةِ مِنْ جَديد ..)

{ – هل ياترى .. أطلقوا اسمَ / وادي وَرْوَرْ / على ذلك المكانِ الذي وقَعَتْ فيهِ / مَعْرَكَة وادي وَرْوَرْ / الشهيرَة، لأنّ ذلكَ الوادي كانَ مليئا ً بطائرِ الوَرْوَرِ، الذي لمْ نعُدْ نراهُ الآن ..؟!

– هلِ الوَرْوَرُ طائرٌ مَحَلّي ..؟!

– عرفتُ عنكَ معلومَة ً إضافيّة ً أيّها المُتَخَفّي ..

إذن.. أنتَ لسْتَ مِنْ هُنا ..؟!

–  لايَهمّ .. إنّني إنسان ..

– وهلْ سَألتُكَ شيئا ً لاتريدُ أنْ تُطلِعَني عَليه ياسَعْدو ..؟!

– أبدا ً ..

غَنّتْ (حَبيبَةُ ) في تلكَ الجَلْسَةِ، وهيَ تَضَعُ رأسَ (سَعْدو ) فوقَ فَخذِها، وتداعِبُ خُصُلاتِ شَعْرِهِ المُتشابِكَة :

/ غَطّ الوَرْوَرْ عالتّينِة

وهَرْهَرْ وَرَقْ تسْريني ..

وعان القلبْ يالعاروس ..

بَعْدِكْ مين يسَلّيني ..؟!/

– كيفَ تحفظينَ كلَّ هذهِ الأغاني ..؟!

– وكيفَ لا أحفظُ هُويّتي ..؟!

_________________________________________________________

أما طيور الحُوم، فكانتْ تعبُرُ تلكَ الجبالَ بكثيرٍ منَ الجَلال .. في طقسٍ مَوسِميّ جَماعيّ .. يتنادى أهلُ المنطقةِ ليَسْعَدوا معا ً بمنظرِ هذهِ الطيورِ الجميلةِ التي تعبرُ سَماءَهُم كلَّ عام.. متّجِهَة ً منَ الجَنوبِ إلى الشّمال .. مُشَكِّلَة ً تنظيما ً لا أبْدَعَ ولا أجْمَل .. لها قائدٌ .. يطيرُ في مُقَدّمَة الجَميع .. هوَ الرأسُ في ذلكَ التشكيلِ المُثَلّثيّ .. يطيرُ الرّتلُ المُتناسِقُ، بنظامٍ جَماعيّ فِطريّ .. يُخفِضونَ، ويَرْفعونَ أجنِحَتَهُم بنَفسِ الوقت.. أو يوازِنونَها بشَكْلٍ أفُقيّ.. يَنعطِفونَ معا ً أيضا ً .. أو يحطُّ السّرْبُ، ليستريحَ منْ عَناءِ الطيَرانِ، فوقَ إحدى القِمَم .. دونَ أنْ يخِلّ أيُّ طائرٍ بذلكَ التناسُقِ العَجيب ..

كانَ الناسُ فيما مضى .. يجزمونَ أنّها عندما تَدورُ عِدّةَ دَوْراتٍ، قبلَ أنْ تستريحَ على القِمَم .. إنّما تزورُ المَزارَ الموجودَ على تلكَ القِمّة ..

أما / القاق / فقد كانوا يتفاءَلونَ عندَ سَماعِ صَوتهِ، أو يرَوْنَ تحليقَهُ في سَمائِهِم.. إذ أنّ ذلكَ يَعني أنَّ المَطرَ قادِم .. وعلى وشكِ الهُطول ..

فيُهْرَعونَ إلى / عَرْجَلَةِ / الأسطحِ ب / المْعَرجلينِة / تلكَ المِحْدَلَةِ الصغيرةِ التي يحضنها – بكِلتا يَدَيه –  قوسٌ من الحديدِ المَبْروم .. تلتقي كَفّاهُ الخَشَبيّتانِ فوقَ خَصْرِها منَ الجانبين .. يسحَبُها جيئَة ً وذهابا ً، عِدّةَ مَرّاتٍ، منَ / الشّرّافِ / إلى / الشّرّافِ/ المُقابِل، أحَدُ سُكّانِ البيتِ، بهِمّةٍ، ونشاط .. لترْدمُ أغلبَ شُقوقِ السّطحِ الطينيّ .. وتمنعَ تسَرُّبَ / الدّلْفِ / إلى داخلِ البيوت .. أو – على الأقل – تخَفّفَ منه ..

كم كانت/ حبيبةُ/ الطفلةُ، تشعرُ بالأمانِ، عندَ سَماعِها لأصواتِ نقراتِ / الدّلْفِ / على أرضِ الغرفةِ الطينيّة.. !! لكن أمّها كثيرا ً ماحَرَمَتها تلكَ المُتعَة .. بأن تضعَ تحتَ / الدّلْفَةِ / وعاء ً قديما ً ليتلقّاها، قبلَ أنْ تُحْدِثَ حُفْرَة ً في / السّيباط /..

_________________________________________________________

الأسماكُ، لم تكنْ تُعرَفُ إلاّ منْ مَصْدَرٍ وَحيد .. هوَ الأنهار..

كانتْ تُصادُ، واحِدَةً، واحِدَة.. بحِرْفيّةٍ مُتقَنَةٍ، باليَد.. أو بطُعوم ٍ بَلديّةٍ، وبعضُها من حَبّاتِ (الحَوْز) .. لكن بَعَدَ أنِ اطّلَعَ  الأهالي على العالَمِ الخارجيّ، واشتَغلوا عُمّالا ً في (لبنان ).. عَرفوا كيفَ يَحْصَلونَ على السَّمَكِ بشَكْلٍ آخرَ، عنْ طريقِ ضَرْبِ / الدّيناميت / الذي يَقتلُ السّمَكَ الصّغيرَ، والكبير.. ممّا قَلّلَ منْ كَميّةِ السّمَكِ في ذلكَ النّهر .. إلى أن خَرَجَ قانونٌ لِحِمايَةِ الثرْوَةِ السَّمَكيّةِ، ومَنْعِ صَيدِها الجَماعيّ بالدّيناميت .. لكنّهُ كثيرا ً ماكانَ يُخرَق .. وكثيرا ً ماقطعَ الدّيناميتُ أيدي .. أو أماتَ رجالا ً حَديثيّ العَهْدِ بالتعامُلِ مَعَه ..

عِندما يَنتهي الصّيادونَ منْ صَيدِهِم، يَشُكّونَ رؤوسَ الأسماكِ بغُصنٍ منَ الرّيحان / الآس / .. بِشَكلٍ يُشبهُ المِغزَل .. ويعودون بها إلى بيوتِهم .. لتَقليها النساءُ بزَيتِ الزيتونِ، بَعْدَ تمْليحِها .. وتؤكلُ معَ أرغِفَةٍ منْ خُبْزِ (التّنّورِ ) المُكَوَّنِ منَ الحِنطةِ البَلديّةِ السّمراء ..)

-حلو يا أمي..؟! هل أسعدَكِ ما قرأت..؟!

-طبعاً.. إي والله.. جميلٌ جداً… طبعاً سُعِدت.. ذكّرتِني بالماضي الذي كنا نعيشه.. كتير كتير حلو.. ألله يطيّب عَيشك..

-عيني قلبك يا إمي… يا أحلى صديقة في العالم كله..

-يالطيف..!! هِيَ الحقيقة.. هل أقولُ سوى الحقيقة.. !! إي والله يا ابنتي حلو..

-أتعرفين..؟! ممكن أنّ أحداً يطرقُ الباب.. يمكن أحضَروا لنا الفريكِة..!!

-انظري.. يا ليت..! لقد جعْنا..

________________________________________________________

(-مرحبا..

-أهلا وسَهلا..

-تفضّلي..

-ألله يسلّم يديك…. تفضّل أخي..

-ألله يبارك فيكِ.. والله مشغول..

-ألله يعطيك العافية..

-لا أعرفُ إن كانت ستعجبكما..!!

-أكيد ستُعجِبنا. تسلم يداك..

-ويَداكِ.. صحة وهنا….

-ألله يصحّي بدنك… (المقلي ) ألا تأخذه..؟!!

-لا عليه… أرسِليهِ مع (أبو محمد ) إذا كانت معهُ السيارة..

-طيب.. ألله معك أخي..

-ألله يسلمِك يارب..)

_________________________________________________________

-أمي.. هل أقرأ لكِ ماكتبَ الأستاذ خالد عن أبي، ألله يرحمه..؟!

-إي والله.. اقرئي.. عيني روحه… أخخخ.. وهل أشبعُ من ذِكره..؟!

-حتى ولو كنتِ قد قرأتِها عدّةَ مرات، سابقاً..

-إي والله.. حتى ولو قرأتُها.. وهل أستطيعُ أن أذكرَ منها، أو من غيرها شيئاً..؟! هه..

-طيب.. يا الله..

 

( وداعا للرجل الذي لم يكنْ عادياً (
خالد أبو خالد
تتعرف إلى ابنائه أولا ثم أحفاده فتحبهم ويحبونك .. تتعرف إلى ذويه وكل من يتصل به .. ولايختلف الحال المحتفل بالمحبة … وتكتشف فيما تكتشف أنهم شريحة من الناس تحتفل بالحب قدر احتفالها بالطبيعة الجميلة .. بالتاريخين القريب منه والبعيد ..
فمدينة / الشيخ بدر/ ومايحيط بها هي الصورة الأخرى للعديد من مناطق فلسطين المؤلفة من الجبال والتلال المؤلفة بدورها من السنديان والزيتون والسنابل والرحاب المرتبة رحبة فوق رحبة حيث أشجار الفاكهة بمختلف أنواعها بما فيها أشجار الكرمة هي التي تشكل كسوة السفوح والرحبات المزنرة بالحجارة طبقة طبقة نزولا باتجاه النبع الذي يجر النهر من الأبعد إلى الأقرب .. بما يتيح للناس الانتشار على ضفتيه نزولا من القمة حيث ضريح الشيخ الجليل / صالح العلي/ ابن ثورة سورية وأحد قياداتها المهمة ..
وتشارك بالشعر في ذكراه .. وهو الشاعر في سلوكيته وكتابته في مواجهة الاستعمار الفرنسي ولاءاً لوحدة سورية وتعرف أنت من قبل أن وشيجة الثورة في كل سوري وفلسطيني هي التي ربطت بين الشيخين صالح العلي وعزالدين القسام وكلاهما أعطى لكل من سورية وفلسطين مايؤكد أنهما وفيين للأمة..
في وسط هذه الشريحة من سلالة الشيخ صالح العلي .. تغنى العتابا والميجانا وتدبك كما لو أنك منهم أو أنت منهم ولا يذهلك أنهم موهوبون ومبدعون يقرأون الشعر والرواية والقصة وكتب التاريخ ويكتبون الشعر والرواية والقصة القصيرة وتأخذك الدهشة لابسبب كرمهم فحسب وإنما بسبب هذه المواهب التي تدفعك إلى التساؤل عن مرجعيتها فيهم بمن فيهم الأطفال …
ياألله .. من أين لهم كل هذا .؟
وهم حيث هم ليسوا قريبين من مراكز التيارات والفعل الثقافية أعني في الحواضر والمدن الكبيرة من هذا الوطن العربي الكبير لا يسافرون .. وإن سافروا فإنهم سرعان مايعودون لأن السفر بالنسبة للبعض منهم إما للدراسة أو بداعي العمل ..
ثم تتعرف إلى الرجل الذي في ظلاله تربى كل هؤلاء أبناء وأحفادا فتنقطع دهشتك وتذهب لأن الرجل الذي احتفل بك واحتفلت به كان رجلا لا يفارقه كتاب الإبداع مشهدا وكتابا …
هنا تنصت إلى مايسردون لك من الحكايات الكبيرة الطالعة من القرى الصغيرة والناس ويعبرون بك الجسر إليه .. حيث كففت نهائيا عن التساؤل : من أين لكم كل هذا ؟
يومها .. يوم تعرفت إليه لم تكن مهيأ للتعرف إلا إلى رجل عادي فكانت مفاجأتك أنك تتعرف إلى جد وأب طافح بالحنان قادر على العطاء .. كان أعمر منك بقليل لكنه أكثر حكمة وأعمق معرفة ….
كان شاعرا حقيقيا أجَّل ظهوره دائما لأنه فضل أن يرضع الشعر سلوكا ونمط حياة لأسرته ولأبنائه واحفاده وفي المكان ليكوِّن موقفا تجاه الناس والذات والوطن والكون …
اغترب صالح الصالح إلى الأرجنتين … مبكرا فكانت ثروته التي عاد بها إلى سوريا هي / ماريا / الثروة الكبرى وكان هذا حسبه فقد أعطته وحملته إلى يومه الأخير الذي لم يكن عاديا حيث احتشد كل من استطاع أن يصل إلى / الشيخ بدر / مدينة الشيخ صالح العلي لكي يحمله ويواكب رحيله ويخزن في ذاكرته ماخلف هذا الرجل الذي بدا عاديا .. كل ماهو غير عادي في حياته ومسيرته .. حيث كان غير عادي بالفعل في حياة لم تكن عادية وإن بدت أحيانا كذلك .
أما أنا الذي لم يكن لي شرف مواكبته في مقره الأخير .. فقد أحسست أن ماأحمله منه .. ذكريات .. وكرما .. وحبا … يكفيني كنبع أصالة يزوِّدني ويحصنني في مواجهة كل مايواجه شعبنا من عوامل الموت والدمار ويفتح قلبي على حرية بلا حدود .
لقد حملت منه في كل ذهاب وإياب هديتين صورة له في القلب وصورة له في الأفق بل .. واشهد أن الرجل في ماكان عليه وفي ما خلفه لم يكن عاديا …
وفي بلادنا يقولون : / من خلف مامات / كان صالح يحمل اسم جدي مكررا مرتين فكان لي من شرف التطابق ما أعتزُّ به … إلى الدرجة التي أحسست فيها بأنه أخي .. وابي .. وجدي .. في آن في الشيخ بدر أو في سيلة الظهر قريتي . على طرفي وشيجة من سورية إلى فلسطين حاملة لمنظومة القيم التي ناضلت من أجلها .. أمتنا ..
وهما قضيتان الوحدة وفلسطين لا تكون الواحدة منهما بدون الأخرى .. هكذا تحدثنا .. هو وأنا .. في قضية تتحقق كلما التقينا ولا تنقسم حينما نفترق … استودعك الله يا أبا اسماعيل …. ياصالح الصالح )..
عن صحيفة  ( الأسبوع الأدبي )

– شكراً له.. لكن، والله أبوكِ يستاهل أكثرَ من ذلكَ بكثير…

– أعرف – يا أمي – .. لكن – كما قلتِ – شكراً له…

_________________________________________________________

(  من صبيحةِ هذا اليومِ المُبارك .. أوّل أيامِ عيدِ الأضحى، أعلنَ المؤذنونَ في جَوامِعِ قريتِنا والقُرى المُجاوِرَةِ، ارتِقاءَ ثلاثةٍ منْ خِيرَةِ شَبابِنا، شهداااء

استُشْهِدوا وهُم يُدافِعونَ عنْ حَياة وشَرَفِ وكَرامَةِ هذا الوطنِ الأغلى

ياااااااااأيُّهاالشُّهَداء .. يااااااأيُّهاالأبرار .. أيُّهاالأحياءُ عِندَ رَبِّكُمْ، تُرزَقون.. بورِكَتِ الأرضُ المُقَدَّسَةُ مِنْ عَرَقِكُمْ، وعَرَقِ أهلِكُمُ الكادِحينَ في سَبيلِ لُقْمَةِ العَيْشِ الكَريمَة.. بورِكَتْ، وفتَحَتْ ذراعَيها السّمراوَين، لتضُمّكُم إلى صَدْرِها الدّافئ الحَنون .. تُكَفّنَكُم بأمُومَتِها الخَصيبَة .. وتصْدَحَ ألحانُها بتَراتيل ( كُلّ عامٍ وأنتم بألفِ خَير ) .. لتَصِلَ ألحانُها الخالِدَةُ إلى عِنانِ السّماء.. تعانِقَها بمُنتَهى الحُبّ.. وتهطلَ غيومُها خَيراً وعَطاءً

قبلَ دقائقَ، مَرَّ مَوكِبُ أحَدِكُم أيها الأطهار. .. عابراً قريَتَنا الغالية .. موطنَ الشُّرَفاء .. منهم (صالح العلي) و (سليم صالح ).. (آمنة صالح).. و (عباس أحمد ).. وغيرهم الكثير مِمّنْ شَرّفَتْ أفعالُهم أوطاناً بأكمَلِها .. وسَجّلَتْ بطولاتهم كتُبُ تاريخِ الأعداءِ، قبلَ الأصدقاء .. لم يَعتدوا يوماً على أحَد .. بلْ كانوا دائماً يردّونَ العُدوانَ عنْ أنفسِهم وأهلِهم وأوطانِهم .. مثلكُم أيها الأبرار .. استقبلتْ قريتُنا المَوكبَ بالبَخورِ والزهورِ والدموعِ والزغاريدِ التي اختَنَقَتْ في الحُلوق .. كعادَتِنا في استقبالِ الشّهداء.

هاهيَ السماءُ تبرقُ وترعدُ وتُمطِر .. أللّهُمّ صَلِّ على سَيّدِنا مُحَمّدٍ وآلِهِ وأصحابِهِ الأطهار .. السماءُ تشارِكُ أمكَ باستقبالِكَ أيهاالشهيدُ الغالي .. سوفَ يتأجَّلُ قِطافُ الزيتونِ عِدّةَ أيام .. كنتَ قد وَعَدْتَهْم في الحَقْلِ منذُ أيامٍ أنكَ ستساعِدُهُم أيضاً في الإجازَةِ القادِمَة .. مالَكَ أيهاالشهيدُ الغالي.. ..!! لمْ تخلفِ الوَعْدَ يوما ..!! حبَيبي .. لستُ أمكَ، ولا قريبتَك .. ولمْ أرَكَ يوماً .. لكنني كَجميعِ الكادِحينَ الشُّرَفاء .. فقراءِ المادّة .. أغنياءِ الرّوح .. مُشبَعينَ بالإنسانيّة .. بالإيثار .. أقولُ لكَ يابَنيّ الغالي .. هَنيئاً لكَ الشّهادَة .. وهَنيئاً لأمِّكَ الأرض.. احتضانَكَ في روحِها الخَصيبة.

)دمُ الشهداءِ، تعرفُهُ فرنسا …… وتعلَمُ أنهُ نورٌ، وحَقُّ ) ….

إنهم يحاولونَ تشويهَ صورةِ النور .. ويحاولونَ قلبَ الحَقِّ باطِلاً .. والباطِلَ حَقاً .. في مَساعيهِمُ السّاقِطَة .. لتَحقيقِ مَطامِعِهمُ الدّنيئة .. على مبدأ شَيطانيٍّ، اتّبَعوهُ، ويتّبعونَهُ، وسَيتّبعونَه .. ( الغايَةُ، تُبَرِّرُ الوَسيلَة   ..(إنهم عَبَدَةُ المادّةِ الفانية .. أمّا نحنُ، فنعْتنقُ الحَقَّ دِيناً .. ونحنُ للّهِ الحَقِّ عابِدون .. الأزَليّ السَّرْمَديِّ الباقي .. وكلُّ مادونَهُ زائِل . )

 

تعرفينَ، يا أميَ الغالية، أنني كنتُ قد أسَّسْتُ مكتبةً في مَحَلٍّ صغيرٍ فقيرٍ، في (الشيخ بدر) أسميتُها (مكتبة الثقافة ).. لتكونَ الإبنةَ البِكْرَ ل (مكتبة الوعي ) التي تربّيتُ على القراءةِ من مُحتَوَياتِها، بتشجيعٍ منكِ، ياغالية.. وجَعَلْتُ أعضاءَها، أبناءَ وبناتِ إخوَتي وأخَواتي.. وأصدِقاءَها،كلَّ طِفلٍ، أو شابٍّ، أو، شابّةٍ، أو أحَدٍ من أهلِهِم، أو مَعارِفِهِم.. أعيرُهُم منها.. و في البدايةِ، كنتُ آخذُهم رِحْلاتٍ، وأعملُ لهمُ اجتماعات.. ليَتَوَحّدوا على الخير.. ولتشجيعِهمْ على روحِ المَعرِفة.. وطلبِ العلم.. وعلى أهمّيّةِ الإجتماعِ على الخيرِ، الذي هوَ قوّةٌ للجميع.. والإستمتاعِ بكلِّ ماهُوَ جميل.. وجَعَلْتُ شعارَ المَكْتَبَةِ، الآيةَ الكريمة ( وَتَعاوَنوا على البِرّ والتّقوى.. ولا تَعاوَنوا على الإثمِ، والعُدْوان  )
كنتُ أسألُهُمْ دائماً، كي يَبقوا مُدْرِكينَ للهَدَفِ الذي يجتَمِعونَ عليه: – ما هوَ شِعارُ المَكتَبَة..؟! فيُرَدّدونَ بثِقَة : (وَتعاوَنوا على البِرّ والتّقوى.. ولا تَعاوَنوا على الإثمِ والعُدْوان ).. – ماهُوَ البِرُّ والتّقوى..؟! – عَمَلُ الخير…… وأطلبُ منهُم نَماذِجَ مِنَ (البِرِّ ) أو (عَمَلِ الخَير ) فيُعطيني كلٌّ منهُم أمثِلَة.. – وماهُوَ (الإثمُ والعُدْوان )..؟! فيعطونَني – أيضاً – أمثِلَة… ونبدَأ اجتماعاتِنا على خيرِ الجميع.. ونشاطاتٍ أخرى عَديدَة، منها أن أسألَ كلَّ واحدٍ، أو واحِدَةٍ منهم، عن هِوايتهِ المُفَضّلَة.. ماذا يحبُّ أن يفعل..؟! وقد أحضِرُ لمَن يحبّ الرّسْمَ، دفاترَ رَسْمٍ، وأقلاماً مُلَوّنَة، وبرّايات أقلام، ومماحي، ومَساطِرَ، وغيرَها.. ولآخَرينَ، أوراقاً ومِقَصّاتٍ، وموادّ لاصِقَةٍ، وحاجاتٍ أخرى تلزمهم لمُمارسةِ هِواياتهم.. ولمَن يَهوى الكتابةَ، أحضِرُ دَفاتِرَ، وأقلاماً.. وأطلبُ منهم، أو منهنّ، أن يكتبوا مايُريدون، وبالشكلِ الذي يريدون، أفكارَهم.. لا أفكارَ غيرِهم.. بمُنتهى الحُرّيّة.. وألاّ يخافوا، أو يحذروا إن كتبوا آراءَهُمُ الخاصّة، حتى لو كانتِ الآراءُ غيرَ مألوفةٍ، أو غيرَ مَرغوبَةٍ من الآخرين.. أي، أن يكونَ كلٌّ منهم ذاتَهُ، لا ذَواتَ الآخرينَ النَمَطيّة….. كنتُ أريدُ أن أشجّعَهُم على الإبداع.. وأوضِحَ لهم أنّ التّنَوّعَ غِنىً وثراءً، ومُتعةً، وتجَدّد.. وهوَ عكس التشابُه، الذي يوَلِّدُ المَلَل.. وأكثر من مَرّةٍ، أعطيهم نقوداً، وأطلبُ منهم أن يشتروا لوحاتٍ، أو أشكالاً يفضّلونَ أن يُزَيّنوا بها (مَكتَبَتِنا).. وأن يوفِروا من مَصروفهِمُ القليل، ليتبَرّعوا بهِ للمَكتبة.. ليشعروا بالفِعْل، أنها مكتبتهم، ومكتبتي أيضاً.. وأن لا فَضْلَ، ولا مِنّةَ لي.. بل، كلّنا شُركاء، وأصدقاء، وأصحابُ المَكتَبَة…………………. ونشاطاتٍ أخرى……………………… وماتزالُ إبداعاتُهُم، وآراؤهم، ومؤلَّفاتهم عندي، هنا في مَكتبتي التي نقَلتُها إلى بيتي في (ضَهْر المْرَيقِب).. ومنهُ إلى بيتكم – بيتنا – بيت أهلي، عندما كنتُ أبقى عندَكِ يا أميَ الغالية.. ثمّ أعَدْتُها إلى هنا… ). zTop of Form

_________________________________________________________Bottom of Form

*********************************************************************************************************8

سأقرأ لكِ، أيضاً.. هل توافقين..؟!

يا الله، اقرئي..!!

( قالَ لي – يوما ً – :

-سنبقى أنا وأنت ِ نغني للحبّ.. حتى لو لمْ يَبق َ أحَد ٌ يفعل..

قلت  :

-أخشى أن يُفقِدَني الخوفُ صَوتي..

قال :

-لا تخافي شيئا ً وأنت ِ معي..

قلت  :

-افتحْ جَناحَيكَ.. وحَلّقْ بي بعيدا ً.. في سَماوات ِ الأمان ْ..

أذكرُ حينها أنّ الكون َ كلّهُ رافَقَنا في تلك َ الرحلة ..

-آه ٍ..!!

قالَها بمَرارَة..

-طرَدوني بعدَ أنْ كَسّرْتُ أصنامَهم..

لمْ يعُد لي وَطن..

قلتُ – بعتب – :

-أنَسيتَ قلبي..؟؟!!

-باستسلام ٍ – سَقَطَ رأسُهُ على كَتفي..

تأوّه َ ثانية ً، وقال :

-فعَلْتُ ذلكَ حُبا ً بهم.. لم يفهَموا ذلك..!!

ترَكْتُ لأصابعي أن تُبْحِرَ فوقَ رأسِهِ، وقلتُ :

-لابدّ أنْ يفهَموا، يوما ً.. لا بُدّ أنْ تعود.. على ظهورِ الخَيل.. أو على أكتافِهم.. لابدّ أنْ يعتذِروا عنْ فِعْلتِهم تلك..

قال – بمرارة ٍ أكبر – :

-أعمَقُ الجراح.. تلكَ التي يُحدِثها الأحِبّة.. ولا أظنّها تندَمِل..

لم ينته ِ – أبدا ً – الكلام الذي نودّ أن نقولَه.. صحيحٌ، هي فترة ُ صَمْت.. لكنني أحاولُ أن أنتقي الألفاظَ المُناسِبة.. أن أرتّبَ أفكاري.. )

فاطمة

_________________________________________________________

(هذا الصباحُ الخريفيّ.. تسَلّلتْ موسيقى (الأخَوين رَحباني)، وصوتُ (فيروز) المخمليّ.. إلى أوتارِ قلبي وأعصابيَ المَشْدودَةِ، غالبا ً.. كَنسمَة ٍ صَباحيّة ٍ مُنْعِشَة.. أنعَشَتْني.. مَنَحَتْني الإستِرْخاءَ الجميلَ المُمْتِع.. شَعَرْتُ منْ خِلالِها بشَيءٍ منَ الإحْساسِ بمُتْعَة ِ الحَياة.. )

فاطمة… 11 – 10 – 2001م

_________________________________________________________

( ذلك َ الخَيط ُ النّورانيّ المُقدَّسُ الشَّفّاف..

الذي يَصِلُنا بالسّماء..

نَستَدْعيهِ متى أرَدْنا.. متى أحْسَسْنا بالحاجَة ِ إليه..

وكَالبَرْق ِ يأتي.. يتَواجَدُ بالسُّرْعَة ِ نَفْسِها..

هذا دَليلٌ على أنّهُ مُتواجِد ٌ في داخِلِنا.. ومِنْ حَوْلِنا دائما ً..

لمْ يَبْرَحْ أنفُسَنا قَطّ.. ولَوْ بُرْهَة ً وَجيزَة.. )

فاطمة

تشرين الأول 2001م

_________________________________________________________

( كُلّما رَفْرَفْتُ استِعْدادا ً للإنطِلاق.. كُلّما ارتَفَعْتُ قليلا ً.. كُلّما أدْرَكْتُ – يا لَلهَوْل – .. كَمْ كانَ قَفَصي ضَيِّقا ً..

تُرى..!!

هَلْ يكونُ ذلكَ دافِعا ً قَوِيّا ً للإنطِلاقِ بِقُوّة ٍ أكْبَر..؟!!

أرجو ذلك.. )

فاطمة

_________________________________________________________

( كُلّما تَنَفّسْتُ بِعُمْق ٍ أكثَر..

كُلّما أدْرَكْتُ كَمْ كانَ الضّغْطُ على عُنُقي قَوِيا ً..

تُرى..!!

أيَكونُ ذلكَ دافِعا ً لأنْ أتَنَفّسَ بِعُمْق ٍ أكثَرَ، وأكْثَر..؟!

أرجو ذلك.. )

فاطمة

_________________________________________________________

( يقولون : عَلينا ألاّ نَذْكُرَ اللهَ تعالى إلاّ في الأماكِنِ الطاهِرَة..

أقول: ألا يُمْكِنُ أنْ نَعْكُسَ الآيَة..وننظرَ إلى الأشياءِ بِعَيْن ٍ طاهِرَة..وقلب ٍ يزرَعُ الجَمالَ في كلِّ مَكان.. ونَذْكُرُ اللهَ دائما ً..؟؟!!)                                                                              فاطمة

_________________________________________________________

اليوم – يا أمي – هوَ الأربعاء، الرابع منْ شَهرِ أيلول (سبتمبر) عام 2013م.. السّاعةُ الآن تُقاربُ الثالثةَ عَصْراً.. جَلَسْتُ – للتّوّ – على نفسِ الدّيفونِ المُقابلِ للمِرآة.. المُلاصِقةِ للنافِذَةِ الشِّماليّةِ، التي تُطِلّ على (الدّوّارَة) وعلى يَساري سَريرُكِ الحبَيب.. أماميَ الطاوِلَةُ البُنيّة الكبيرَةُ، وابنَتُها الصّغيرَةُ، إلى جِوارِها.. الغسّالةُ تدورُ في الزاويةِ الغرْبيّة منَ المَطبَخ، تحتَ المَجْلى.. المَجْلى نظيفٌ، وجافّ.. رُخامُهُ أبيَضُ مائلٌ قليلاً إلى الرّماديّ.. الطنجَرَةُ الصغيرَةُ، السّتنلِس، تغلي على الغاز.. وضَعْتُ فيها قليلاً منَ الرّز، بعدَ أن نَقّيتُهُ، و (صَوّلتُهُ) عِدّةَ (أزوام).. أضَفْتُ إليهِ قليلاً منَ المِلْح.. وعندَما بَدأ الغليانُ، ضَعّفْتُ النارَ تحْتَهُ، وجِئْتُ أكتُب..اتصلتْ معي ابنَةُ أخي، على الخَلَوي.. استأذَنْتُ منْ أختي، التي كانتْ تكلّمُني على الأرضي.. الغالية، تريدُ مني أنْ أنزلَ إلى بيتِهم في (الشيخ بدر)..

( – عمّتو.. أنا وأمي الآن لِوحدِنا في البيت.. ولم يعُد عندنا شغل حتى المَساء.. إذا جِئتِ، نتسَلّى قليلاً، ونتغدّى.. وإذا أرَدتِ أن تكتبي، بإمكانكِ الدخول إلى أيةِ غرفة تكتبين فيها..)

طَلَبْتُ منها أن تُنهي المُكالَمة بسُرْعَة، قبلَ أن تتجاوَزَ المُكالَمَةُ الدّقيقَةَ، لأنّ سِعْرَ الإتصالاتِ قدِ ازدادَ من أوّلِ الشّهر، من (6) ليراتٍ في الدقيقة، إلى (7) ليرات.. وأجَبْتُها : ( – سأنزل.. لكنني لا أستطيعُ أن أتناول الغداءَ معكما، لأنّ معدتي تؤلِمني.. وجسمي ليس على مايرام..)

منْ ثلاثةِ أيام، شعَرْتُ أنّ مَعِدَتي مُلتَهِبَة.. ولم أُدارِها.. أكَلْتُ الكثيرَ من الجَوْزِ الأخضَرِ، وأنا أقشّرُ، وأكسّرُ (255) جَوزة على السّطحِ، كان زوجي قد جَناها عن شجَرَةِ الجوزِ التي زرَعَها تحتَ البيتِ، منذ سَنواتٍ،هوَ، و (أبو نور).. وأكَلتُ (مَكدوساً) وبَيضاً مَقليّاً، وبصَلاً.. و – معَ كلّ الأدوية القويّة – ماتزالُ تؤلِمُني، وتضغَطُ صَدْري.. بالأمسِ، مساءً، أكَلْتُ الكثيرَ من الكعكِ المُسَمْسَم.. عُدْتُ، وتضايَقْتُ كثيراً.. فوَضَعْتُ إصبَعي في فمي، وتقيّأتُه.. ارتَحْتُ قليلاً.. لكنّ الحرْقة، مازالتْ تُلهِبُ صَدريَ المُخَرّش.. خِفتُ من النزفِ الهَضميّ.. تذكّرْتُ النزيفَ الهَضميّ الذي حَدَثَ معي منذ عِدّةِ أشهُرٍ، مترافِقاً مع “الكريب” الحادّ.. وأدخَلَني ( مَشفى الباسِل) في طرطوس، لمُدّةِ يومينِ، تحتَ المُراقَبة..

كنتُ قد أغلقْتُ البابَ خَلفي بالمِفتاح.. وقطَفتٌ قَطفَتَينِ منَ (الحَبَقِ) الأخضَرِ، منَ الأصيصِ على الشّرْفة، وحَمَلتُ مِظَلّتي الكبيرة المَزَهّرَة، ونزلتُ الدّرَج.. لم يسمَحْ لي زوجي الذي كانَ قد وَصَلَ بسيّارَتِهِ، منَ (الشيخ بدر) بالنزولِ سَيراً على الأقدام، وقد قارَبَتِ الساعَةُ الثانيةَ بعدَ الظهر.. وكانَ قد سألَني إنْ كنتُ أريدُ شيئاً منَ السّوقِ، قبلَ أن ينزلَ قبلَ الظهر، فأجَبْتُهُ بالنّفي، وأنّني لستُ مَريضَةً كثيراً..

نزلْتُ مَعَهُ بالسيّارة إلى بابِ مَدْخَلِ بيتِ أخي.. عادَ هوَ.. وأنا تسَلّقْتُ الدّرَجَ العالي، وطَرَقتُ البابَ الخَشَبيّ طرْقَتَين، لأنّ الكهرباءَ كانتْ مَقطوعَة.. ظَنَنتُ أنهم رأوني عَبْرَ الشاشةِ الموضوعَةِ في الصالون، وأنا أصعَدُ الدّرَج.. فتَحَتِ الغالية.. قَبّلتُها على كَتِفِها (هذهِ قُبلةُ الصيف) لأنني لا أحبّ القبُلاتِ، وأنا أتصَبّبُ عَرَقاً..

استقبَلَتني أمها أيضاً، بالترحاب.. شربْتُ عندهم كأساً من (الكَمّون).. وسَلَقَتْ لي بطاطا.. تحادَثنا أحاديثَ خاصّةً، وعامّة.. تغَدّتا.. وتجَرّأتُ، وأكَلتُ قِرصاً مَحْشُوّاً بالسّلْقِ ومَشويّاً بالفرن.. كانتْ أمها تريدُ أن تنامَ القيلولة.. حفيدتك قالتْ أنها لم تستيقظْ باكراً.. لذلكَ، لن تنام.. أختها في دَوامِها في (طرطوس).. أخي، أخبَرَهُم أنهُ لنْ يتغدّى في البيتِ، هذا اليوم.. أخوها – أيضاً – في دَوامِهِ في (طرطوس).. أخوها الأصغر، مع ابنِ عَمّهِ، وابنِ عَمّتِهِ، وابنِ خاله.. نمتُ أنا في غرفتهِ التي تحوي سَريرَينِ واسِعَينِ، وخِزانةَ ثيابٍ، ومِرآةً عَريضة، تحتَها أدراج.. على جانبيها عِدّةُ صُوَرٍ مُثَبّتَة، للغالي أخي (اسماعيل) باللباسِ العَسكريّ.. يبتسم.. ولهُ ولصَديقِهِ الحَميم ابنِ خالِه (زينغو و رينغو ) كما قالتْ لي أخته، قبلَ أن أغفو.. اتصَلَتْ معي صديقتي.. كانتْ قد أتَتْ إلى عيادَتِها قبلَ الخامسة، على غيرِ عادَتِها.. اتصَلَتْ مَعَها مَريضة.. تبادَلنا الأحاديثَ.. أخبَرْتُها أنني في بيت أخي، وأريدُ أن أنام، لأنّ مَعِدَتي تؤلمُني.. سألتني إن كان بإمكاني المَجيءُ إلى عيادَتِها، لنتسَلّى قليلاً.. ثمّ تصطحِبُني معها بسيّارَتِها إلى البيت.. قلتُ لها أنني مُتَوَعّكة، وسأنام.. وعندما أستيقظ، أتصِلُ معَها إن كُنتُ أريدُ أن أطلَعَ مَعَها إلى البيت في (الضَّهْر).. لم أستيقظْ سوى في السابعة، قُبَيْلَ المَغرِب.. فتَحْتُ عَينَيّ، وإذا بوَجْهِ الغالية ابنة الأغلى، يُشْرِقُ بابتسامَةٍ صافيةٍ، حانية، وهيَ على بابِ الغُرفة.. لن أطيل.. قُمْتُ.. كانتْ، قد سَخّنَتِ البطاطا، ومَعَسَتْها، وأضافتْ لها بعضَ زيتِ الزيتونِ، والملح، ووضَعَتْ لكلٍّ مِنّا صَحْناً منَ اللّبَن.. أنا طلَبْتُهُ صغيراً.. أكلنا سويّةً، معَ خبزٍ مُسَخّنٍ على الغاز.. كنتُ سعيدَةً جداً، بتعامُلِهِمُ العَفويِّ، الصادقِ معي.. كانَ عندهم ضيوفٌ على الشُّرْفةِ الغربيّة.. سَلّمْتُ على خالتِهِم، و زوجةِ خالِهِم.. واستأذَنتُ، أنني (عَرْقانة) قالتْ زوجة أخي: (عندما يجفّ عَرَقك، تعالي).. بعدَ الغداءِ، خَرَجْتُ أنا و ابنة أخي إليهنّ، على الشّرْفَة.. جَلَسْنا قليلاً.. فاستأذَنَتا : (نحن أتينا من ساعات) قلتُ : (الأمرُ لا يحتاجُ إلى  مُجامَلات.. ألله معكما).. كانَ الغالي أخي قد حَضَر.. كانَ سَعيداً بوُجودي.. وكنتُ سَعيدَةً أنني رأيتُهُ.. جَلَسَ ليستمِعَ إلى أخبار (السابعة والنصف) من قناة (المَنار) الفضائيّة.. كانَ العَدوّ الصهيونيُّ قد أطلَقَ صباحَ هذا اليومِ، صاروخَيْنِ، سَقَطا في البحرِ.. رَصَدَتْهُما (روسيا) وأذاعَتْ عنهما قبلَ أن تذيعَ (إسرائيل).. قال (الكيانُ الصهيونيُّ الغاصِب) أنّهُ كانَ (يُجَرّبُ) مَدى قُدرَةِ صَواريخِهِ على إصابةِ أهدافِها المُحَدّدَة، في (سوريا)..

كانَ زوجي قد أخبَرَني بذلكَ، قبلَ أن يصطَحِبَني إلى بيتِ أخي : (سمعتِ الأخبار..؟!) (لا والله.. لماذا..؟!).. فتَحْتُ المذياعَ (مِذياعَكَ الصغيرَ، يا أبي الغالي) على (إذاعةِ النور) في الثانية بعدَ الظهر (مُوجَز).. قالوا أنّ الصاروخَينِ سَقَطا في البحر..

المُهِمّ.. في حَوالي التاسعة مساءً، أحضَرَني أخي بسيّارَتِهِ الشاحنة، إلى بيتِنا.. قالَ لي : – قولي لزوجِكِ، أنّهُ سَيُفاجأ بي – يوماً – أوقِظُهُ في الصباح، لأشرَبَ عندَهُ شيئاً ساخِناً.. فأخبَرْتُهُ.. كنتُ، في الصباحِ، قد جَليْتُ الصحونَ، ونظّفتُ المَجلى، والغاز، والمِغسَلَة، ورَفّها البورسلانيّ، في بيتنا، قبلَ أن أنزل.. ومساءً.. وأنا و زوجي نُتابِعُ الأخبار.. انقطَعَتِ الكهرباء.. نمتُ أنا على الديفون المُقابِلِ للتلفزيون، في الصالون.. كان جسمي ما يزالُ على غيرِ ما يُرام.. معَ تحَسُّنٍ واضح.. جاءَ التيّارُ الكهربائيُّ، بعدَ ساعة.. لكنني لم أستطِعْ مُقاوَمَةَ النوم.. نمتُ بعدَ أن أكَلْتُ خبزاً، وزيتَ زيتونٍ، وخِيارة، وتفّاحة.. استيقظتُ في الليل.. التيّارُ الكهربائيُّ مَقطوع.. نمتُ، واستيقظتُ ثانيةً، بعدَ ساعات.. كانتِ الكهرباءُ ما تزالُ مَقطوعة.. خَرَجْتُ إلى الحَمّامِ، على ضوءِ (الكَهرباية) الزرقاء، التي كنتُ قد أصْلَحْتُها منذُ يومَينِ، بمئةِ ليرة..  كانَ أخي قد أحضَرَها لي منذ سنواتٍ من (بانياس) وما تزالُ تَعْمَل.. كانَ ثمَنُها على ما أظنّ (300) ثلاثمئة ليرة سورية..

_________________________________________________________

استيقظتُ صباحَ هذا اليوم، في حوالي التاسِعَة..

كان زوجي يقطفُ ثمراتِ التينِ، تحتَ البيت.. لبِسْتُ ثيابي وحَمَلتُ مِظَلّتي.. ونادَيْتُهُ، لأخبرَهُ أنني نازلة، وأنّ خَبَراً أتاني للتَّوّ، على جِهازيَ الخَلَويّ من (توب نيوز) يقول، أنّ (بوتين) يعتذِرُ عن لقاءِ (أوباما) في (جنيف) على أمَلِ أن يلتقِيا حولَ الأزمة في (سوريا) في اجتماعِ (دُوَلِ العِشرين)..

حَضَرْتُ إلى هنا – يا أمي – وضَعْتُ مِظَلّتي على بابِ دارِكم – دارِنا، الحَديديّ، وأدَرْتُ المِفتاحَ ثلاثَ (طَقّاتٍ) ودَخَلْتُ..

كانَ المَجلى مَليئاً بالأواني المُتّسِخة ببقايا الطعام.. كنتُ أنا وبعضُ أبناءُ إخوتي، وصديق ابن أخي، قد تناوَلنا طَعامَ الغَداءِ، من يومَينِ، هنا (بيض مَقلي) (مَكدوس) (شاي) و (خُبز).. وكانَ خَزّانُ الماءِ فارِغاً.. فترَكْتُ المَجلى كما هوَ.. وعندما جاءَتِ المياهُ في (الصّنبورِ) كانتْ ضعيفة.. وأخبَرَتني زوجةُ أخي أنّها نَظّفَتْ خَزّانَ بيتِهِم، على أمَلِ أن تأتي المياهُ ظُهْراً.. لكنّ ذلكَ لم يحصل.. ناداني ابنُ أخي:

– عَمّتو.. لا تَسقي.. والله خزّانات القرية كُلّها فارغة..

استأذَنْتُهُ، وسَقَيْتُ زريعتي بمقدارٍ قليلٍ جداً من الماء (كي لا تموت).. وشَطَفْتُ البَرَندَة، التي كانتْ مليئة ببقايا العِنَب، من ثلاثةِ أيام، عندما قطفَ أخي بعْضَ العِنَبِ، ونزّلَهُ إلى بيتِهِ، قائلاً:  (ستشتمينني.. ترَكتُ لكِ الشرفةَ مُتسخةً بالعِنب..)

قلتُ لهُ : لا تهتمّ..

جَلَيتُ الأواني صَباحَ هذا اليوم، هنا.. وسَلَقْتُ حَبّتَيّ بَطاطا.. تناوَلتُها مع الزيتِ، والمِلحِ، والخبز.. ثمّ شَرِبْتُ كأساً منَ الشاي معَ السّكّر..

دَخَلْتُ دارَ (بيت الشّرقي) نادَيتُ زوجة أخي، كي لا تتفاجأ بدخولي.. أخبَرْتُها أنني سأضَعُ في (سَطلِ) طَعامٍ الدّجاجِ، بَعْضَ الخُبْزِ، والفريكة المُسَوّسة.. سألتُها :

– هلِ امتلأَ خَزّانُكم بالماء..؟!

قالت : – نعم..

قلتُ : – الحمدُ لله.. والله، خزّان بيت أهلي، امتلأ، أيضاً..

أفرَغْتُ المِقلاةَ في السطلِ، وعُدْتُ.. جَليتُ المِقلاةَ، وجَلَسْتُ على الديفون، أشتغِلُ الصوف.. وبَعْدَها.. صَعَدْتُ على السطحِ، نَفَضْتُ المَسانِدَ، واللّحفَ، والفَرْشَةَ الإسفنجيّةَ التي كنتُ أشَمّسُها منذ أيام، فوقَ السطح.. نَفَضْتُها من الغُبارِ، وأدخَلتُها إلى غُرفةِ السطحِ، التي أعجَبَني ترتيبُها، ونظافَةُ بِلاطِها الجميل.. أخرَجْتُ الزبالة.. ووضَعْتُها مع زِبالةِ البيتِ في أكياسِ نايلون مَربوطة، في الخارج، أمامَ بابِ (السّقيفة) كي يأخُذَها عامِلو النظافة، غداً الأحَد، مع باقي الزبالة في (تْرِيلاّ ) إلى مكَبّ النفايات.. وضَعْتُ وَجْهَ الفراشِ الإسفنجيّ الأبيض، معَ ثيابي، وثيابَ ابن أخي، التي ترَكَها بعدَ الحَمّام، في الغسّالة، وأدَرْتُها عندما جاءَتِ الكهرباء، بعدَ أن وَضَعْتُ في دِرجَيها قليلاً من مَسحوقِ الغسيلِ المُنَظِّف.. ما تزالُ تعمل..

قبْلَ قليل.. ذهَبْتُ إلى بيت أخي.. كانَ ابنه يَحسبُ على الحاسِبَة.. وابنه الثاني نائماً على الدّيفون.. أخي في عَمَلِه.. سألتُ عن زوجته.. ليستْ مَوجودَة.. قلتُ لابن أخي أنني أريدُ كوباً مِنَ اللّبَنِ الرّائب، إن كانَ عندهم.. قال:

-خذي من الثلاّجة..

كانتْ هناكَ طَنجَرَةٌ كبيرَةٌ مليئةٌ باللّبَنِ المَقشود.. مَلأتُ كأساً.. وقلتُ لهُ، مازِحَةً:

-قُلْ لماما.. أنني سَرَقْتُ كأساً مِنَ اللّبَن..

جِئْتُ إلى البيت.. كَتَبْتُ كثيراً.. وعندما (استَوى) نضَجَ الرّزّ، أحضَرْتُهُ إلى هُنا، على الطاولةِ البُنّيّة.. وأنا الآن أبَرِّدُ صَحْناً مِنهُ، كي أمزِجَهُ باللّبَنِ، وأتناوَلَهُ، بعدَ أن أخَذْتُ حَبّةً مُضادّةً لتشَنّجِ الأمعاء.. عَلّ ذلكَ يُريحُني مِمّا أعاني مِنهُ منَ اضطراباتٍ هَضميّة..

الجَوُّ مُتَقَلّبٌ منذُ الصباح..

كنتُ قد عَبّأتُ قُشورَ الجَوْزِ الجافّةِ عنِ السّطْحِ، في أواني، وأدْخَلتُها داخِلَ بابِ الدّرَجِ، وأغلَقْتُه.. كان تلفزيون (المَنار) قد أذاعَ عنِ احتِمالِ سُقوطِ رذاذٍ مِنَ المَطَرِ، لَيْلَ الخميس..

غداً.. سَيُقيمُ (صُندوقُ القريةِ الخَيْريّ) احتفاليّةَ تكريمِ المُتفوّقينَ، والمُتفَوِّقاتِ، في الشهادَتَينِ الإعداديّة، والثانويّة، والجامِعات.. والطلائع..

أمي..

لو أنّكِ هنا.. كُنّا تناوَلْنا مَعاً، كلّ واحدةٍ مِنّا صَحْناً من مَرْقَةِ الرّزِّ الممزوجَةِ باللّبَن..

صَدّقيني.. ليسَتْ لَدَيَّ شَهيّةٌ لأيِّ طعام.. لكن.. عَلَيّ أن آكُل..

إلى اللقاء يا أمي……

الرابعة وعشرة دقائق، عَصْرَ يومِ الأربعاء 4/9/2013م

_________________________________________________________

صباح الخير يا أمّي..

( ولِكْ.. سمعْتْ الشمسْ.. بتهمُسْ هَمْسْ.. صباح الخير مارِيّا.. صباح الخير مارِيّا.. ولِكْ.. صَباح الخير يا أهل الخير.. شَمْسِكْ مينْ يطفِيّا….!!)

وأقَبّلُكِ على وَجْهِكِ الغالي.. تبتسِمين.. وتَردّين عَليّ: (- لا أحَد يستطيعُ أن يُطفأها..!! ) الحمدُ لله..!! ونضحَك..

في كثيرٍ مِنَ الصّباحاتِ، كنتُ أصَبّحُكِ بهذهِ الأنشودَةِ، التي أقَلِّدُ بها (علي الدّيك) الذي يغنّيها ل (سوريّا) فأبْدَلْتُها أنا ب (مارِيّا).. وما الفَرْقُ، يا أمّي..؟!

أمي..

تعرفينَ أنّ اليومَ هوَ الجُمُعَة، الأوّل من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2013م..

الساعة الآن حوالي الثانيةَ عَشرةَ ظُهراً.. قبلَ قليل، أذّنَ المؤذِّنُ في (جامع الشيخ علي سلمان) لِصَلاةِ الظّهر..

استيقظتُ اليومَ مُتأخّرَة.. أيقظَتني (رِسالةُ تذكيرٍ) في التاسِعة والنصف (لا تقولي : ولووو..!!) فقد نمْتُ مُتأخّرة، وقَلِقْتُ في أوّلِ نومي، قبْلَ أن آخُذَ قِرْصَينِ مُضادّينِ للقلق.. وأتبَعْتُهُما بقِرْصٍ مُضادٍّ لاحتقانِ الأنف.. وكِلاهُما يزيدانِ من تأثيرِ بَعْضِهِما.. فنمْتُ من حوالي الثانية بعدَ منتصَفِ الليل، حتى التاسِعة والنصف.. قَتَلْتُ إحدى (البرغشات) البَعوضات، عنِ الحائطِ المَدهونِ باللونِ السّكّري، دهانٍ زَيتيّ.. لَوّثْتُ الحائطَ بالدّمِ الذي امتَصّتْهُ مني، والخِرْقَةَ البيضاءَ التي قتَلْتُها بها (قَميصٍ داخِليٍّ قطنيّ مُخَرّمٍ، من بقايا مَحَلّي.. كانوا قد قَصّوا لي كُمّهُ الأيمَن، في (مَشفى الباسِل) في طرطوس، عندما كانوا يُجَبّرونَ لي يَدِيَ اليُمنى التي انكَسَرَتْ عندما جاءَتْني النّخوَةُ، وتجاهَلْتُ رَفضَ أختي لِفِكْرَةِ أن أنزلَ إلى (الخِرْبَة) وأحضِرَ لها باقَةَ بَصَلٍ أخضَر (من زراعَتي) وأنا أعرِفُ كم تُحِبُّ (قَضّوضَةَ) البَصَلِ الأخضَرِ، معَ الزيتِ والمِلح..فنزَلْتُ مُسرِعَةً، وترَكْتُها تجلي الصّحون، على المَجْلى، هنا في بيتكم (وأنا الآن أكتبُ في بيتكم – بيتِنا – على نفسِ الدّيفون الذي بدأتُ الكتابَةَ وأنا أجلسُ فوقهُ في بدايَةِ هذهِ الرواية.. )

كُنتِ تتمَشّينَ قُرْبَها، في المَطبَخ، وتتحادَثان.. تفاجأتُما جدّاً عندما دَخَلْتُ عَليكُما المَطبَخَ، مُسْرِعَةً، حامِلَةً جَرْزَةَ بَصَلٍ في يَديَ اليُسرى، التي أحمِلُ ساعِدِيَ الأيمَنَ المَلْويّ.. وأنا أتَلَوّى منَ الألَمِ،بصَوتٍ حاوَلْتُ قدْرَ الإمكانِ ألاّ يكونَ قويّاً.. لكنّ الغالية أختي  شَهَقَتْ، واصفَرّتْ، وهيَ ترمي مِنْ يَدِها كلَّ شيء، وتلتفِتُ إليّ، شاتِمَةً حَظّي، وحَظّها، مُستنكِرَةً أنّي خالَفتُها، ونزلتُ لأحضِرَ البَصَل.. صَرَخْتِ أنتِ، يا أمي : (ياوَيلي أنا.. يا وَيْلي..!! كُسِرَتْ يَدُكِ..؟!)..

-أختي، أظنّ أن يدي انكسَرَتْ.. ويكادُ يُغمى عليّ..

بهذهِ الكلمات فاجأتُ أختي عندما دَخَلْتُ..

-دَخيلْكُم.. دَخيلْكُم.. قولوا لزوجها.. أخبِروا زوجها..

أسْرَعَتْ أختي لتسندَني، قبلَ أن أسقُطَ من الألَم.. أجْلَسَتني على الديفون، في الغرفة.. وأنتِ تُرَدّدينَ بإلحاحٍ : (أخبِروا زوجها..).. وأختي تقولُ لكِ، بصَوْتٍ مُرتفِع : (نعم.. نعم سنُخبِرُه.. لكنْ، يكادُ يُغمى عَلَيها..) كانَ هَمُّها الأوّلُ أن تُسْعِفَني.. أنا أتَلَوّى منَ الألَم، وأكادُ أتقيّأ ما في مَعِدَتي من طعام. والعَرَقُ يُبَلّلُني، ونَبْضي مُضْطَرِب..

صَرَخْتُ بكُما : (وْلَكْ خلااااااص.. خلااااااص…….!!)

كانَ ابنُ أخي قد حَضَرَ مِن بيتِهِمُ المُجاوِر.. وكذلكَ أمُّه.. ولا أعرفُ مَن حَضَرَ أيضاً..

قالتْ أختي، وهيَ تَرْشُقُني بالماءِ، وأنا مُنزعِجَةً منها، ومِنكِ:(- اتّصِلوا بزوجِها.. سنُنزلُها إلى “طرطوس”.. إلى المَشفى..)

كنتُ قد طلَبْتُ منها أن تُخبِرَ الدكتورة بما حَصَلَ، وتسألَها ماذا عليها أن تفعل.. فقالتْ لها : خذوها إلى المَشفى، بسرعة..

جاءَ زوجي، وإخوَتي كلّهم.. ولا أعرفُ مَنْ، أيضاً.. ناوَلَني ابنُ أخي ركّاية إسفنجيّة مُستطيلة، وَضَعَها، بكُلِّ حَذَرٍ، تحْتَ ساعِدي، قائلاً : (لا تخافي يا عَمّتي.. لا تخافي.. هل تريحُكِ هذهِ الوَضعية..؟!) أجَبْتُهُ : (نعم.. أفضَل..).. وكانَ الغالي قد كُسِرَتْ يَدُهُ منذُ مُدّة ليسَتْ بَعيدة.. ويعرفُ كيفَ يتعامَلُ معَ الكَسْرِ، في مثلِ هذهِ الحالات..

أنزَلوني بسَيارةِ زوجي.. قادَها ابنُ أختِه.. أجلَسوني في المُقَدّمة، حامِلَةً ساعِدِيَ الأيمَنَ فوقَ المَسْنِد.. لا أستطيعُ أن أقَدّرَ، أو أنْ أصِفَ كَم كانَ ألَمي شَديداً، ونبضُ قلبي مُضطَرِبٌ، ومُتَسَرّع.. كنتُ على حافّةِ الموتِ، أو الإغماء.. لائمَةً نفسي ؛ – كيفَ.. لمَنْ يتَقَطّعون..؟! كيفَ يتحَمّلُ مَنْ تُقْطَعُ يَدُهُ، أو رِجْلُهُ، أو أيٌّ جزءٍ من جَسَدِه..؟! وأنا لا أستطيعُ تَحَمُّلَ ألَمِ كَسْرِ يَدي..؟!

-أختي.. أختي.. ناوليني حبّة أنديرال، وحَبّتيّ مُهّدّئ.. أرجوكِ.. بسرعة.. بسرعة….!!

بمُساعَدَةِ زوجي، فَتَحْتْ مِحْفَظَتي، وناوَلَتني الحَبّاتِ الثلاث، وضَعَتْها في فمي.. وتناوَلَ ابنُ أختهِ المُضطَرِب جداً، والذي يقولُ لي : (سلامتِكْ يا زوجة خالي.. سْلامْتِكْ.. طَوّلي بالِكْ..) ويقودُ السيّارةَ على مَهْل.. وعندما يُسْرِعُ قليلاً، وترتَجُّ السّيّارة.. أصرَخُ به :

-لا………….. !! آآآآآآآآآآخ….!!

فيَحار..

سَقاني ماءً مِنْ زجاجَةِ (دْرَيْكيش) سماويّةِ اللونِ، بلاستيكيّة.. كانتْ في السّيّارة.. أو أنّ أختي أحضَرَتها مَعَها.. لا أدري.. المُهِمّ، سَقاني الغالي بَعْضَ الماءِ، على دَفَعاتٍ، مِنْ فَمِ الزجاجَةِ، حتى استطَعْتُ بَلْعَ الحُبوبِ المُخَفّفَةِ لما أعاني، بعْدَ أن قَرَطتُها بقوّةٍ، كَي أسَرّعَ مَفعولَها.. وتابَعْنا المَسير.. وعندما وَصَلْنا المَشفى، بعْدَ أقَلّ من ساعَة.. أسْرَعَ المُسْعِفونَ، والمُسْعِفات.. أدخَلوني إحدى غُرَفِ الإسعافِ، وسارَعوا بالإهتمامِ بي.. تصويري، بعِدّةِ وَضْعِيّاتٍ، لساعِدي، وكَفّي..

( – إنهُما كَسْرانِ، وليسَ كَسْراً واحِداً.. أحَدُهُما “مُتَبَدِّل”.. خالتي.. مِنْ أينَ أنتِ..؟!

– من (الشيخ بدر- المريقب) ياخالتو..

-من(الشيخ بدر) أتيتِ إلى هنا.؟!كيفَ استطعتِ تحمُّلَ هذا الألم؟

– آآآآآآآآآخ.. يا خالتو..!! ماذا أفعل..؟!.. )

لم يَكُنْ (مَشفى الشيخ بدر) قدِ افتُتِحَ، بَعْدُ..

أمي..

ما لي سَرَحْتُ – دونَ أن أدري – وكَتَبْتُ غيرَما كُنتُ أوَدُّ كِتابَتَهُ الآن..؟!

تضحَكين..؟!

مَجنونة..؟!

نعم.. أعرفُ أنني مَجنونة.. وأنا أيضاً أضحَك…

هههههههههه

كما نكتبُ، أو نرسمُ ضَحِكاتِنا  بلُغَةِ (الفيسبوك).. عِدّة هاءاتٍ مَوصولة، مُتطاوِلة.. حَسْبَ الأمْرِ المُضْحِك..!!

.. ما تزالُ آثارُ الشايِ، والسّكّرِ على شَفَتي.. ألحَسُها بينَ فترَةٍ، وأخرى.. والكأسُ الزجاجيّ الكبيرُ الفارِغُ إلاّ مِنَ (التفل) إلى يميني، على الصّينيّةِ المَعدنيّةِ، معَ كأسِ ماءٍ فيهِ نِصْفُه، كنتُ قد تناوَلْتُ بواسِطَتِهِ حَبّةَ دَواءٍ، بَعْدَ أن أنهَيْتُ تناوُلَ (قَضّوضَةٍ) وهيَ عِبارَة عن رَغيفٍ كامِلٍ، معَ بَيْضةٍ مَسْلوقَةٍ، أحْضَرْتُها مِنْ بيت خالي، وأنا قادِمَة، معَ بيضَةٍ أخرى، وكَميّةٍ مِنَ الزبْدَةِ المُمَلَّحَة.. ذَوّبْتُها – كما عَلّمْتِني، يا أميَ الغالية – على نارٍ هادِئة.. قَشّطتُها عِدّةَ مَرّاتٍ، واضِعَةً في (الكَسَرولَة) حَسْبَ توصيفِ (مُنْيَة) التونسيّة.. واضِعَةً فيها كَسْرَةَ خُبْز.. وعندما خَلا سَطْحُها مِنَ (القَشْطَة) القِشْدَة، واحمَرّتْ قِطعَةُ الخبزِ، وصارَتْ (مُحَمَّصَةً) بالسّمْنِ المالِحِ، طَفَيْتُ الغازَ، وأخرَجْتُ الخُبزَةَ، وَضَعْتُها في صَحْن (صِينيّ) وعَبّأتُ السّمْنَ الحارَّ في (قَطْرَميزٍ) زُجاجيٍّ، نظيفٍ، وجافّ.. غَطّيْتُهُ بِصَحْنِ قَهْوَة.. لأنني لم أجِدْ غِطاءً مُناسِباً.. حَرَصْتُ على أن أضَعَ القطرَميزَ الحارَّ، فوقَ قِطعَةِ قماشٍ سميكٍ، جافّةٍ، فوقَ المَجْلى.. كي لا (يَطِقَّ) الزّجاجُ من تفاوُتِ الحَرارَةِ الشديدِ، والمُفاجئ..

كنتُ قد نزَلْتُ إلى (الخِرْبَة) التي زرَعْتُ فيها العَديدَ مِنَ الخُضار.. (بَصَل.. نعناع.. بقدونِس.. فليفلة.. بَطاطا.. زعتَر.. مَرْدَكوش.. سِلْق.. سَبانِخ.. فجْل.. حُمّص.. فول.. حِنطَة.. ذُرة صفراء.. رشّات “رَشاد”.. ) وأحضَرْتُ جَرْزَةَ بَصَلٍ أخضَرَ، وعِدّةَ قطْفاتٍ مِنَ البقدونس.. فَرَمْتُها فوقَ البَيضَةِ المَسلوقَةِ المُقَشَّرَة، وفرَشْتُ الرّغيفَ فوقَ الصَّينيّةِ الدائريّةِ، هذه.. سَكَبْتُ فوقَها كَميّةً مِنَ الزيتِ، ووزّعْتُ خَليطَ البَصَلِ، والبقدونِسِ، والبَيضِ، فوقَهُ، دونَ مِلْح.. ولَفَفْتُها بشكلٍ أسطوانيٍّ، كما كُنتِ تلفّينَ لنا (العَضّوضات) أيّامَ طفولَتِنا.. يا أمي…

وغَلَيْتُ بَعْضَ الماءِ في (الرّكْوَة) الستنلس.. وَضَعْتُ كيساً من الشاي في كأسٍ زُجاجيّةٍ كبيرة.. كنتُ أسقيكِ بها ماءً وحليباً ولَبَناً.. وفي غيرِها.. ومِلعَقَة سُكّرٍ كبيرة.. وأضَفْتُ فوقَها الماءَ الغالي، لبِضْعَةِ دقائقَ، حتى تتفَكّكَ ذَرّاتُ الكِلْسِ التي تُعَكّرُ الشاي.. حَرّكْتُ السّكّرَ.. وعندما (حَلّتِ) الشاي، رَمَيْتُ الكيسَ في الزبالة.. وَضَعْتُ المِلعَقَةَ في المَجْلى.. أحْضَرْتُ (القَضّوضَةَ) معَ قِطعَةِ الخبزِ المُحَمّصَةِ بالسّمْنِ المالح، وكأسَ الشايِ، وكأسَ الماء، فوقَ صَينيّةِ الستنلس الدائريّة، إلى هنا، حيثُ أكتُبُ الآن.. أضَعُ قدَمَيّ على عارِضَةِ الكُرْسيِّ الخشَبيّ الصغيرِ، المُقَشّشِ بخيوطِ البلاستيك المُلَوّنة، وأكتبُ فوقَ جَنبيَ الأيمَن، وأستنِدُ على الأيسَر.. الطاولةُ الكبيرَةُ الخشَبيّةُ البُنّيّةُ، على يميني.. فوقَها الصّينيّةُ، ونَظّارَتي، وجِهازيَ الخَلَويَّ الأبيض، والشاحِنُ الأسوَدُ، وكَميّةٌ مِنَ الذّرَة، في كيسِ نايلون صغير، لعَمْلِ (البوشار) والجزدانُ الرّماديُّ الصغيرُ الذي أضَعُ فيهِ جهازيَ الخَلَويّ، وفي إحدى جيبَيهِ، بَعْضَ الدواء، وفي الأخرى بعْضَ النقودِ، ومِفتاحَا بيتِنا، و بيتكم – بيتِنا، هنا في (المْرَيْقِب) الغالية..

قبْلَ قليل، دَخَلَ أخي، بَعْدَ أن رأيتُهُ مِنْ نافِذَةِ المَطْبَخِ، وأنا أحَضّرُ الفطورَ، يدخُلُ إلى بيت أخي المقابل.. كُدْتُ أناديهِ ليَفطَرَ معي.. لكنني أدرَكْتُ أنهُ لا بُدّ قد فَطِرَ مع عائلتِه.. أخبَرْتُهُ أنني آتيةً لأكتُب.. وأنني أكتُبُ رواية.. طَلَبْتُ مِنهُ أن يَدعوَ لي..

( – ألله يوفّقِكْ.. ويعَلّي مَكانَتَكِ الأدَبيّة، وفي كلِّ شيء.. )

قالَها الغالي.. أخبَرَني أنّهُ ذاهِبٌ إلى (صَلاةِ الجُمُعَة) في الجامِع.. أخبَرْتُهُ أنني اتصَلْتُ بالأمسِ، ب (الأستاذ خالد) لأخبرَهُ أنني أكتُبُ روايَة.. وأستشيرَهُ، إن كانتْ سَتَلْقى قَبولاً، لأنني أكتُبُها على شَكْلِ (يوميّات) غير مُتتاليَة، وبِلُغَةٍ عاديّة.. ليسَتْ (أدَبيّة) وأنني قَرّرْتُ أن يكونَ عنوانُها : (إلى اللقاء يا أمي) فَسُرَّ الأستاذُ جداً، وشَجّعَني على ذلكَ كثيراً.. ( -كُلّنا سَنَكْتُب لِمَنْ نُحِبّ : – إلى اللقاء.. ) شَكَرْتُهُ جداً.. لأنّ تشجيعَهُ رَفَعَ مِنْ مَعنويّاتي – كالعادَة -..

سُرَّ الغالي أخي.. وزادَ مِنْ دُعائِهِ لي بالتوفيقِ، والنجاح، قبلَ أن يذهَبَ إلى الجامِعِ، للمُشارَكَةِ في صَلاةٍ الجَماعَة.. يوم الجُمُعَة -كالعادَة -..

أمي..

ما رأيُكِ أن أستريحَ قليلاً.. وأغسلَ فمي، وأجلي الكأسَينِ، والصَّيْنيّة..؟! هاهُوَ صَوْتُ حَبيبِكِ، وحَبيبِنا الغالي اللطيف الجميل، إبن أختي الأصغر، يَعْلو بزَقزَقاتٍ تدُلُّ على طاقَةٍ مُختَزَنَة، مُحاوِلَةً التّحَرُّرَ مِن داخِلِ روحِهِ الغالية… كم كنتِ تُحِبّينَهُ يا أمي…!! كم كُنتِ تُدافِعينَ عنهُ، إن أخطأ، أو أصاب..!!

-لَطيف.. لَطيف كتير.. عيني روحو.. لا تظلِموه..!!

عيني روحِكْ أنتِ.. يا أمي…

إلى اللقاء يا أمي..

الساعة الآن الواحِدَة والرّبع بعْدَ الظهر..

_________________________________________________________

الساعةُ الآن، تُقارِبُ السادِسَةَ والنصفَ مساءَ الجمعة الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2013م..

أنا، الآن، في بيتِنا في (الضَّهْر) أجلسُ على الديفونِ المُقابِلِ للتلفزيون، في الصالون الذي فَرَشْتُهُ مُنذُ أكثرَ مِن أسبوعٍ، بإحدى السّجّادَتَينِ الكبيرَتَينِ، الجميلَتَين.. قبلَ دقائقَ، تكلّمْتُ أنا و زوجي مع الغالية (أمل) كانتْ عائدَة مِنَ الكنيسةِ في (دِمَشْق) حَيْثُ التجأتْ قبلَ يَومَينِ، معَ أمّها العجوز المَريضة، وزوجِها، إلى بيتِ أخيه، أو أختِهِ، في العاصمة، بَعْدَ أن أنقَذَهُمُ (الجيشُ العربيّ السوريّ) من بينِ أنيابِ الفُجّارِ، التكفيريّينَ القَتَلَة، الذين دَخَلوا إلى (صَدَد) قتَلوا مَن قَتَلوا.. وخَطَفوا مَنْ خَطَفوا.. وشَرّدوا مَن شَرّدوا.. قبْلَ أن تتمكّن قُوّاتُ (الجيشَ العربيّ السوريّ) من إنقاذِ مَن تَبَقّى.. ونَقْلِهِم إلى (فَيْروزَة).. تكَلّمْتُ مَعَها قبلَ ساعاتٍ، عندما كُنتُ في بيتِكُم، يا أمي.. كانتْ مُتَوَتّرَة جداً، مُرْتَبِكَة، ومَقهورَة.. كانتْ تبكي، وتطلُبُ مني أن أدعو لها اللهَ، أن يُعيدَ لها طُمأنينَةَ قَلبِها، ويَشْرَحَ لها صَدْرَها المُرْهَق.. بعْدَ أن عانَتْ، وعانوا مِنَ العِصاباتِ الإرهابيّةِ المُسَلّحَة، المُجْرِمَة، التي دَخَلَتْ بَلدَتَهُمُ العَريقة (صَدَد) قُرْبَ (حِمْص).. هاربَةً مِنْ ضَرَباتِ (الجيشِ) في قُرى (ريفِ دِمَشق) و (الغوطَة) التي كانوا يُسَيطِرونَ عليها، ويَعيثونَ فيها قَتْلاً، وتدميراً، وتكفيراً، وفَتاوى لم تحصلْ، حتى في أكثرِ عُصورِ الجاهِليّةِ هَمَجيّةً..

دَعَوْتُ لها اللهَ – على مَسامِعِها – وأنا أتكَلّمُ معَها مُطَوّلاً على الخَلَوي.. أن يَشْرَحَ لها صَدْرَها، ويُريحَها منْ آلامِها، ويَحفَظَها، ويحفَظَ مَن تُحِبّ، وكلّ شَريفٍ في هذا الوطَنِ، والعالَم.. وقلتُ لها : أمَل.. لا يهمّكْ.. لا تنسَي – يوماً – أنّ لكِ، في هذا الكونِ، بَيتاً، ووطَناً حَنوناً، دافئاً، يحبّكِ.. ومُستَعِدّاً أن يَحضِنَكِ، بدِفئِهِ، وحَنانهِ، مَدى الزّمَن….. هو قلبي……….

سَمِعْتِ، يا (أمل)..؟!

ودَعَوْتُها أن تأتي، وتُحْضِرَ أمّها، ليعيشوا مَعَنا، هنا، في بيتنا (حتّى ألله يفرجها).. قالتْ : والله أنا قلتُ ل (عماد) ليتنا نذهب، ونسكن عند (بيت خالي..) أريدُ أن أرتااااح.. لم أعدْ قادرةً على سماعِ أصواتِ الرصاص..!!

-ولا يهمّكْ يا (أمل)..

وأخبَرْتُ زوجي بذلك.. فطَلَبَ أن يتكَلّمَ مَعَها.. اتصلتُ بها مِنْ جِهازيَ الخلَويّ، كانَ صَوْتُها مُرتاحاً.. قالتْ أنها – للتَّوِّ – عادَتْ مِنَ الكنيسة.. قلتُ لها : برافو.. هذا هوَ سَبَبُ شعورِكِ بالرّاحَةِ، ياغالية.. تكَلّمي معَ (خالِكْ).. دَعاها زوجي لتأتي مع زوجِها وأمّها.. وأخبَرَها أنّ بَيتَنا واسِعٌ، وأنّهُ سيؤمّنُ لزوجِها عَمَلاً مَعَهُ في الأرض (وضَحِكَ) وتابَعَ : (يا (أمل).. أنتِ تقولين “خالي” وهي حَقيقَة.. أنتِ بمكانةِ (مها).. ) ابنة أختِهِ، التي عَرّفَتنا عَليها، عندما كانتا تُعَلّمانِ مَعاً في (برمّانة المَشايخ).. ومن يومِها صارَتْ تنادينا كما تنادينا (مها).. (خالي) و (زوجة خالي)..

أمي، قبل قليل، وأنا أنقلُ ماكتبتُهُ على دفتريَ الزهريّ الذي أمامي الآن، من روايتي هذه، على اللابتوب، خطرَ لي أن أتصلَ ب(أمّولة) على الخلوي.. لأطمئنّ عليها وعلى أقاربها في (صَدَد) لكنني آثرْتُ أن أتصلَ بأختها الغالية الدافئة، أم الغالية (مُنتهى).. لكنها لم تردّ.. وبعد ثواني، اتصلتْ هي بي.. قلتُ لها : – ألله أرادَ أن يجعلَكِ تخسرين ثمنَ المُخابرة.. وضحكنا…. سألتُها إن كانَ معها (وَحْدات) وإلاّ لتفصُل جهازَها، وأنا أتصلُ بها.. واتفقنا أن تتصلَ بي على الأرضيّ، فأعطيتها الرقم.. أخذنا راحَتنا أكثر بالكلام، بعد أن سألتُها إن كنتُ قد عَطّلتُها عن الشغل، أم لا.. أجابت : لا.. لا.. ليس لديّ شغل.. طمأنتني عنهم.. الكلّ الحمد لله بخير.. هم في (صَدَد) من زمان.. وكانت قد أخبرتني برسالة خَلَوي، من زمان، أنّ الوضعَ عندهم صارَ ممتازاً لله الحمد (سّلّحوا الشباب، هنا).. وحَكتْ لي كيف رأتِ (المُسَلّحين) وجهاً، لوجهٍ، على شرفةِ بيتهم.. وكيف كلّمَتهم من النافذة.. وارتعَبَتْ منهم.. لكنهم (طمأنوها) ( نحن لا نريدُ منكم شيئاً، يا أختي.. اطلعوا، ولا يهمكم ).. كانوا يَهْدؤونَ في النهار، ويبدو أنهم يرتّبونَ أمورهم.. وفي الليل، يهجمونَ على البيوتِ، يخلعونَ الأبوابَ.. يسرقون مُحتَوياتها.. يخطفون مَن يخطفون.. يقتلونَ مَن يقتِلون.. يُرعِبون الآمِنين.. وفي النهار.. لا يظهَرون (أعداء النور).. تحَدّثنا، أيضاً، عن مَعنى الدين.. وأنني أعتبرُ أنّ هناكَ (دينٌ) واحدٌ في هذا العالم.. بدأ منذ سيّدنا (آدم) عليه السلام.. من أولِ الخليقة.. وحتى نهاية الزمن.. اللانهائيّ.. وأنّ (اليهودية) الحقيقية.. و (المسيحية) الحقيقية.. و (الإسلام الحقيقيّ) رسالاتٍ جاءَتْ لتُكمِلَ بَعْضَها.. (أمي.. أسمعُ، الآن، صوتَ سيّارةِ إسعافٍ، أظنّها تنقلُ جُثمانَ شهيدٍ غالٍ، كانت ابنةُ أخي قد أعلنتْ عن استشهاده مساء أمس على صفحة (جبال العزّ) على الفيسبوك.. هو من (بْغَمْليخ) ألله يرحم روحه.. ويصبّر أهله.. وألله يفرجك يا سوريا.. الآن أسمعُ أصواتَ زَخّاتِ الرصاصِ، تزغرِدُ للشهيد… آآآخ يا أمي… ألله يرحمك.. وألله يرحمنا بشفاعتك وشفاعة أمثالك وبشفاعة دماء الشهداء وأنّات الجرحى ودموعِ الثكالى واليتامى والأرامل.. وإلهي يعيد المخطوفين سالمينَ غانمين..و ياااااارب.. الفَرَج…….!! )

قلتُ لها : مَنِ الذي أساءَ لليهودية الحقيقية، أكثر مِمّا أساءَ لها مُدّعوّ اليهودية، من صهاينة، وغيرِهم…؟! ومَنِ الذي أساءَ للمسيحية، أكثرَ ممّن يدّعون المسيحيةَ، زوراً، وبُهتاناً..؟! وأعطيتُها مثلاً، (بوش) الصغير، الذي احتَلّ (العِراق) باسم (الله) وباسم المسيحية.. !! ومَن الذي يسيءُ للإسلام الحقيقيّ، أكثرَ ممّن يدّعون أنّهم (مُسلِمون) ويقتلون، ويذبحونَ، ويخطفونَ، ويسرقونَ، ويغتصِبونَ، ويُهَجّرون، ويرتكبونَ كلّ الموبِقاتِ، باسمِ (الإسلام)..؟!! نحنُ – ياغالية – لا نعتبرُ (المُسلِمَ ) مُسلِماً حقيقياً، إلاّ إذا آمَنَ بما أوتيَ (موسى) و (عيسى) وماقَبلَهما من الأنبياءِ، والرُّسُل.. لا يكتملُ إسلامُ الإنسانِ، إن لم يؤمِن بكلّ هذا… وفي قرآننا (مَن قَتَلَ نفساً، بغيرِ نفسٍ، أو فسادٍ في الأرضِ، فكأنما قتَلَ الناسَ جميعاً، ومَن أحياها، فكأنما أحيا الناسَ جميعاً ).. أنا – مثلاً- ماذا يهمّني من (دينك)..؟! تهمّني مُعامَلتُكِ.. وماذا يهمّكِ من (ديني) سوى كيف أتعامَلُ معَكِ..؟! (الدينُ، المُعامَلَة).. أما علاقةُ الإنسانِ بخالقِه، فلا يمكنُ لأحدٍ أن يُدرِكَها سوى الإنسان وخالقه.. ماذا يهمّني إن عَبَدَ الإنسانُ (رَبّهُ) كيفما يشاء، وبالطريقة التي يريد..؟!!؟ (يصطفلْ).. هذا أمرٌ يخصّه… هؤلاء – ياحبيبتي- تصنعُهُم قِوى الشرّ في العالم، وتستخدِمُهُم كأدَواتٍ لغاياتها الإستعمارية.. هم وُقودٌ لمَصالِحِها، أيضاً، تغسلُ لهم أدمِغَتَهم، وتدَرّبُهُم في مُعسكَراتها السرّيّة، أو العَلَنية.. في السجونِ، في الجزُرِ النائية.. حتى في السجونِ الطائرة، كما يُسَمّونها.. و العائمة، التي تُديرُها قِوى البَغي، والطَمَع، والشرّ العالمية، لخِدْمَةٍ عَبَدَةِ المادّة.. الطغاة.. في العالَمِ كلّه.. ولا علاقَةَ لهم بالدين.. ولا بالأخلاق.. ولا بالإنسانية، أو، حتى، الحيوانية.. هم (كائنات) مُبَرْمَجة لخِدْمَةِ مَصالحِ الغربِ الإستعماريّ، الطامع بخيراتِ الشعوب.. و (الغاية عندهم، تُبَرّرُ الوسيلة)..

وضحكنا كثيراً، وقَرِفنا، عندما ذكرنا (جهاد النكاح)…..!!!!

قالتْ لي :

– والله يا زوجة خالي، أنتم تساهمونَ في إيصالِ الحقائقِ للناس.. قلتُ لها :

– هذا واجبنا.. وأنا لا يهمّني أن تصِلَ الحقيقةُ للغرباء.. يهمّني جداً أن تصِلَ حقيقةُ اعتقادِنا وهُويّتَنا الحقيقية، إلى أبناء بلدي.. كي نعرفَ بَعْضَنا.. ونأمَنَ بعضَنا.. ولا نساهِمَ في التفرقة التي يحاوِلونَ نشرَها بين أبناء الوطنِ الواحد.. ألا ترَينَ أنّ الأخَ صارَ يخافُ من أخيه.. والجارَ مِن جارِه.. وابن منطقة ما، من ابنِ منطقة أخرى..؟؟؟؟!!! هذه من أهَمِّ أهدافهم.. تفرِقَتُنا.. تسهيلاً لتدميرِنا.. وصدّقيني، لا يهمّهم مَن يَقتِلُ مَن.. وليسو حريصين على أحدٍ منا، إلاّ مَن يساعِدُهم على بَغيهم، وتحقيقِ أهدافهمُ الدنيئة.. وبعدَها، يرمونهُ في سَلّة الزبالة.. إن تكرّموا عليه.. وقد يقتلونه بأنفسِهم.. وقد يتركونهُ في حال سبيله.. لا يأبَهونَ بهِ، بعْدَ أن (تنتهي صلاحيَتُه)…!!

أبدَينا سعادَتنا بأنّ (الدّولة) ما زالتْ قائمة.. دوائرُها كلّها تعمل.. الموظّفونَ يأخذونَ رواتبَهم كلّ شهرٍ، بانتظام.. والمؤسَسات الإستهلاكية.. والمدارس.. وغيرُها.. أخبَرَتني أنّ (الإرهابيين) الذين لا يُشبِهونَ البشرَ، حتى في هيئآتِهم.. كانوا قد هَدّموا المدارسَ عندهم.. لكنها الآن رُمِّمَتْ.. وعادَت للعمَل من جديد..

أخذتُ منها رقم أختها، الجديد.. واتصلتُ معها.. طارَتْ منَ الفرح.. أرادَتْ أن تحكي معي على الأرضي.. قلتُ لها : لا.. فقد حكيتُ كثيراً مع (رَجّوءة) وتعِبْتُ.. فأنا أعاني من نوبةِ (ربو ) منذُ حوالي شهر.. و (لم نرَ، بعدُ، شيئاً من آثار الحرب علينا.. ) سُعِدَتْ جداً، عندما أخبرتُها أنني ذكَرْتُها في هذهِ الرواية.. وقالت : هذهِ أجمل مكالَمةٍ تلقّيتُها من زمااااان….!! الحمدُ لله.. كما سُرّتْ جداً عندما أخبرتُها باحتمال أن يحوّلَ أحدُ المخرجين، روايتي الثالثة إلى فيلم..!!

أخبرتُ زوجي عندما عادَ من (تطعيم ) زيتونات ابن أخيه، تحتَ البيت، أنهما تسلّمان عليه..

وكذلكَ صهري..

طمأنتُهُ عنهم.. قال :

– ان شاء الله..

_________________________________________________________

سأعودُ لأكمِلَ نقلَ بقيّةِ الرواية من الدفترِ الزهريّ، إلى اللابتوب، وأنا جالسة في صالون بيتنا في (الضّهْر) أتكئُ على مسندٍ ليّنٍ، فوقَ الأريكةِ الخمرية المُستطيلة.. أمامي، على الطاولة البلاستيكية البُنيّة اللينة، اللابتوب، والدفتر.. وجهازيَ الخلويّ، وكأس (المَتّة) والإبريق.. و (الفلاشة) التي أضعُ فيها نسخةً احتياطيةً من هذهِ الرواية.. بعد أن قمتُ ببعضِ أعمالِ المنزلِ الضرورية.. تنظيف المجلى بالكلور، بعد الجلي.. والغاز.. فطور (لبنة مع زعتر”من صنعي” مع خيارة وبندورة وزيت زيتون، مع ثلاثة أرباع رغيف الخبز.. ) تمَشّيتُ بعدها على الشرفةِ، وأنا أقرأ مقالةَ زوجي في (المعرفة) عدد (نيسان 2014م) حول تاريخ صافيتا في العهد العثماني، وقرأتُ ماكتبتُهُ لهُ في أعلى الصفحةِ الأولى من المجلة (إلى الغالي…… ألف مُبارك منشورُكَ الأوّل.. فاطمة )..

_________________________________________________________

كنتُ قد قرأتُ على (الفيسبوك) أسماءَ العَديدِ من الشهداءِ، والشهيداتِ الذينَ قَتَلَتْهُمُ العِصاباتِ الإرهابيّةِ المُسَلَّحَة في (صَدَد) ودُفِنوا في (فيروزة) أو غيرِها.. أخبَرَني زوجي، بالأمسِ، أنّ ابنة أختِه، تكَلّمَتْ مع (أمل) وأنها أخبَرَتْها أنّ بَيْتَهُم تَهَدّمَ مِنْ قِبَلِ العِصاباتِ الإرهابية المُسَلّحة، بعدَ أن سَرَقوهُ.. كما فعَلوا بكلِّ البيوتِ التي استطاعوا دُخولَها في (صَدَد).. وأنّها تفكّرُ، هي وزوجُها، بالخروجِ خارجَ الوطن.. وأنها سوفَ لن تعودَ إلى (صَدَد) ثانيةً.. وقد أخبَرَتني بذلكَ، عندما تكلّمْتُ مَعَها قبلَ ساعات.. فقلتُ لها : – لا.. يا (أمل).. لا.. لا.. فلا كَرامَةَ لإنسانٍ خارِجَ وَطَنِه.. تعالوا إلى عندنا.. وقلبي، وروحي، وبَيتي مُشْرَعٌ لكِ، دااااائماً.. وإن مِتُّ.. نامي قُربي، لأضُمّكِ في حضني – أيضاً -.. وضَحِكْتُ.. قالتْ : لا.. بعيد الشرّ عَنّك..

أمي..

الآن يعرِضُ التلفزيونُ العربيّ السوريّ، على قناتِهِ الفضائيّة الرسميّة، ريبورتاجاً عَنِ المَجازرِ، والقتلِ، والتدميرِ، والإعتداءِ على البشَرِ، والشّجَرِ، والحَجَرِ، في هذا الوطنِ الغالي، منذُ 15/3/2011م حتى اليوم.. عَدَدُ المَشافي التي دُمّرَتْ (34) مَشفى.. و (18) مَشفى لَحِقَتْها أضرار.. (157) سيّارة إسعافٍ خَرَجَتْ مِنَ الخِدْمَة نهائيَاً، أحرِقَتْ، أو دُمّرَتْ.. (92) سَيّارة إسعافٍ، طالَها الضّرَر.. (455) سَيّارة إسعافٍ سُرِقَتْ.. (202) طالتْها أضرارٌ مُختلفة.. سَرَقوا أعداداً كبيرةً من سيّاراتِ الإسعافِ، ليَحشونها بالمُتفجّرات.. (10) ملياراتِ ليرةٍ سوريّة.. 3 – 5 سَنوات، لإعادَتِها إلى ما كانتْ عليه.. بالإضافةِ إلى ما أزهَقَتْهُ من أرواح.. ودَمّرَتْهُ مِن (200) مَعْمَلٍ دَوائيٍّ، توَقّفَ بشكلٍ كامِل.. وزارةُ الصّحّةِ تعمَلُ بكُلِّ طاقاتِها، بمُساعَدَةِ الأصدقاءِ، وبَعْضِ المُنظّماتِ الدّوليّة، لترميمِ ما لَحِقَ بالقطاعِ الصّحّيِّ مِنْ ضَرَر..

ويَعْرِضُ التلفزيونُ صورَةَ غُرفةِ عَمَليّاتٍ، في إحدى مَشافي القُطْرِ (حِمص) على ما أظنّ، وطبيبٌ يتكلّمُ عن أنّ المَريضةَ، هيَ طبيبةٌ تَمّ الإعتداءُ عليها في عيادَتِها، بعِدّةِ طَلَقاتٍ ناريّةٍ، في فَخذِها، وجَسَدِها، في 29/11/2011م.. وخُلاصَةُ القولِ، هذا ما حَدَثَ في (سورية) خلالَ عامَينِ ماضِيَينِ، وطالَ القطاعَ الصّحّيَّ، لوَحْدِه..

المُهِمّ، أنّ الغالية (أمّولة) قالتْ لي :

– أتعرفين..!! هذا الكلامُ، يعيدُ ليَ الأملَ في هذهِ الحياة، ويجعلُني اتفاءل..

شتَمتُها، وقلت: – هل كان عندكِ شَكّ، يا (أمل)..؟!

-لا.. لا والله، لم يكنْ عندي شَكّ..

-راحتِ التغطية، عندما شتَمتُكِ.. انقطَع الهاتف..!!

ضَحِكَتْ (أمّولَة) وقالتْ :

– أرأيتِ..!! حتى هاتفكِ، متضامَنٌ مَعي..!!

– أكيد..!!

وضَحِكْنا.. على أمَلِ أن يُدَبّروا أمورَهُم، ويُخبِرونا، لاحِقاً..

الساعةُ، الآن، السابعة ودَقيقتين..

سأستريحُ قليلاً، ثمّ أعودُ لأخبرَكِ ببَعْضِ نشاطاتي، هذا اليوم، يا أمي..

فإلى اللقاء..

_________________________________________________________

فتحتُ جهاز التلفزيون..

الآن، تقولُ مُذيعَةُ قناةِ ال (أن.بي.أن).. الفضائيّة، أنّ الجيشَ العَرَبيّ السوريّ، يُحْكِمُ قَبْضَتَهُ، بشكلٍ كامِلٍ، على مدينةِ (السّفيرَة) الإستراتيجيّة، في ريفِ (حَلَب) بَعْدَ مَعْرَكَةٍ استمَرّتْ أقَلّ مِنْ شَهر.. وأنّ (وَحْدات حِمايَةِ الشعبِ الكُرْديّ) تُواصِلُ مُواجَهَتَها للعِصاباتِ المُسَلّحَةِ، في شِمالِ (حَلَب).. والجيشُ يستمرُّ في مُواجَهَةِ العِصاباتِ الإرهابيّةِ المُسَلّحَةِ، في (ريفِ دِمَشق) قُرْبَ (السيّدَة زينب) عليها السلام..

تَرَكْتُ قَلَمي، ودَفتَري، وأغراضي، على الديفون، والطاوِلَة، قُرْبَ سَريرِكِ الغالي.. وحَمَلْتُ الصَّينيّةَ.. جَلَيْتُ كأسَيّ الماءِ، والشاي.. قَفَلْتُ البابَ الخارِجيَّ (طَقّة) واحِدَة، وتوَجّهْتُ شَرْقاً، نحْوَ بيتِ أخي الغالي.. كانتْ أختي وزوجها وأختي الثانية وابناها وابنتها، وزوجة أخي وابناهما..

نَسيتُ أن أخبِرَكِ أنّ أختي سَمِعَتْني أنادي ابنَيها من نافذةِ المَطْبَخ.. فأتَتْ، حامِلَةً (مْقَرّنة) وعِدّةَ قِطَعٍ من (أقراص بكشك) خَبَزَتْها مع زوجة أخيها على الصاجِ، في بيتِ أخي..

-من كِشْكاتي..

مُحاوِلَةً أن تغريني، أخذتُ (المْقَرّنة)وَضَعْتُها على صَينيّةٍ، فوقَ الغازِ، لآكُلَها  لاحِقاً.. ولم أسْتَجِبْ لترغيبِها لي بأكْلِ ال (أقراص بكِشْك)..

-لا أحِبُّها..

كانتْ رائحَةُ الزّيْتِ المَقْليِّ على الصّاجِ، تملأُ البيتَ الواسِعَ.. وتُصيبُني، أحياناً، بالسّعال.. لكنّ جَوّ العائلةِ الحَميمَ، يجعَلُنا أكثَرَ قابِليّةً لتَحَمُّلِ، أو تجاهُلِ أيَّ شيءٍ غيرَ الفرَح..

عَمَلَتْ أختي مَتّة.. شَرِبْنا معاً.. شَرِبَ حفيدكِ الغالي (زهورات) بالمَصّاصَة.. وَضَعْتُ أنا قَطفَةَ (زَعْتَرٍ) بَرّيٍّ جافّةٍ، فوقَ (المَتّة) في الكأسِ، وشَرِبْتُها دونَ سُكّر.. حَضَرَ الغاليانِ ابن أختي وابن خاله الأغلى.. سُرِرْنا أكثَر.. أخبَرَني ابنُ أختي أنّ الغالي أخاه يَبْحَثُ لي عن (لابتوب) مُستَعْمَل.. فسُرِرْتُ جداً.. ودَعَوْتُ لهم بالخير، فهُم (سَنَدي) المَتين.. ذهَبَ مع ابنِ خالهِ مشوار مَشي في الطبيعة.. جاءَ ابنُ أخي الغالي الآخَر.. تساعَدَ معَ أهلِهِ وأخيهِ في نَقْلِ (الحَطَبِ) الذي يَقطِّعُهُ رَجُلٌ في باحَةِ الدّار، بواسِطَةِ (المِنشار) خافَ الغالي ابنُ أختي الصغرى من صَوْتِه، فطمْأنتُهُ، بأنْ شَرَحْتُ لهُ ما يَحْصلُ، بشكلٍ تمثيليّ.. المِنشارُ الذي يَعْمَلُ (بُفففففف) يُقَطّعُ الحَطَبَ.. فيَحْمِلُهُ (فلان) و (فلان) إلى داخِلِ البيتِ، ليضَعوهُ في مِدفأةِ الحَطَبِ، عندما يكونُ الطّقسُ بارِداً، ونقول : أحّححح.. ويوقِدوهُ، فنتدَفأ، ونضحَك.. مِمّا خَفَّفَ مِن خَوْفِ الغالي، من صَوتِ (المِنشار)..

أخبَرَتني أختي، أنّ الغالية ابنة أختي، حامل.. لها أكثر من عامٍ مُتزوّجة.. وأنّ ابنة أخي مَعَها بنت.. اسمُها (….)..

الحمدُ لله..

تكلّمَتِ ابنة أختي معَ أمّها، من (طرطوس).. لم تأتِ اليوم، لأنّ ابنَها مَريضٌ قليلاً.. (زُكام) (رَشْح) (بَرْد) على قَوْلة (المَغارِبَة)..

تكلّمْتُ أنا معَها، أيضاً.. طلَبْتُ منها أن تضَعَ السّمّاعةَ على أذُنِ الصّغير.. ناغَيتُهُ.. ضاحَكْتُهُ.. كَلّمْتُهُ بحُبّ : تاتا..!! حبيبي..!! داد..!! ج.. ولم يُجِبْ.. لم يُكْمِلِ العامَ – بَعْدُ -.. قالتِ الغالية أمه : إنّهُ يبحَثُ عَنكِ منَ النافذة.. ضَحِكْنا.. سألتُها إن كانتْ مُحتاجَةً أن تُطعِمَهُ (سِلْقاً) طبيعيّاً، غيرَ مُسَمّدٍ، لأرسِلَ لها مع أمّها (باقَةً) مِنَ (الخِرْبَة) قالتْ – بِتَرَدُّد – :

– والله، من عدّةِ أيام، أطعمتُهُ سِلقاً.. لكن.. لا عليه.. أرسلي لي..

أرسَلْتُ لها معَ أمها باقَةَ سِلْقٍ.. ووَضَعْتُ في كيسٍ آخرَ، بَعْضَ ال (قِرص عَنّي) بعْدَ أن نَقّيتَها، لتكونَ جاهِزَةً للفَرْمِ، كَسَلَطَةٍ، مع الثومِ، والحامضِ، والزيتِ، والمِلح، بَعْدَ غَسْلِها جيّداً.. وأخبَرْتُ أختي أنّ ال (قرص عَنّي) لها.. وكانَ أخي الغالي، حبيبك، قد أخبَرَني أنّهُ وَضَعَ لي، من عِدّةِ أيّامٍ، كيساً مِنَ ال (قرص عَنّي) كانَ قد (سَلّقَهُ) بنَفْسِه.. لا أعرِفُ مِن أين.. وتساءلَ : لماذا لم آكُلْهُ.. أبقَيْتُ لنفسي باقَةً صغيرَةً منهُ، غَسَلْتُها جيداً، ووَضَعْتُها في مِصفاةِ الستنلس.. نادَتْني أختي لآتي مَعَهُما إلى بيتِنا.. وهي وزوجها في طريقِهِما إلى (طَرطوس).. لَمْلَمْتُ أغراضي.. وأتيتُ، قبلَ الخامسة بقليل.. كانَ الدكتور، إبن سلفي، يأكُلُ الرّمّانَ على الشّرْفَةِ، معَ عَمّه.. حَيّيتُهُما، وأنا ألهَث.. قلتُ لابن سلفي :

– يلعن أبو (الخَتيرة)، والسِّمْنة، أيضاً..

قالَ – مُسْتنكِراً – :

–  أنتِ سَمينة..؟!

قلتُ له :

– وَزني خَمْسٌ وسَبعونَ كيلو غرام، على الأقَلّ..

قال :

– وإن كان..؟! عادي..

قُلتُ له :

– سَمِنتُ، منذُ دَخَلْتُ ما يَدعونَهُ (سِنّ اليأس)..

قال :

– إي، عادي، وطبيعي..

ضَحِكْتُ، وقلتُ له :

– شُكراً.. شُكْراً للمُجامَلة.. لن أنسى لكَ إياها..!!

فضَحِك..

قلتُ لزوجي:

– ألله يخلّيك، أكرِمْ ابن أخيك.. ألله يجبُر بخاطرك، يا دكتور..

ودَخَلْتُ المَنزل.. بَدّلْتُ ثيابي.. وأتَيْتُ، لأجلسَ هنا.. انقطَعَتِ الكهرباءُ في الخامِسَة.. فأشعَلْتُ (الكهرباية) الزرقاء.. ووَضَعْتُها، بشكلٍ عَموديٍّ، فوقَ مَسنِدِ الديفون الذي أجلسُ عليهِ، ليلتقي نورُها بالسّقْفِ المَدهونِ بالأبيضِ، ممّا يزيدُ من مَجالِ الرؤية..

(نبّل) و (الزهراء).. المُسَلّحونَ، يَفرضونَ عَليهِما حِصاراً، منذُ سَنَتين..!!

جاءَتِ الكهرباءُ، في السادسةِ إلاّ رُبعاً.. ( الآن، تقولُ أمُّ أحَدِ الشّهَداءِ الأربَعةِ، الذينَ استُشهِدوا في “قِطاعِ غَزّة” اليوم (من كتائبِ عزّ الدينِ القَسّام) أنها كانتْ تتوقّعُ أن يأتيها مُستَشهداً، في كلِّ طَلْعَةٍ كانَ يطلَعُها مِنَ البيت.. وتحمدُ اللهَ، على أنّهُ نالَ الشّهادة.. ).. كانتِ المرأةُ مُنَقَّبةً بالأسوَد.. لا يظهَرُ منها سوى عينيها..

(ضَحايا العَبّارة الأندونيسيّة “الهِجْرَة غير الشّرْعيّة”.. السّمسارُ، صاحِبُ العَبّارَةِ، عِراقيّ.. )

جِهازيَ الخَلَويّ، أضَعُهُ في الشحن، في غُرفَتي.. لكنني أرى من فوقِ نظّارَةِ القراءَةِ، أنّ الساعَةَ المُعَلّقَةَ على الحائطِ المُقابلِ، فوقَ التلفزيونِ، تشيرُ إلى الثامنةِ إلاّ اثنَتَيّ عَشَرَ دقيقة.. زوجي يستلقي على الديفونِ المُجاوِر، يُغَطّي نِصْفَ جَسَدِهِ ببَطّانيّة.. أراهُ يتناوَلُ منديلاً وَرَقيّاً، ويَمْسَحُ أنفَه.. أظنّهُ مُصاباً بالزكام.. كانَ الطّقسُ، اليومَ، سَديميّاً.. الآن، تذيعُ (فَضائيّةُ المَنارِ) عن أحداثِ (طرابلس) وعن تهديدِ العِصاباتِ الإرهابيّةِ المُسَلَّحَةِ في (بابِ التّبّانة) لأهالي (جَبَل مُحسِن).. آااااخ… يا أمي..!!

رَفَضَ (علي عيد) الإستجابةَ إلى استدعائهِ مِنْ قِبَلِ (شُعْبَةِ المَعلومات) للتحقيقِ مَعَهُ، حَوْلَ (تفجيراتِ الرّوَيس) قائلاً، أنّهُ لا يَثِقُ بفرعِ المَعلومات.. وأنّهُ مُستَعِدٌّ لأنْ يَمْثُلَ أمامَ أيّةِ جِهَةٍ كانت.. لكنّهُ لا يُمْكِن أن يَمْثُلَ أمامَ (فَرْعِ المَعْلومات) المَشْبوه..!!

بالأمسِ، يا أمي.. استقبَلَتْ (طرابلس) جثامينَ ضَحايا (العَبّارَةِ الأندونيسيّة) التي غَرِقَتْ بهم، عندما كانوا مُتَوَجِّهينَ إلى (أستراليا) بهِجْرَةٍ (غيرِ شَرْعيّةٍ) سِمسارُها رجُلٌ عِراقيّ.. كانَ استقبالُ الأهالي لهم مأساويّاً.. عادوا بكُلِّ الجَثامينِ، إلاّ جُثمانَ طِفلٍ عُمرُهُ أكثر من عامٍ، بقليل.. قالوا أنهُ – لأسبابٍ عِلميّة مَعروفة – لا يُمكنُ للبَحْرِ أن يقذِفَ جثّةَ الصّغير.. فرَفَضَ البَحْرُ إلاّ أن يُبقيهِ في قاعِ حُضنِه..

ألله يساعِد العِباد.. كي يساعدنا، يا أمي..

أعطيتُ زوجي حَبّةَ دَواءٍ، لتُخَفِّفَ من أعراضِ الرّشْحِ، وتناوَلْتُ أنا حَبّةً، كانَ غِلافُها البلاستيكيُّ مَثقوباً.. فأنا أشعُرُ بتخَرّشٍ في حنجَرَتي..

_________________________________________________________

اليوم، هوَ الأحَد، العشرونَ من تشرين الأوّل (أكتوبَر).. أجلسُ على الديفونِ المُقابِلِ للتلفزيونِ، في الصالون، في بيتِنا في (ضَهْر المْرَيْقِب).. الساعَةُ المُعَلّقَةُ على الحائطِ المُقابلِ، بالكادِ، أراها.. ربّما تشيرُ إلى اقترابِ السابعةِ مساءً.. الكهرباءُ مَقطوعَةٌ منذُ السادسة.. أُشعِلُ المِصباحَ الكهرَبائيّ المَشحونَ منذُ الأمس.. أضَعُ (الكهرباية) الزرقاءَ التي أحضَرَها لي أخي الغالي، هيَ، وأخرى برتقاليّةَ اللونِ، منذُ عِدّةِ أعوام.. أظنّ أنّ هذهِ كانتْ ب (375) ليرة سوريّة.. أو (275).. والأخرى، بأقَلّ من ذلك.. أضَعُها بالمَقلوبِ، على الطاوِلةِ الكبيرةِ (الفورميكا) البُنّيّة.. لينعَكِسَ نورُها على السَّقْفِ المَطليِّ بالأبيضِ، فيزيدُ من مساحَةِ الرؤية..

جاءَتِ الكهرباءُ، يا أمي..

هيَ السابعةُ تماماً..

قبلَ قليل، اتصَلَ صديقُ زوجي، ليسألَ عنه.. قلتُ لهُ :

– والله، لا أعرفُ أينَ هوَ.. قبلَ قليلٍ، كان هنا..

أضاءَتْ (كَهرباية) من أسفَلِ الدّرَجِ، على الشُّرْفَة.. فتَحْتُ البابَ، ونادَيْتُ باسمهِ، مُستفسِرَةً.. أجابَ، أنهُ هو.. فناوَلتُهُ جِهازَ الهاتفِ اللاسِلكيّ، ودَخَلْتُ أكتبُ، بعْدَ أن فتَحْتُ جهازَ التلفزيون، قَلّبْتُ المَحَطّاتِ.. في أسفَلِ إحدى الشاشاتِ (استهدافُ مجموعةٍ مُسَلّحَةٍ، لمنطقةِ “جَرَمانا” بعِدّةِ قذائِفَ “هاون”.. وأنباءَ عن إصابات) (بَعْضُ الفصائلِ الفلسطينيّةِ، واللّجانِ الشعبيّةِ الفلسطينيّةِ، تخوضُ مَعارِكَ ضارِيَةً، مُتواصِلَةً، من غُرْفَةٍ، إلى غُرْفَةٍ، بقِتالٍ عَنيفٍ جداً، لطَرْدِ المَجموعاتِ الإرهابيّةِ المُسَلَّحَةِ، من عَناصِرِ ما يُسَمّى (الجيش الحُرّ) وَحْدَهُ الرّصاصُ يتكَلّمُ، في “مُخَيّمِ اليرموكِ” جَنوبيّ “دِمَشق”.. ).. (الجيشُ السوريّ يكتشفُ مَقبَرَةً جَماعيّةً لعَسكَريّينَ، ومَدَنيّينَ، من أهالي (القبتين- حَماه) قُربَ طريقِ حَلَب – خناصِر..) في الشريطِ الإخباريِّ لقناةِ (المَنار).. قناةُ ال (أن. بي. أن).. تُجري أوّلَ المُقابلاتِ معَ المُحَرَّرينَ اللبنانيّين.. الحُجّاج التسعة، الذينَ أُطلِقَ سَراحُهُم أمسِ، بعدَ اختطافهم من قِبَلِ مجموعاتٍ مُسَلّحَةٍ من (لواء عاصِفة الشّمال) الإرهابيّة، المُجرِمة.. منذ أكثرَ من عام.. (المَنار) تعرضُ فيلماً، أو مُسَلسَلاً تُركياً، أو إيرانياً، قبلَ أن تصبحَ السابعة والنصف، مَوعِد نشرةِ الأخبارِ الرئيسيّة..

قبلَ قليل، يا أمي.. وأثناءَ انقطاعِ الكهرباءِ، لمُدّةِ ساعة (تقنين) خَرَجْتُ إلى الشّرفَة.. (31 قتيل، و…… جريح.. باستهدافِ حَواجزَ عَسكريّة، للقوّاتِ النظاميّةِ، قربَ “حَماه” ) شريطٌ إخباريٌّ في أسفلِ شاشةِ قناةِ (الجَديد).. (سُكّانُ “بنت جْبيل” شَعَروا بهَزّةٍ أرضيّةٍ، قوّتُها 3 فاصلة 5.. مَركَزُها “بُحَيْرةُ طَبَريّا”..).. ( الدّولار يهبطُ إلى أدنى مُستوى لهُ خلالَ ثمانيةِ أشهُر، ونصف..).. (تفجيرٌ انتحاريٌّ………….).. ( استشهادُ ثلاثينَ مُواطِناً، في تفجيرٍ انتحاريٍّ، بشاحنةٍ مُفَخَّخَةٍ ب طنّ، ونصف الطّن منَ المُتفَجّراتِ، في مَراكِزَ زراعيّةٍ قُرْبَ حَماه..عندَ حاجزِ المَكنَنَةِ الزراعيّة..).. وهناكَ مَساعي سِرَيّة جداً، وحثيثة، لإطلاقِ سَراحِ المُطرانَينِ المَخطوفَينِ في (حَلَب) من قِبَلِ عَناصِرَ إرهابيّةٍ شيشانيّة، تطالبُ بإفراجِ (روسيا) عن زُمَلاءَ لهم، إرهابيّين.. يتحدّثونَ عنِ التعذيبِ الوَحْشيّ الذي تعَرّضوا لهُ أثناءَ اختطافهم..

(.. “أنقَرَة” استقبَلَتِ الطيّارَينِ الذينِ كانا مُحتجَزَينِ في “لبنان”).. (لم أتعَرّضْ للتعذيبِ، من قِبَلِ المُختطِفين..) هذا ما يقولُهُ أحَدُ الطّيّارَينِ التركيَّينِ المُحَرّرَين..

و (سوريا تُطلِقُ عَدَداً منَ النساءِ المُحتَجَزات..).. (تجاوَبَتْ سوريا وقالتْ : نحنُ نفعلُ كلَّ ما يُطلَبُ مِنّا، من أجْلِ إطلاقِ المُختَطَفينَ اللبنانيينَ في “إعزاز”.)..سوريا،لم تستفِدْ– أبداً-  من هذهِ الصّفقَة، بإعادَةِ أيِّ مَخطوفٍ سوريّ..

تذكّرْتُكَ يا (دكتور…) قريبَنا الغالي.. وتذكّرْتُ الكثيرَ منَ المُختَطَفينَ من قُرانا الغالية، ومن كلِّ أنحاءِ سوريا الغالية.. الشريطُ الإخباريّ في أعلى شاشَةِ قناة (شام ف م ) أقرأ (.. وصَمْتٌ سوريّ.. أطلَقَتْ السلطاتُ السوريّةُ سَراحَ 128 سَجينةٍ، مُقابِلَ إطلاقِ مُختَطَفيِّ “إعزاز” اللبنانيّين..).. (الآلافُ منَ العائلاتِ، ماتزالُ مُحاصَرَةً، في مُختلَفِ أنحاءِ سوريا..).. (1000 مُجرِم أردُنيّ، يُقاتِلُ في سوريا..).. قال بدّهم يعقدوا (مؤتمَر جنيف) في 23/11/هذا العام 2013م..

(انفجار سيارةٍ شاحِنةٍ مفَخَّخَة، في حماه – سلمية.. قُرْبَ حاجِزِ “المَكْنَنَةِ الزراعيّة”.. استشهادُ أكثرَ من ثلاثينَ شخصاً.. تَصادَفَ مُرورُ سَيّاراتٍ مُحُمَّلَةٍ بأسطواناتِ غازٍ.. مِمّا يزيدُ عَدَدَ الضّحايا..)

_________________________________________________________

استيقَظْتُ على عَضّةِ كائنٍ، في أسفَلِ خَدّيَ الأيمَن.. كنتُ نائمة على جانبيَ الأيمَن.. حِكاكٌ مُلِحٌّ، أنهَشُهُ بأظافري، يمتدُّ باتَجاهِ العُنُقِ، والرّقبة.. تسارَعَتْ نبضاتُ قلبي.. إزعاجٌ عامٌّ، وتوَتُّر.. أوقَدْتُ المصباحَ الكهربائيّ.. بَحَثْتُ عنِ البَعوضة (البرغشة) على الحائطِ، وفوقَ اللّحافِ، وفي كُلِّ مكانٍ، دونَ جَدوى.. الحِكاكُ يزدادُ إلحاحاً، ويَمْتَدّ.. مَعقولٌ، أن تكونَ مُجَرّدَ بَعوضَة..؟! هل آخذُ مُضادّاً للتّحَسُّس..؟! اهدئي، يا امرأة..!! إنّكِ تَتَوَهّمينَ، كعادَتِك.. تناوَلْتُ مُهَدّئاً، وخَرَجْتُ إلى الحَمّام.. عُدْتُ.. مازالتْ عَينايَ تبحَثانِ عَنِ الفاعِل.. هاهُوَ جِسْمٌ أسوَدُ يَرْبِضُ على الحائطِ، قُرْبَ السَّقْف.. استَعَنْتُ بنظّارَةِ البُعْد.. مَلعونةٌ، أنتِ، يا حامِلَةَ الطائراتِ المُعادِية.. إذنْ.. أنِتِ الفاعِلة..!! لا بُدّ من عِقابِكِ حتى المَوت.. هاهُوَ الحِكاكُ يمتَدُّ إلى ماوَراءِ أذني، وعَيني.. أنتِ..؟! لَعَنَكِ اللهُ، أيّتُها المُجْرِمَة.. ستنالينَ قِصاصَكِ العادِل.. تناوَلْتُ بلوزَتي السّوداء الرقيقة، التي هَيّأتُها للغَسيل.. رَمَيْتُكِ بها، بَعْدَ أن أحْكَمْتُ التسديدَ (أسْفَل، ومُنتَصَف الهَدَف)  وأطلَقْتُ قَذيفَتي.. ها أنتِ تَتَجَندَلينَ، وآثارُ دِمائِكِ – دِمائي، التي امتَصَصْتِها، على غَفْلَةٍ منّي، واسترخاءٍ، أثناءَ نَومي.. إلى الجَحيمِ، أيّتُها الحَمقاء.. مَسَحْتُ ما أمْكَنَ مِنْ بَقايا الدّمِ، على الحائط.. لم أستَطِعْ تنظيفَ المَكانِ بالكامِل.. لم تستَطِعْ يَدي، ولا سِلاحيَ الفَتّاكُ، ذاكَ، أن تطالَهُ كُلّه.. عُدْتُ، مُرتاحَةً، بَعْدَ أنِ اكتشَفْتُ المُجْرِمَ، واقتَصَصْتُ مِنه.. استلقَيْتُ على السّريرِ، وأمْسَكْتُ الجهازَ الخَلَويَّ، لأسَجّلَ على شاشَتِهِ هذا الإعتداءَ الغاشِم.. هذهِ المَعرَكَةَ، التي لم تزُلْ آثارُها من كِلا الجانبَينِ، بَعْدُ.. هاهي بَعوضَةٌ أخرى تجتازُ السّريرَ، على عُلُوٍّ مُنخَفِضٍ، كاتِمَةً الصّوْت.. لكنّ راداراتيَ المُستَنْفَرَة، رَصَدَتْها، برُغْمِ كلِّ شيء.. دَوّنْتُ الحادِثَةَ على الشاشَة، للتاريخ.. وها أنا أتّجِهُ للقَضاءِ على الهَدَفِ المُعادي الثاني، الذي يستَبيحُ سَمائي، وحائِطي..

الرابعَة والنصف، فَجْرَ يومِ السّبتِ، الثاني من تشرين الثاني “نوفمبر” عام 2013م.. ذِكرى (وَعْد بلفور، المشؤوم)

*******************************************

عندما عُدنا من (المغرب) صيف عام 1980م..

بعد وُصولنا ربما بعام.. بدأنا نُكمِلُ بناءَ بيتنا.. بقينا ربما أكثر من عشر سنوات ونحن نبنيه.. وحتى الآن لم يكتمل.. ولن يكتمل في حياتنا.. لكنه مُريحٌ نوعاً ما…

كنتُ أنامُ، أحياناً في النهارِ، على الديفون المُلاصِق لحائطِ الغرفة الغربيّ (أوضة بيت عمي).. و (أبو نور) ينقرُ الحائط من الخلفِ ب (المْهَدّة).. وأحياناً يكون معهُ عُمّالٌ آخرين، ليُخَفّفوا من نتوءاتِ الحَجَرِ البركانيّ الأسود، ليُصبِحَ صالحاً لِطَليِهِ بالإسمنتِ (التّلييس) قبلَ أن تُلصَقَ فوقهَ شرائحَ (البورسلان) لأنهُ سيُصبحُ (مَطبَخاً) بعدَ أن كانَ مَكانَهُ جبلٌ.. لم نكنْ نحتاجَ سوى لسُلّمٍ خَشَبيّ صغيرٍ، من عِدّةِ دَرَجاتٍ، لنصعَدَ بواسطتهِ على السّطحِ، وبعدَ أن عُدنا من (المَغرب) قرّرنا إكمالَ البيتِ، الذي كانَ مؤلّفاً من غرفة نوم لنا، وأخرى لبيت عمي.. مع مطبخ وحَمّام صغيرَين، وتواليت.. حَفَرنا الجَبَلَ بواسطةِ (التريكس) تمهيداً لجعْلِ الفسحَةِ مَكانَهُ مُتّسَعاً ل (مَطبَخ) واسع.. تَليهِ منَ الجَنوبِ، غُرفةُ نومٍ صغيرةٍ، مُلاصِقَةٍ للصالونِ الذي يُطِلّ على الشرْقِ، والجَنوب.. أحياناً كثيرة كانَ زوجي يطلبُ من أبناءِ أختهِ، المتزوّجة في قريَةٍ شَرقيّ (وادي العيون) أن يأتوا إلى عندنا، على (موتوراتهم) و آليّاتِهِم، ليَعمَلوا عندنا.. وكانوا قدِ اكتسَبوا خِبرةً كافيةً أثناءَ عَمَلِهِم في (لبنان) لعِدّةِ سنوات.. استطاعوا خلالَها تأمينَ نقودٍ، واشتروا (تريكسات) صاروا يشتغلونَ عَليها أينما طُلِبوا، وكانوا مَشهورينَ بإجادَةِ أعمالِهم.. وعندما يَدعوهُم خالُهُم للعَمَلِ عندنا، كانوا يُضطرّونَ، أحياناً، أن يَمكثوا عِدّةَ أيامٍ، نياماً، قياماً، آكلينَ، شارِبين للمَتّة، مُدَخّنينَ بشَراهَةٍ.. كادتْ تخنقني رائحةُ التبغِ الواخِذَة.. وأحياناً، كنتُ آتي لأستريحَ في النهارِ، بَعْدَ تحضيرِ الطعامِ، وجَليِ الأواني، وغير ذلكَ مِن أعمالِ المنزل، فلا أجِدُ مُتّسَعاً في الغرفة.. كانوا يستلقونَ على الدّيفونَينِ وقتَ الإستراحة (القيلولة) بعْدَ أعمالٍ شاقّةٍ مُجهِدَة.. ودَويُّ (التريكسات) يضربُ في أذنيّ، ليُصَدِّعَ رأسي، ويُصِمّ أذُني، ويوَتّرني.. وزوجة عمي – حَماتي – الوادِعَة، تجلسُ على الحَصيرِ المَمدودِ فوقَ إسمَنتِ الغرفة، فوقَهُ (المَدّة العربيّة) (الطرّاحات).. فأدخلُ غرفتَنا (غُرفة النوم) القديمة، المُخَصّصة لي ولزوجي منذُ زواجنا يوم الخميس الثالث عشر من آب (أغوستوس) عام 1970م.. كانتِ الغرفة الوحيدة التي استطاعَ أن يُجَهّزَها قبلَ زواجنا بقليل.. ووضَعَ فيها سَريراً (مُفرد ونصّ) قائمتاهُ من خَشَبِ الفورميكا فاتِحِ اللونِ، وخِزانة من ثلاث (دَرْفات) (أبواب) من نفسِ الخشَبِ، مع طقم طربيزات مُماثلة.. ثلاثة صغيرة، وأخرى كبيرة.. وعِدّة كراسي خيزران.. ربما ستّة..!! وديفون، مازلنا نسنعملُهُ حتى الآن، بجودَتِهِ العالية.. ذهَبَ إلى (حمص) وأحضَرَها قبلَ زواجنا بأيّام..

كتبتُ الفقرة السابقة على شاشةِ الخَلَوي.. ليلَ الإثنينِ- الثلاثاء 4-5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013م ونقَلتُها على الدفترِ فوراً.. لأنني كنتُ قد قَلِقْتُ بعدَ أن جاءتني مخابَرَة من إبن أخي الغالي.. أرسَلْتُ لهُ رسالةَ اعتذارٍ، أنني كنتُ نائمة، وأسألهُ ماذا يريد.. فأجابَني برسالةٍ، أيضاً (نوم الهَنا.. بالغلط..) مع صورةٍ ضاحِكَة..

كنتُ مُتبَلّدَةً كلّ بَعْدِ الظهر، أمس الإثنين.. طبَخْتُ بال (تقلاية) المِقلاةِ الستنلس، قليلاً منَ الرزّ مع البَصَلِ والبندورة، وقليلٍ منَ السمنِ البَلَديّ.. أكَلْتُ نصفَها.. ووَضَعْتُ الباقي بالبَرّادِ الصغيرِ في غُرفةِ النوم.. وتابَعْتُ الجلوسَ على الديفونِ، مُقابِلَ التلفزيون في الصالون.. زوجي خَرَجَ لمُدّةٍ طويلةٍ، وعاد.. أخبَرْتُهُ أنّ زوج عمّتي، قدِ اتصَلَ يطمئنُّ عليهِ، لأنّهُ كانَ (مْرَشّح) فاتصَلَ مَعَهُ.. ثمّ.. ظنَنتُهُ كان يجلسُ على الديفون في الشرفةِ الزجاجيةِ، كعادَتِه.. وكنتُ أتابعُ برامجَ التلفزيون.. أقلّبُ المَحَطّاتِ الوطنيّة (الفضائيّة السورية) (الإخباريّة) حيثُ كانتِ الغالية (يارا) ابنةُ أخي تستضيفُ (بَسّام أبو عبد الله) ليُعَلّقَ على (المؤتمَر الصّحَفيّ) لنائبِ وزيرِ الخارجيّة (الدكتور فيصل المِقداد) حَوْلَ تصريحاتِ المأفون (سعودالفيصَل) وزير الخارجية السعوديّ، حَوْلَ سوريا.. معَ أخيهِ الكبير، وسَيّدِه (جون كيري).. و (شام أف. أم) التي تذيعُ أغاني.. وشَريطُ الأخبارِ في أعلى الشاشَةِ، لا يَهمّني كثيراً.. إنما تقهَرُني الرّسائلُ الناعية في الشريطِ، أسفَلِ الشاشة، التي تزفُّ الشهَداءَ الشبابَ، والشهيداتِ، المَدَنيّينَ، والعَسكريّين.. والذينَ يُناشِدونَ أقارِبَهُم، أزواجاً، أو إخوةً، أو أبناءَ، أو أصدقاء، في الجيشِ العربيّ السوريّ، الذينَ لا يعرفونَ عنهم شيئاً، ومنذُ أشهُرٍ، أو سَنواتٍ، لم يرَوهُم.. يُناشِدونهم أن يُرْسِلوا إليهم خَبَراً يُطَمْئِنُ الأقارِبَ، والأحِبّةَ أنّهم مازالوا بخير.. هُمُ الذينَ يُقاتِلونَ (العِصاباتِ الإرهابيّةِ) التي لا تَرْحَم.. في المَناطِقِ الساخِنَة.. على امتدادِ جُغرافيا هذا الوطنِ الغالي (سوريا).. وأتابِعُ (المَنار) و (المَيادين) و ال (أن. بي. أن ) و (سَما) وغيرَها..

كنتُ أحاوِلُ طَرْدَ النّعاسِ عن جَفنيّ، على غيرِ العادَة، لتُتاحَ لي اعترافاتُ بَعْضِ الإرهابيّينَ القَتَلَة، بعْدَ نشرةِ الأخبارِ الرئيسيّةِ في الثامنة والنصف، مساءً.. والتي طالَتْ أكثَرَ من ساعة، على شاشَةِ (الفضائيّةِ السورية).. لم أستطِعْ إكمالَ المُشاهَدَة.. على أمَلِ أن تُعادَ كثيراً، لشِدّةِ أهَمّيّتِها.. وقُمْتُ للنومِ، هنا على هذا السّريرِ الذي أكتبُ من فوقِهِ، وأنا مُستلقيَةً، نصفَ استلقاءة، أغطّي نصفَ جَسَدي بالبطّانيّةِ الحمراء المُزَهّرَة، وتحتَها اللحاف المَصنوع من مادّةِ (الدّيكرون) الذي اشترَتْ لنا الغالية أختي، اثنينِ منهُ، منذُ سَنوات، ودَفَعَ لها زوجي ثَمَنَهما.. كما البطّانيّاتِ، أيضاً.. فهيَ في (طرطوس) المَدينة.. وتعرف ما في السوق،أكثر مما نعرف.. من أشياء نحتاجُها.. ونحن في القرية التي تبعد عن (طرطوس) أكثر من خمسةٍ وثلاثينَ كيلو متر، شرْقاً.. وهيَ التي اشتَرَتْ لنا، أيضاً، عِدّةَ أمتارٍ منَ القماش القطنيّ الجيّد.. أبيض مُقلّم بالزهريّ، والسماويّ، والأخضر.. حيثُ خِطْتُ أنا على الماكينة اليابانية (جوكي) التي أحضَرَها لي أخي الأغلى، ب (ألف ليرة) – على ذمّته – قبلَ وفاتِهِ بحَوالي عام.. رحمه الله…….. الحمد لله….. بحجّةِ أنهُ سَمِعَني – مَرّةً – على ما يظنّ.. أقولُ أنني أرغبُ أن تكون عندي ماكينة خياطة.. وأحضَرَ لبيت عَمهِ، أهل زوجته، ماكينة مُشابهَة..

خِطْتُ عليها (البَرادي ) ما قبل الحاليّات.. وأربع (مَلاحِف) على الأقَلّ.. و ستّة شراشف، أو ثمانية.. من نفس القماش القطني المقلّم.. ومن قماشٍ آخر مقلّم بالأبيض والسماويّ.. وعِدّة أوجُه للوسادات، وللديفونات.. وعدّة أكياس لاستعمالاتٍ مُتعَدّدة.. وأكياس لتصفية اللبن (لبنة).. و(حرّاجات) و (نزّالات) وأطراف أغطية طاولة السّفرة، وغطاء للتلفزيون عليه كشاكش من الأمام في الأسفل.. وطرّزْتُ بالإبرة الرفيعة، على قماش طاولة السّفرة، القطنيّ الناعم، ذي اللون السّكّري، عِدّةَ رُسومٍ لأغصانَ خضراء.. و ورود مُلوّنة ناعمة.. وعَصافير.. كانتْ جميلة جداً.. ومن تصميمي وتنفيذي.. تُشعِرُ من يراها بدفءِ الأحلام..

تجاوَزَتِ الساعَةُ الرابعَةَ، فَجراً..

سأحاولُ أن أنام..

تُصبِحينَ بألفِ خيرٍ.. يا أمي.. ويا كُلّ أحِبّتي.. وكُلّ الطّيبينَ في هذا العالَمِ الجميل.. رُغمَ قُبحِه..!!

ابنةُ أخي.. ابنُ أخي..

كلّ عامٍ وأنتما وأهلَكُما، وأحِبّتَكما.. بألفِ خيرٍ، وصحّةٍ، وعافية، وسلامة.. وكَرامَة مُصانة..

أيها الغوالي..

فجر الثلاثاء /5/11/2013م.

_________________________________________________________

الساعةُ الآن، تقارِبُ الثانيةَ عشرة، وعشرينَ دقيقة، من ظهرِ يومِ الخميس، الحادي والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) 2013م..

أجلسُ الآنَ على (الكنباية) ذات اللون الخَمريّ، المُوَشّى بالذّهَبيّ.. القريبة من زاويةِ الصالون الغربيّة، المُلاصِقة لغرفةِ النومِ، في بيتِنا في (الضَّهْر) مُقابلَ بابِ الغرفةِ الوُسطى (أوضة بيت عمي) التي أنامُ فيها منذُ عِدّةِ أشهُرٍ، على السّريرِ المعدنيّ القديمِ، والمَتين، الذي ساعَدَني ابنُ أخي الغالي، بإحضارِهِ من غُرفةِ النومِ القديمةِ، التي تفصلني عنها الآن، الغرفة الوُسطى، والمَمْشى.. الأبوابُ الثلاثةُ مَفتوحَةٌ أمامي بشكلٍ مُستوٍ، يتيحُ لي أن أرى بعضَ ما في غرفة النوم القديمة.. التلفزيون مَفتوحٌ على (تلفزيون الخبَر).. (وديع الصافي) يغنّي (تقشعْ عريشة وبااااب.. بفَيّتا نلوي.. حلوة بإيدا كتااااب.. سَلّمْ على الحلوة.. ).. و (عازار حبيب) ينشِد (شو قولِكْ.. )..

سأخبرُكِ بما حَدَثَ معي اليوم..

استيقظتُ قبلَ السابعة، صباح اليوم.. مع أنني لم أنَمْ سوى بَعْدَ الثالثة صباحاً.. كنتُ أتصَفّحُ الفيسبوك..

نَهَضْتُ.. أجرَيْتُ أعمالَ الصباحِ الروتينيّةِ، المُعتادَة.. ثمّ نشَرْتُ ما تبَقّى منَ الغسيلِ المُلَوّنِ، الذي لم تُنْهِ الغسّالةُ الآليّةُ غَسْلَهُ حتى وقتٍ متأخّرٍ منَ الليلةِ الماضية، نتيجَةَ انقطاعِ الكهرباء لفتراتٍ مُتواتِرَة، تطولُ لمدّةِ أربعِ ساعات.. ثمّ يعودُ التيّارُ لمدّةِ نصفِ ساعة.. أو، ربما لحظة.. ويعود للإنقطاع.. وهكذا… كتبوا على (الفيسبوك) أنّ ذلكَ ناتجٌ عن (عطلٍ في مَحَطّةِ “ضهْر صَفرا”..)..

بعدَ نشرِ الغسيل.. لبستُ ثيابي.. وحَمَلْتُ حقيبتي.. ونزلتُ، بشوقٍ، ورَغبَةٍ كبيرةِ، إلى (بين الناس) (العالم الآخر) (الصّاخب).. الذي يُشعِرُني بالحياة.. إذ، أنني بقيتُ في المنزلِ كلّ نهارِ الأربعاء.. كَنَسْتُ، بالمكنسة الكهربائية، وجَليتُ بعضَ الصحون.. و وَضعْتُ بالغسّالة، ثمّ نشَرْتُ، بعضَ الغسيلِ المُلوّن.. وكتبتُ قصّةً، كانتْ تُلِحُّ عَلَيّ من سنوات.. اتصَلْتُ بصَديقتي التي اتصَلَتْ بي على الخَلَوي، تتفقّدُني – كالعادة – فاتصَلْتُ بها على الأرضي.. وأخبَرْتُها بما عَملتُ.. وبأنني لن أنزلَ اليوم، كي لا تتبَدّدَ شُحْنةُ الإندفاعِ لكتابَةِ القصّةِ التي تشغلني.. ثمّ عُدْتُ، واتصَلتُ بها لأخبرَها أنني أنهَيتُها.. ثماني صَفحات على الدفترِ الزهريّ، ذي الغلافِ السّميك، والجميل.. لكنّ مِرْفَقَ يَديَ اليُمنى، مَكانَ الكَسْرِ القديمِ، يؤلمُني جداً.. نتيجَةَ تثبيتِ يدي في وَضْعٍ ما لمُدّةٍ طويلة، وشَدّ عَضلاتِ يديَ المُتوَتّرة، لكي أنهي القصّة..

اتصَلَتْ معي،مساءً، صديقتي الغالية، المهندسة.. سُرِرْتُ جداً.. (لقد كَسَرَتْ وَحْشَتي).. كنتُ قد مَلَلْتُ جداً.. وشَعَرْتُ بالعُزلةِ الشديدة – كالعادة – نتيجَةَ بقائي في البيتِ كلَّ اليوم.. ونتيجَةَ انقطاعِ الكهرباء لساعاتٍ طويلةٍ، لم تسمَحْ لي أن أقرأ، أو، أفتحَ التلفازَ، إلاّ قليلاً.. أو، حتى أن أنقُلَ القصّةَ منَ الدفترِ، إلى شاشَةِ اللابتوب الجديد، الذي اشتراهُ لي الغالي إبن أختي الأغلى، ب (52) ألف ليرة سورية.. مُستعمَل لمدّة قصيرة.. انتهى شَحْنُ بطّاريّتِهِ، قبلَ أن يعودَ التيّارُ الكهربائيّ.. نَهَضْتُ عنِ (الكَنَباية) العَريضة، المُقابِلة للتلفزيون.. لم أكُنْ قد أشعَلْتُ أيّةَ وَسيلةِ إضاءَةٍ، لأنني لم أتوقّع أن تطولَ مُدّةُ انقطاعِ التيّارِ، أكثرَ منْ ساعَتين.. أغلقْتُ اللابتوب، وقُمْت.. حاوَلْتُ أن أتلَمّسَ طريقي، لأدخلَ إلى غرفتي، لأحضِرَ (الكهرباية) التي وَضَعْتُها في (البريز) للشّحن.. أوقِدَها.. أو أوْقِدَ شَمْعَة.. لكنّني لم أستَطِعْ رؤيَةَ غيرِ السَّواد.. كانتْ عينايَ مُجْهَدَتانِ، لم تستطيعا التأقلُمَ معَ العتمَة، وأن تفتَحَ حَدقتيها، إلاّ بَعْدَ أكثر من دقيقة.. حاوَلْتُ خلالَها الإعتمادَ على ذاكرتي، لأخرُجَ إلى الشّرْفةِ الزّجاجيةِ، وأنظرَ نحوَ الخارِج.. هل الكهرباء مقطوعةٌ – فقط – عن قريتنا..؟! أم عن بقيّةِ القرى..؟! هل البابُ الحَديديُّ مُغلَقٌ بشكلٍ جيّد..؟! وقبلَ أن أصِلَ إلى مُحاذاةِ البابِ الخارجيِّ، سَمِعْتُ صَوتَ خطواتٍ تصعَدُ الدّرَج.. سألتُ : (- مَن..؟! ).. طمأنني أنهُ زوجي.. فتحْتُ لهُ البابَ، بعدَ أن (استَضْوَيْتُ ).. كانتْ أشِعّةُ القمَرِ تغمُرُ الأرضَ، والسماء.. و الجَوّ ساحِر.. دَخَلْتُ خَلفَه.. أشعَلْتُ الشّمعة.. أحضَرْتُ (الكهرباية).. أخبَرْتُهُ بما قرأتُ على (الفيسبوك) من اعتداءاتٍ انتحاريّةٍ، وتفجيراتٍ في مُختَلَفِ أنحاءِ الوطَنِ الغالي.. وسُقوط شهداءَ، وجَرحى.. خصوصاً في (القَلَمون) حيثُ استهْدَفَ انتِحاريٌّ (مَشفى دير عطيّة، الوطنيّ) (مَشفى الباسِل).. واستُشهِدَ العَديدُ منَ المَدَنيّين، والعَسكَريّين.. بَعْدَ أن كانَ الجيشُ العربيُّ السوريُّ قد حَرّرَ (المُراسِل المَيدانيّ للفضائيّةِ السورية.. المُذيع “جَعْفر أحمد”.. ) و طاقَم الفريق الإعلاميّ كُلّه..

سألتني صديقتي، إن كنتُ أنزلُ إلى عندِ صَديقتِنا المُشتَرَكة.. قلتُ :

– أنزلُ أغلبَ الأيام.. لكنني اليوم لم أنزل..

قالتْ أنّ لدَيها الكثير منَ أوراقِ المُذاكَراتِ التي عليها أن تُصَحِّحَها، وتضَعَ عليها العلاماتِ المُناسِبة.. وأنها وَعَدَتْ زوجَة أخيها أن تشتغل لابنها كنزةَ صوف.. فهل أستطيعُ أن أساعِدَها بها.. لأنها مشغولة..؟! وافَقْتُ.. بكلِّ سُرور..

المُهَمّ.. نزلتُ اليومَ، سَيراً على الأقدامِ إلى (الشيخ بدر) عيادَة صَديقتي.. لم أجدها.. اليوم عندها مُناوَبة في المَشفى.. إسعاف..

مَرَرْتُ إلى بيتِ خالي (الشيخ ابراهيم) اشترَيْتُ أربعَ بيضاتٍ بَلَدياتٍ، بمئةِ ليرة.. التقَطْتُ عِدّةَ صُوَرٍ، بواسِطَةِ كاميرا الخَلَوي، لبعضِ الأزهارِ، والوُرودَ الرائعةِ التي تزيّنُ مَدْخَلَ بيتِهِم منَ الجانبَين.. مَرَرْتُ إلى بيتكم – بيتنا، يا أمي.. وقبلَ أن أمُرّ.. كانتْ جارَتُنا أمامَ بيتِها، تكنُس.. وتُسَوّي بعضَ الترابِ، لتزرَعَ بعضَ الوُرود.. دَمَعَتْ عيناها، وهي تتذكّرُ أبناءَها الثلاثة، الذينَ يخدمونَ الوطنَ معَ الجيش.. وأنها قَلِقة عليهم جداً.. خصوصاً أنّ أحَدَهُم، قد غابَ عنِ الوَعيِ، لفترةٍ – كما أخبَرَها زملاؤه – عندما سَقَطَتْ قذيفةٌ قريبةٌ جداً منهُ.. حيثُ يخدمُ في شِمالِ البلاد..

فتَحْتُ البابَ.. بابَ المَدخَلِ الحَديديِّ الخارِجيّ.. ثمّ، بعدَ عِدّةِ أمتارٍ، فتَحْتُ البابَ الخشَبي…. آااااخ.. يا أمي.. آخ.. يا أهلي..!! بالأمسِ، كانَ هذا البيتُ عامِراً بأهلِهِ، وبالجيرانِ، والمُحِبّين، والمَعارِف، وأصحاب الحاجات.. واليوم.. لا أحَد..!!

يبدو أنّ الغالي إبن الأغلى، قد نامَ الليلةَ الماضيةَ هنا، قبل أن ينزلَ إلى عمله.. وأنّ أخي (عَمّه) سهرَ معَ بعضِ أصحابهِ هنا أيضاً (علي) أو غيره..

أغلقْتُ الباب.. ونزلتُ إلى (الخربة) أغلب المزروعات كانت ذابلةً، نتيجةَ الجَفافِ الذي مازالَ يُقيمُ منذُ أكثرَ من شهرٍ ونصف – ربما -.. قلعْتُ بَعْضَ (الفجلات) وقطَفْتُ باقةَ بَصَلٍ أخضر.. وهندباء بَرّيّة.. وبقدونس.. وعدّةَ قرونٍ صغيرةٍ من الفليفلة.. قلَعْتُ بَعضَ الأعشابِ القريبةِ من بعضِ شَتلاتِ الخَسِّ، والمَلفوفِ، التي تَحَدّتِ الجَفافَ، وصَمَدَتْ.. تجَذّرَتْ أكثر.. بانتظارِ المَطر..

صَعَدْتُ الدّرجاتٍ الإسمنتيّة إلى الشرفةِ الغربيّة.. نزلتُ الدّرجاتِ الثلاث التي وَصَلَتني بالبَرَندة (الشُّرْفة) المُبَلّطة، التي تطلّ من الجنوبِ على (الصالون) ومن الشمالِ على (الدّوّارَة)……. كم كنا نجلسُ عليها، يا أمي.. ونشربُ المَتّةَ، معاً.. أو، على الأغلب، مع الكثيرين، والكثيرات.. ونتغدّى، أو نفطر، أو نسهر.. لكن…. الحمد لله.. هذه هيَ الدنيا..

أخرَجْتُ من حقيبَةِ كتِفي، كيساً.. وَضَعْتُ فيهِ ما جَنَيْتُ منْ خضرة، بالإضافةِ إلى ثمرةِ برتقال، هي الأولى التي قَطَفتُها منَ (الخربة) هذا الموسم.. رغمَ أنها غير ناضجة بشكلٍ كافٍ.. سآكُلها بعدَ قليل.. إن شاء الله..

أغلقتُ بابَ المَدخَلِ الحديديّ الخارجيّ.. وبَرَمْتُ على يميني.. دَخَلْتُ (دكّان) بيت أخي.. بعدَ أن ألقَيْتُ التحيّةَ عن بُعْد.. يعني (دَستور).. أو.. (هل أنتم هنا..؟! أنا حَضَرْت).. أطَلّتْ زوجتُه.. استفسَرْتُ منها عن أحوالهم، وعن أخيها، كيف صارتْ ساقُه.. طمأنَتني أنهم بخير.. حَمَدْتُ اللهَ، وأخبَرْتُها بما جنيتُ من (الخربة) وسألتها إذا كانت تريدُ شيئاً من السّوق، أجابت شاكرةً بالنّفي ..أكملتُ طريقي إلى (الشّيخ بدر ) ،كانت عيادة صَديقتي مُعتمة ما تزال الكهرباء مقطوعة ..بانتظارها مريضة ، ومعها مرافقتها وطفلٌ صغير.. اشتريتُ من ممرّضة د. محمد (ربطة خبر) قالت أنّها زائدة عن حاجتهم ، ناولتُها (15) ليرة .. شربنا في العيادة مع ممرّضة الدكتورة، قليلاً من المتة مع الزّهورات والسّكر.. الإبريق مسخّن على مدفأة المازوت الصغيرة ..مع أنّ الجوّ حارّ نسيبياً في الخارج إلّا أنّ العيادة باردة .. كنتُ قد مررتُ إلى محل أولاد المرحوم جارنا، طلبتُ(فلافل) بمئة ليرة ..أخبرني هو و إبن الشيخ علي حسن (ابن عمتك يا أمي) أنّه يحتاج إلى عشر دقائق ليحضّرها ، أعطيتُه المئة ليرة ووعدني، أنّه سيناولني إيّاها في عيادة الدّكتورة لأنّه سينزل مع صديقه على (الموتور) بعد قليل إلى السّوق ..شكرتهما وأكملتُ طريقي .

ناولني الشابُّ النحيلُ المحترَمُ الكادِح، الفقير جداً، أقراصَ الفلافل السّاخنة ..أكلنا منها جميعاً..لم تقبل المريضةُ ومرافِقَتُها مشاركتنا الطّعام كما تشاركنا الأحاديث العامّة والخاصة قبل أن تحضر الدكتورة من المشفى تبدو عليها مظاهر التّعب ، عاينَتهما وخرَجتا ..جلستْ تشرب المتة مع الزّهورات معنا وتأكل قرصاً أو أكثر من الفلافل ..تحدّثنا عن ابن أخيها الصغير الذي صادَفتُهُ في طريقي إلى عندها، وهو صاعدٌ من بيتهم إلى مدرسة القرية.. يحملُ قطّتهُ التي وجَدَها بعدَ أن كانت مفقودَةً منذ مدّة.. كانَ يبكي بكاءَ مقهورٍ، وهو يحضنُ قطّتَهُ، التي تلوذُ بهِ مُطمئنّةً، ويخبرُني قصّةَ فَقدِها، وأنا أواسيهِ، دونَ أن أعرفَ من هو.. وأنّ رفاقَهُ يضحكونَ عليه..

– والله.. والله والله، ياخالتو.. عندما رأتني، طارتْ نحوي، وراحت تتمَسّح بقدَميّ.. والله والله.. لم تصدّق نفسَها، عندما  شَمّتْ رائحتي، أنني أنا..!! والله والله……………..

..ثمّ أتت أكثر من مريضة ..عاينتهنَّ ..وكنتُ أنا قد اتصلتُ بنقابة المعلمين وأخبروني أنّ وصفات شهري 9 و10 قد أُحضِرتا من طرطوس وكذلك الصّورة من الشهر السابع .. سررتُ جداً لأنّ حقيبتي لم يعدْ بها أكثر من خمسين ليرة ..وعليّ أن أردّ في آخر الشّهر ثلاثة آلاف ليرة لابنة أغلى وأخلَص صديقة عندي.. كنتُ قد استدنتها منها على هذا الأساس عندما زارتني مع بناتها الغاليات الثّلاث والغالية ابنة عمتي وأمّي الثّانية (ندّة) رحمها الله ..أخذت النقود واشتريتُ علبة دواء ب 225 ليرة وصبغة للشّعر ب 400 ليرة .. ركبتُ السّيارة مع الدّكتورة إلى عند (الشّيخ علي سلمان) ..هي تابعتْ طريقَها إلى المشفى حيثُ عملها، وأنا تابعتُ إلى هنا سيراً على الأقدام في حقيبة كتفي البيضات الأربع وربطة الخبز وكتاب (عذراً سورية )للأستاذ (غسان كامل ونّوس).. ودواء، وأشياء أخرى .. سألتُ شرطيَّي السّير اللذين يقفان في وسط الدّائرة التي تفصل تفرّعات الطّرق الأربعة : “ما هذه المنشورات التي ألقتها الطّائرة المروحية التي كانت تحلّق على علوٍّ منخفض جداً عندما كنتُ في الصيدلية؟” ..أجابني أحدهما :”من أجلِ العفو ..من أجلِ العفو”..

حمدتُ الله وأكملتُ طريقي صعوداً على مهل إلى هنا ، وعند (المبرّة ), كانت نساءٌ أغلبهنَّ يرتدينَ الأسود ينتظرنَ ويتحادثنَ ويتفقدنَ أوراقاً بين أيديهنَّ وسيارتان على جانبي الطريق يجلسُ في ظلّهما بعضُ الرّجال ..تأكدتُ أنّهم جميعاً ينتظرون (المعونات) من الهلال الأحمر العربي السّوري ..هم وهنَّ على الأغلب أهالي شهداء أو جرحى أو مفقودين أو ..أو ..أو …

آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا سورية

كان زوجي يمسك المكنسة الكهربائية ليلتقط بواسطتِها ما نزلَ على السجّادة، والكنبايات في الصالون، نتيجةَ تركيبِ مِدفأةِ الحَطَب.. سألتُهُ :

– رَكّبتَها بمُفرَدِك..؟!

قال :

– لا.. أنا وأخي..

قلتُ :

– ألله يعطيكم العافية.. ممتاز.. حتى لو كان الطقسُ حارّاً.. هذا وقتُ تركيبها.. طلبْتُ منهُ أن يتركَ تنظيفَ السجّادَة.. أنا أنظّفُها بعدَ أن أبَدّلَ ثيابي.. لكنّهُ نظّفَ قليلاً، وترَكَ الباقي.. لأنّ قريبَهُ سَيَحضُر ليُصْلِحَ بَعْضَ مَفاتيحِ الكهرباء.. بَدّلْتُ ثيابي.. غَسَلْتُ وَجهي، ويدي، وجَفّفتُهُما بالمنشفة.. تناوَلْتُ دَفتري هذا، وقلَمي هذا.. نَفَضْتُ بعضَ الغُبارِ والكلسِ عن الكنباية، وجَلَسْتُ أكتب..

تغدّى زوجي.. وهو الآن مازالَ مُستلقياً على الديفون مُقابِلَ الصالون الذي يُطِلُّ على الشّرْفَةِ الزجاجيّة.. نائماً.. وأنا أكتب.. بل، أنهَيْتُ ما أرَدْتُ كتابَتَهُ الآن.. و……. إلى اللقاء……. يا أمي…….

الواحدة وستّ وثلاثين دقيقة..

سبع صفحاتٍ، ونصف.. يؤلمني مكانُ الكَسْرِ في ساعِدي الأيمن.. لكنني سعيدة.. لأنني.. كتَبْت…

ف….. إلى اللقاء……. ياغالية……… أمي………….

_________________________________________________________

اليوم هو، أو، كانَ، الخميس الثاني عَشَر من كانون الأوّل عام 2013م

لأنني بدأتُ هذهِ السطور، والساعة تشيرُ إلى الثانيةَ عشرةَ تماماً، من منتصَف ليل الخميس – الجمعة.. أجلسُ على الطرّاحة الإسفنجية البُنّيّة المُستطيلة، التي أحضَرَها زوجي مع رفيقتِها، منذُ سنتين.. بعْدَ أن أوقَدْتُ مِدفأةَ المازوت في غرفتي التي أنام بها منذُ أشهُر.. الدّفءُ يَصِلني منها حتى رُكبَتَيّ، وبَطني.. لكنّهُ لا يَصِلُ إلى كلّ جسميَ، المُنكَمِشِ منَ البَرد.. قطَراتُ المازتِ المُسْرِعة، تنزلُ منَ الأنبوبِ في المدفأة.. الإبريقُ المَليءُ بالماءِ فوقَها.. وَضَعْتُ ظَرفاً منَ الشاي في رَكْوَةِ ستنلس، ومِلعَقَة للتحريك.. أحضَرْتُ كأساً زجاجياً صغيراً.. وجَلَسْتُ أكتبُ مادَوّنتُهُ قبلَ قليل، عندما كنتُ في الفراش، على جهازيَ الخَلَويّ، وسأزيدُ عليه..

(أغلقتُ صفحتي على الفيسبوك، وأطفأتُ الجهاز.. استلقيتُ في سَريري.. تدثّرْتُ ببَطّانيّتين ولِحاف.. وما زالَ رأسيَ المَكشوفُ مُسَقّعاً.. ورُطوبَةُ شَعْريَ الذي لم يجفّ جيداً بعدَ الحَمّام، رغمَ جُلوسيَ الطويل قُربَ مدفأةِ الحَطَبِ في الصالون، أحاولُ أن أشاهِدَ (الفضائية السورية) أو (المَنار).. دونَ جَدوى.. تابَعْتُ، بشَكلٍ مُتَقَطّع، الأخبارَ على القناتَينِ الأرضيّتين.. الفضائيّات التي أريدُها، غائبة.. التيّارُ الكهربائيُّ يتقطّع.. مِدفأةُ الحَطَبِ بحاجَةٍ مُتواصِلةٍ لدَعْمِها بالمزيدِ، كي تمنحَنا الدفءَ المَطلوبَ، في هذا الجَوّ الكانونيّ الصّقيعيِّ (أليكْسا) تضربُ المنطقة.. الثلجُ يُغَطّي الجبالَ العالية، والصّقيعُ يَصِلُ إلى قُرْبِ الساحِل، والرّياحُ الشرقيّةُ تعصِفُ بسُرْعةِ (70) كم في الساعة، على الأقَلّ..

أردُّ الغِطاءَ جيداً على كتفي المُسَقّع، لأكتبَ بواسطةِ إبهاميَ الأيمَنِ على جهازيَ الخَلَويّ.. أظنُّ أنني سأمرَضُ منَ البَرد، إن لم أشعِلْ مِدفأةَ المازوتِ القريبةِ من سَريري….. سأفعَل.. )

أصُبُّ الآنَ كأساً منَ الشايِ الساخِنِ، منَ الرّكوَةِ، في الكأسِ الزجاجيّةِ الصغيرة.. صناعة وطنيّة.. سَحَبْتُ سِلْكَ الكهرباءِ من جهازِ اللابتوب، بعْدَ أن تَمّ شَحْنُه، وانطفأ الضوءُ الأحمرُ الصغيرُ في وَسطهِ من الأمام..

سأشرَبُ الشايَ، وأنا أكتب.. أكادُ أشعُرُ بالدفْءِ قليلاً.. لكنّ ظهري مازالَ بارِداً..

أحبَبْتُ أن أدَوّنَ بعضَ ما يشغلُ فكري.. أرخَيْتُ شَعري، بعدَ أن كنتُ جَمَعْتُهُ بِبِكلة، عَلّهُ يُساهِمُ في تدفئةِ نَقرَتي، بعدَ أن جَفَّ..

قبلَ أن آتي إلى هنا، كنتُ قد قرأتُ خبَراً، على صفحة (الوطن في العَينين) على الفيسبوك، نقَلهُ أحدُ أعضاء الصفحة.. يقول أنّ الصديقة المهندسة السورية، تنعي إليكم شهيدَةَ الوطن المهندسة (ميسون محلا) وزوجُها المهندس (نزار حسن) وأبناءَهما.. وأنّ الشهيد المُهَندس، استُشهِدَ هو وعائلتُهُ كلّها.. وكانتْ آخرُ جُمْلةٍ يتلفّظُ بها، قبلَ استشهادِه : (لقد وَصَلوا إلى بَيتي.. ولم يَعُدْ مَعي سِوى قنبُلة ) وألقى القنبلة على بَيتِه.. فاستُشهِدَ في الحال، مع عائلتِهِ كلّها.. وقَتَلَ جميعَ الإرهابيّين من (جبهة النّصرة) الذينَ دَخَلوا بيتَه.. أو، كادوا……

كتَبَ (عادل سَمارة) من الأرضِ المُحتَلّة : ( إنّ سوريا ستنتصِر.. ولا يُمكنُ إلاّ أن تنتصِر.. مادامَ فيها رجالٌ يُفَضّلونَ المَوتَ، على انتِهاكِ الكرامة..).. وكَتَبْتُ أنا (إنّ هذهِ هِيَ سوريا الكَرامَة، والإباء، والشّرَف.. عاشَتْ وَطننا الغالي سوريا.. عاشَتْ.. عاشَتْ.. عاشَتْ..) وتَرَحّمْنا على الشهداء.. وألقَينا الشتائمَ على الإرهابيّين القَتَلَة، وعلى داعِميهم..

وقد قالت لي – لاحقاً – إحدى الناجيات من مجزرة (مساكن عَدرا العُمّاليَة) أن الإرهابيين، (شَحَطوا) المهندسة (ميسون) التي قَدّمَت خدمات كبيرة للمُهَجّرين.. من شَعرها، وكانت إحدى ساقيها مقطوعة، أو أنهم قطعوها.. كانت ماتزالُ تنزف.. و(مَيسون) لم تَمُتْ بَعْدُ.. جَرّوها.. ثم رَبَطوها، ورَبَطوا غيرَها من الأحياء والأموات، بسيّارة شاحِنة، قادَها أحَدُ الإرهابيين.. وراحوا يجرّونَهم، ويُهَلّلون ويُكبّرونَ، وهم يدورونَ في الشوارع.. !!!!!!!!

_________________________________________________________

أمي..

كنتُ قد أفلَحْتُ في تنزيلِ مجموعَةٍ من الصّوَرِ من جهازيَ الخَلَويّ، على اللابتوب.. كما عَلّمَني الغالي ابنُ أختي، أثناءَ زيارَتي لهُم في طرطوس.. حيثُ نزلْتُ مع أبوَيهِ الغاليَين.. سَنَدي دائماً.. الجمعة الماضية، وذهَبْنا معاً إلى بيتِ الغالية أخته.. لعِبنا معَ الصغير الغالي، حفيدنا الأوّل، الذي أكمَلَ عامَهُ الأوّلَ في التاسِعِ من هذا الشهر.. بعْدَ عَودَتي بيوم.. والسّبَبُ في نزولي إلى طرطوس، أنّ الإعلاميّة (صَباح ابراهيم) كانتْ قد دَعَتني في مُحادَثة على الفيسبوك، منذُ عِدّةِ أيام، لتُجري مَعي مُقابَلَةً إذاعيّةً مُباشِرَة، على أثيرِ إذاعةِ (أمواج) الرّسمية، لمُدّةِ ساعَةٍ كامِلة، من الثانية بعدَ ظُهر الأحَد، حتى الثالثة… ترَدّدْتُ قليلاً، بحجّةِ أنني لا أجيدُ التعبيرَ بالكلامِ، بقَدْرِ ما أجيدُهُ بالكتابة.. لكنّها شَجّعَتني.. وقَبِلْتُ، لأنني بحاجَةٍ إلى رَفْعِ مَعنويّاتي.. وإلى تغييرِ جَوّ..

انتَقَيْتُ صورَةً لكِ، ياغالية.. تجلسينَ على (البَرَندة) فوقَ الدّيفون الذي كنتُ قد أخرَجْتُهُ منَ الصالون، لنجلسَ عليهِ عندما نمَلُّ الجلوسَ في الدّاخِل.. كنتُ قد وَضَعْتُ فوقَ كَتِفَيكِ الحَبيبَين، قِطعَتَيّ قماشٍ، أغلَقْتُ إحداها على صَدرِكِ الحَبيب، بشَنكَلٍ مَعدنيّ.. وأنتِ ترتدينَ (جلاّبيّتِكِ) الخَمْريّةَ الصّيفيّةَ الطويلة، ذات الأكمامِ القصيرة.. هِيَ الآن عندي، يا أمي.. لبِستُها في الصّيفِ الماضي، الذي أعقَبَ رَحيلَكِ ياغالية..

كم منَ الوقتِ مَضى حتى الآن، وأنتِ غائبَة عن عَينَيّ يا حَبيبة.. سأحْسب..

أمي.. مَعقول..؟!  مَعقول، صارَ لكِ سَبعَةَ أشهُرٍ، ونصف غائبة.. يا أمي..؟! أمي….

كيفَ استَطَعْتِ ذلك..؟!

آ.. أعرف… لم ترحَلي.. أنتِ مُقيمَةٌ، حاضِرَةٌ مَدى الدّهرِ، في كَياني، وفي وُجودي، وَ وُجودَ كلِّ مَن عَرِفَكِ، وأحَبّكِ، يا أمي.. أبناءَ، وبَنات.. أحفادَ وحَفيدات.. أقارِبَ، وأباعِد.. جيران، ومَعارِف…. هنيئاً لكِ، أيّتها الحاضِرَةُ دائماً.. الحَيّة في نفوسِنا جميعاً.. هنيئاً منَ القلب..

بَرَدَتِ الشاي.. أنزلتُ الإبريقَ، وَضَعْتُ مَكانَهُ الرَكْوَةَ على المِدفأة.. صارَ العَرَقُ يندّي جِسمي، حتى نقرَتي، يا أمي.. لكن، أحياناً تَلسَعُني نسمَةٌ، لا أعرفُ منْ أينَ تأتي.. على كُلٍّ.. الرياحُ تعصِفُ الآن….. كم أحُبُّ هذا الجَوَّ يا أمي..!!

نقَلْتُ، ظُهرَ اليوم، على اللابتوب، خاطرة كنتُ قد كتَبْتُها صَيفَ 1985م بعُنوان (حَلّقي) كنتُ قد أرسَلتُها معَ قصيدتينِ، في أوّلِ رسالَةٍ عَبرَ البريدِ، إلى (عالَمِ الأدَب).. أحِبُّ هذهِ الخاطرة، يا أمي.. أما القصيدتين، فلسْتُ مُضطرّةً هنا أن أفشي سِرّهُما، وأبوحَ بمَضمونِهِما.. أو، على الأقلّ، مَضمون إحداهُما.. لأنني قرأتُ إحداهُما مَرّتين، أثناءَ اللقاءِ الإذاعيّ المباشر…

إلى اللقاء يا أمي……………….!!

__________________________________________________

أنا الآن في بيتِكُم، يا أمي.. بيت أهلي.. بيتِنا..

اليوم هو الإثنين الثالث والعشرين من كانون الأول، ديسمبر، عام 2013م..

الساعة الآن تُقارب الثالثة والربع بعدَ الظهر.. الجَوّ في الخارِجِ مُشمِسٌ، وربّما أكثرُ دِفئاً منَ الأيامِ الماضية، حَسْبَ ما قالتِ النشرةُ الجَوّيّة، في (بانوراما طرطوس) على الفيسبوك، وتلفزيون (المَنار) و (الفضائيّة السورية)..

استيقظتُ مُبْكِراً هذا الصّباح.. لبستُ ثيابي.. وخَرَجْتُ إلى الشُّرْفةِ، في بيتنا في (الضَّهْر).. كانتِ الساعَةُ حوالي السابعة.. زوجي، على غيرِ عادَتِه، لم يكُنْ قدِ استيقظ.. ربّما يشعُرُ بالدّفءِ، لأنهُ شَغّلَ المُكَيِّف الصغير الذي كنتُ قد اشترَيْتُهُ للمَحَلّ، بتشجيعٍ من أخي الغالي، بثمانية عشر ألف ليرة (18000) ل.س.. دَفَعتُها لهُ بالتقسيط، كلّ شهر ألف ليرة.. عندما كانَ يُجَهّزُ مَحَلّهُم (لبيعِ الأحذية) الذي أسماه باسمِ ابنةِ أخيه الأغلى.. المُقابل لمَحَلّي (الحِسان) في الشارعِ الرئيسيّ من مدينةِ (الشيخ بدر) (شارع زكي الأرسوزي).. والذي ترَكَهُ الغالي أبي لأنتقِلَ من مَحَلّيَ القديم، تحت بيت أخي الأصغر.. ذلكَ المَحَلّ الواسع الكبير، الفقير جداً…………

– ماذا ستُسمونَ المحَلّ يا أخي..؟!

– أنتِ التي ستُسْمينَهُ، كما ترغبينَ، يا فاطمة..

– أنا..؟! لا لا.. أسموهُ كما ترغبون..

– لنْ يُسميَهُ أحدٌ سواكِ، يا أختي.. اختاري اسماً تحبّينهُ أنتِ.. على راحَتِك…

لم أصَدّقْ، يا أغلى الغوالي..

أنا.. أنا سأختارُ شيئاً، على راحتي.. وكما أرغب..؟!! وبدونِ ضغطٍ من أحَد…؟!!!!!

لااااااااااا………… يا (اسماعيل)..!!!

أغصّ، ياغالي.. حبيب قلبي ونور عيني.. بل، أبكي………….

(ولك، ليش قتلوك……….؟!!!! ليييييييش…………؟؟؟؟؟!!!!! )

لا أحدَ في الكونِ، يقدرُ أن يُقنِعَني أنّ وفاتَكَ كانتْ مجرَّدَ.. صُدفة……………!!!!!! أبداً يا أخي…………….

كتبتُ، مرّةً، وبعد ارتقائكَ بسنوات.. ما معناه :

( أخي.. ياقطعةً من ذاتي، مَدفونةً تحتَ التراب………………… عرفتُ الآنَ لماذا يُقدّسُ الناسُ تُرابَ بلادِهم.. لأنهُ يضمّ في حضنهِ، قِطَعاً من أرواحِهم.. أغلى الناس……………………إلخ)

 

أمي..

سأحكي لكِ كيفَ صارَ عندي مَحَلٌّ لبَيعِ الألبسَةِ النسائيّة، والولاّديّة الجاهزة، والأحذية.. وكيفَ حَوّلْتُ جزءاً منهُ إلى مَكتَبَة..

هل تسمَحينَ ياغالية..؟!

أعرفُ أنّ ما يُسعِدُني، يُسعِدُكِ، بالتأكيد، يا أمي..

مدفأةُ الحَطَبِ في غرفتكُما، يا أبَوَيّ الغاليَين، أماميَ الآن.. تتوقّدُ داخلها عِدّةُ قِطَعٍ منَ الحَطَب (قْرامي) أحضَرَها أخي.. على المدفأة إبريقُ المَتّة، والطنجرة الستنلس الكبيرة، التي فقَدَتُ غطاءَها منذُ مُدّة، بَعْدَ رَحيلِكِ ياغالية..!! (أتعرفينَ أينَ وجدتُه..؟؟!! هههه اضحكي علَيّ..!!.. وجدتُهُ بين الغاز، والحائط..!! ههه).. فيها قليلٌ منَ القمْحِ المَقشور، يغلي.. سأحضِرُ منَ البيت في (الضّهْر) بعضَ الحمّص المَسلوق، الذي أضَعُهُ في أسفلِ البَرّادِ الصغير، وأغليهِ مع (القَمْحِيّة) ليُصبِحَ طعاماً كاملاً.. اللابتوب على الطاولة الكبيرة، على يَساري.. وَصَلتُهُ بالشاحِن، قبلَ قليل (أمي.. هناكَ صَوتُ سيّارةِ إسعاف، ورَشقاتُ رَصاص.. أكيد شَهيد..).. شَهيد ل (بِشْمِس).. رحِمَهُ الله.. عَبَرَ قريَتَنا الغالية، بجَنازَةٍ ليستْ كبيرة.. لم أستطِعْ أن أرى صورَتَهُ الكبيرة، التي تحمِلُها سَيّارة شاحِنة، يُمسِكُها منَ الجانبَينِ، شابّانِ صغيران…… آآآآآآآآآآآآآآخ.. يا أمي… الحمد لله…..

قبلَ ساعاتٍ، أذاعوا في الجامِعِ (جامِع الشيخ علي سلمان) خَبَرَ استشهادِه..

أمي.. اللابتوب على الطاولةِ البُنّيّةِ الكبيرة، على يساري.. وَصَلتُهُ بالشّحْنِ، عن طريقِ سِلْكٍ طويلٍ (كابل) يستمِدُّ منهُ التيّارَ الكهربائيّ.. لن أطيل.. سأحكي – كما قلنا – عنِ (المَحَلّ).. (الحِسان).. هَيّا.. و – كالعادَة – أخبِريني عندما تمَلّين..

أخبَرْتِني – ياغالية – في أحَدِ أيام عام 1983م على ما أظنّ.. أنّ أخي الأغلى، أخذَكِ بسَيّارَتِه التابِعَةِ ل (الدّولة) بعدَ أن قُمْتِ بالسلامَةِ، من عَمَليّةِ استئصالِ المَرارَةِ، عن طريقِ الجِراحة.. كانَ ينامُ عندَ قَدَمَيكِ، عندما يعودُ من عَمَلِهِ الشاقِّ جداً، والخَطير، وهوَ بالبوطِ العَسكريِّ، وبذّتِهِ العَسكَريّةِ، بقامتِهِ الفارِعَةِ، وأنتِ تتعافينَ بالتدريجِ، بعْدَ العَمَلِ الجراحيِّ.. ينامُ، أو يستلقي على السّريرِ الذي تستلقينَ فوقَهُ في المَشفى، بالعَرضِ.. رأسُهُ في آخِرِ السّريرِ، عند قدَمَيكِ.. وجذعُهُ، أيضاً.. أما ساقاهُ الطويلتان، فكانتا تمتدّانِ خارِجَ السريرِ، وتستقرّ قدَماهُ الكبيرتان المُحاطتانِ بالبوطِ العَسكريِّ الثخينِ، على أرضِ الغرفةِ.. بعدَ أن يكونَ قدِ اطمأنّ من الأطبّاءِ على صِحّتِك.. قد يسرقُ إغفاءَةً دافئةً، عندَ قدمَيكِ يا أمي.. ربما كانَ يستمِدّ من دِفئهِما الأمانَ والحَنانَ الذي فقَدَهُما، منذُ توَلّى مسؤوليةَ القيامِ بواجِبِهِ في حِمايَة الوطنِ الأغلى.. كانتْ آخِرُ مَهَمّاتِهِ، عَمَلَهُ كضابطٍ برتبَةِ (رائِدٍ) في (حَلَب).. عَمَلاً قاسياً، يحملُ منَ الخطورَةِ الشيءَ الكثير.. في تلكَ المَرحَلَةِ من هَيَجانِ (خُوّانِ المُسلمين) الذين ازدادَتْ شَراسَتُهُم، وأعمالُهُمُ العُدوانيّة، منذُ سَنوات.. قد تكونُ بعْدَ توقيعِ اتفاقيّةِ (كامب ديفد) الخيانية، بينَ (السادات) و (الكيانِ الغاصِب) عام 1979م..

وعندما قَرّرَ الأطبّاءُ أنّهُ بإمكانِهِم أن يُخرّجوكِ منَ المَشفى.. جاءَ الغالي.. واصطَحَبَكِ بسيّارَتِهِ، ليُنزّهَكِ، ويُطلِعَكِ على بعْضِ معالمِ (حَلَب) التي لم تزوريها من قَبْل.. كانَ أبي مُستَعجِلاً قدومَكِ، لكن، بعدَ أن يتأكّدَ الأطباءُ أن لا حاجةَ لبقائكِ تحتَ إشرافِهِم.. لكنّ أخي أخبَرَهُ أنّهُ سيُبقيكِ يَومَين، على الأقَلّ، عنده في (حَلَب)، للحيطة.. كنتِ سَعيدَةً، ومُندَهِشَةً منَ المناظرِ الجميلةِ التي ترَينَها من نافذةِ السيارة، التي كانَ يقودُها الغالي بنفسِه.. دونَ سائقٍ، ولا مُرافِق.. رُغمَ الظروفِ الأمنيّةِ الخطيرةِ التي كانتْ سائدة.. (آخ يا أمي.. لو تعرفينَ ماذا حَلّ بحَلَب، وبغيرِها منَ المُدُنِ والقُرى السوريّةِ الحبيبة.. بعدَ أن غزَتها قطعانُ المَغولِ، والتتارِ والتكفيريّينَ الهَمَج الإرهابيّينَ القَتَلَة..!!)..

(هل تعتقدينَ أنّ أخي سيعاقبني،  لأنني أستهلكُ (قْرامي) الحَطَب، التي جَهّزَها ليتدفّأ عليها هوَ وضيوفُهُ، عندما يأتونَ إلى هنا، عَصراً، في أغلبِ الأيام، منذُ أشهُر.. يجتمعونَ على خيرِ الجميع.. يتحادثون حَولَ الأمورِ الخاصّةِ، والعامّة.. ينظّمونَ أعمالَهُم الخاصّة والعامّة.. يوزّعونها بينهم.. ؟! )

أكيد.. لا…. تعرفينَ أنني أمزح..

في الخارِجِ، الآن، على الشرفةِ الغربيّةِ، الإسمَنتيّة (الفوقانيّة) بعضُ الشّبابِ من جيراننا، يقطِّعونَ الحَطَبَ الناعِم.. أكيد أخي هو الذي طَلَبَ منهم أن يَفعَلوا، وسيُعطيهِم أجرَهُم (على الأقَلّ)..

لنَعُدْ إلى (حَلَب)..

كان الغالي يَدُلّكِ على كلِّ مَعْلَمٍ منْ مَعالِمِ المدينةِ الجميلة.. ويشرَحُ لكِ عنهُ قليلاً.. قُلتِ لي، أنكِ رأيتِ أثناءَ تجوالِكُما في المدينة، مجموعَةً منَ البناياتِ الجميلةِ الرائعة.. فسألتِ أخي، باندِهاش :

– ماهذهِ البنايات الفخمَة، يا بُنيّ..؟!

فأجابَكِ، بأنّها بناياتِ ضُبّاطٍ في الجيش..

فاستغرَبْتِ.. وضَرَبْتِهِ على كَتِفِهِ، قائلةً – بِعَتَب – :

– هذهِ بيوتُ ضُبّاطٍ.. وأنتَ، ليسَ لدَيكَ (قِنٌّ) يؤويكَ، معَ زوجَتِك..؟!! ألله يكتّر خير أبيك، الذي بنى لكَ غرفتين صغيرتين في “الأندروسة”.. والله، لولا ذلك، لما صارَ عندكَ بيت..!!

وضَحِكْتِ……

لكنّ الغالي أجابَكِ بقُوّةٍ، وثقَة :

– ألله لا يطعمني لقمةً كهذهِ، يا أمي..!!

ومن ضمنِ ما استفسَرَ مِنكِ عنه.. أنا.. قُلتِ لي أنّهُ سألَكِ عن وَضْعيَ الصّحيّ، وعن أحوالي بشكلٍ عامّ.. فأخبَرتِهِ أنني غيرُ سعيدة، و وَضعي ليسَ جيّداً.. فقالَ لكِ :

– والله يجب أن نبحثَ لها عن وظيفة.. أو، أيّ عَمَل تُشغل نفسها به.. وَضْعُها بهذا الشكل، غير مَقبول…… وعَبّرَ عنِ انشِغالِهِ الشديد في عَمَلِه.. وعلى الرّغمِ من كلِّ ما يُتعِبُه.. سيُحاوِلُ أن يَحُلَّ لي مُشكِلَتي..

كُدْتُ أطيرُ منَ الفَرَحِ، عندما أخبَرَني بذلكَ، ياغالية..

مَعقول..؟! مَعقولٌ أن يُصبحَ عندي عَمَل..؟! لكن.. لكن كيفَ سأتوظّف، أو يكونُ عندي عَمَل، أو أتَحَمّلَ أيّةَ مَسؤوليّة، وصِحّتي لا تُساعِدُني، أبداً.. صحّتي النفسيّة، والجَسَديّة، و………………. إلخ

لكنني تمَسّكْتُ بالأمَل..

كنتِ تحدّثينني ياأمي، بين فترةٍ وأخرى، وأنتِ تبكين.. عن أخي الغالي، كيفَ كانَ يبكي بقهرٍ شَديدٍ على ضابطٍ صَديقٍ لهُ، اغتالته عِصاباتُ الإخوان، وكان قد تزوّجَ قبلَ عشرين يوماً، فقط.. قال لكِ أخي :

– هل تعلمين حرقةَ قلبِ الأمِّ على ولَدِها يا أمي؟ بهذهِ الدّرَجَة، انا مقهورٌ على صديقي..!!

لم تكن أمي قد ذاقتْ حُرْقةَ قلبِ الأم على ولَدِها، بعْدُ، يا أخي.. لكنها ذاقتها – أول ماذاقتها _ عليك يا حبيبي..

__________________________________________________

أعطتني أمي الغالية – اليوم – ألف ليرة، للمرة الثانية.. وقد أوصاها أبي بذلك..

إذا كانت محتاجةً، اعطِها، بينَ فترةٍ وأخرى، ألف ليرةٍ، ممّا يعطيكِ إياهم أخي (علي ) كلّ شهر، حَسَنة عن روحِ أبوَيكِ..

أردت، يا أبي، أن تضربَ عصفورين بحجر – كعادتك في أعمال الخير –

أن تدفعَ لي – بطريقةٍ لا تمسُّ مشاعري – إجرةَ مساعدتي البسيطة جداً، لأمي.. كي لا تجعلها تشعرُ بأنّ أحداً له فضلٌ عليها، حتى أنا، ابنتها الكبرى..

وأن تجعل أمي الغالية تدفع زكاة مالِها – مالِ الله – للأقربين، الأولى بالمعروف..

أقول : ( ربِّ ارحمهما، كما ربياني صغيرا..)

__________________________________________________

مثل كلّ الغزاة الطامعين، لم تسحب فرنسا قواتها العسكرية، وتنهي استعمارها المباشر لأرضنا، إلاّ بعد أن انتقمت من الثوار، بشكل غير مباشر..

كان الغزاة متأكدين أن أغلب المواطنين، حتى البسطاء منهم، متعاطفين مع الثوار إلى حَدّ التقديس.. وأنهم، إن أمَروا، فسيكونون طوعَ أمْرِهم، فوراً.. وكيف لا يكون ذلك، والثوار هم القوة الوحيدة القادرة على الدفاع عن وجودهم، وأرزاقهم، وعيالهم، وكرامتهم.. الثوار.. هذه الطبقة من الناس، التي تنكر ذاتها، وتنسى مصالحَها الخاصة، بل، تضحّي بها كلها، إذا اقتضى الأمرُ تلكَ التضحية.. وذلك في سبيلِ مصلحةِ الجماعة.. مصلحةِ الوطن.. أفراد مُستَضْعَفين، غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم.. فيضحّي الثائرُ حتى بنفسه، لتحيا تلك الجماعة.. التي تشكّل (الوطن).. الذي هو أغلى من الروح..

(والجودُ بالنفسِ، أقصى غاية الجُودِ)

كان العدوّ ماكراً.. ككُلّ الغزاة.. فأدرَكَ أنه لو انتقَمَ منَ الثوّارِ، بشكلٍ مُباشَر.. فسيدفعُ الثمَنَ غالياً، من ثورَةَ المواطنينَ الذين – مهما كانوا ضُعَفاء، وعُزّلاً – فلن يسكتوا.. وسيبقون شوكَةً في حلوقِ الظالمين.. وفي أسوأ الأحوال، سوف يعرقلونَ تنقُّلَ القوّاتِ الغازية.. فاستعمَلوا طريقةً أكثرَ دِقّةً، وخِداعاً، وتأثيراً، وخِدمَةً لمَصالحِهمُ الإستعمارية.. ألا وهيَ.. تشويه سُمعةِ الثوّار.. وبَثّ الفرقة بين الناس، بافتراءِ أفعالٍ قامَتْ بها هذهِ الفئة، ضدّ الفئةِ الأخرى.. مُستخدِمَةً بذلكَ ضِعافَ النفوسِ، قليليّ الذكاء.. غير المُدرِكينَ لمخاطِرِ الإستعمار.. فأغرَتهم بالمالِ، والجاهِ.. ونَصّبَتهم زُعَماءَ عَشائرَ، وطوائف.. كل مجموعة من الناس، يتزعّمُها شخصٌ قادِرٌ على إدارَةِ أفرادِ مجموعته، بإشارَةٍ من إصبَعِه.. لقاءَ صَوْنِ عَيشِه.. وبقائهِ حَيّاً..

أما الكرامة.. فلا وُجودَ لها..

صارَ الوَطَنُ، في أغلبِهِ تحتَ سَيطرةِ الرأسِ الأكبر (المُستعمِر) والذي يَليه.. الزعامات..

أمّا المواطنونَ المُستَضعَفون، فقد أصبَحوا دُمىً، تُحَرّكُهُم العَصَبيّات، والمَصالحُ الفرديّة الضيّقة.. تحتَ ضَغطِ الحاجة.. وتسَلُّطِ القويِّ على الضّعيف..

حتى صارتْ صِفَةُ (ثائر) مَسارَ سُخريَةِ الجُهَلاء، والعُمَلاء، والزّعامات الفئويّة..

وبذلكَ استطاعَتْ “فرنسا” إضعافَ الثوّار، وتحييدِهِم عن طريقها.. ولم يبقَ معَهُم إلاّ مَن رَحِمَ رَبّي، من المُتنوِّرين، بَعيديّ النظر، المُدرِكينَ لحَقيقةِ ما يَحصل.. لكنهم كانوا فقراء.. وغير مؤثّرين كثيراً في المُجتَمَع..

فقد صار (بيت أمين) وأمثالُهم، أغنياء..

فبنوا المَدارِسَ، والمَشافي.. وفتحوا المَحَلاّتِ التجاريّة.. وتعَلّموا.. فصارَ منهمُ القاضي، والمُحامي، والطبيب، والمُدَرّس، ورئيس المخفر.. ومأمور الأحراش.. وصاحب المدرسة الخاصّة.. التي لا يستطيعُ إبنُ الفلاّحِ الذي كان (ثائراً) وفقيراً.. ولا باقي أبناءِ الشعب أن يُعَلِّمَ أبناءَهُ من دونِ أن يدفعَ (لإبن أمين) أقساطاً سَنويّة..

حتى افتتحتِ الدّولةُ عام 1967م المدارِسَ الإعداديةَ والثانويّةَ، الحكوميّة، المَجانيّة..

وقبلَها (المَدارسَ الإبتدائية).. وقَبْلَها كان التعليمُ (عند الخطيب).. أو، ضمنَ العائلة الواحدة.. أو، الجَماعة الواحدة.. وبشكلٍ مخفيٍّ عنِ المُستعمِرين، الذين كانوا يُحاربونَ الدينَ، والهُويّةَ، بكلِّ أشكالِها.. منذُ أنِ اهتدى أوّلُ غازٍ إلى أهَمّيّةِ الدينِ، كمَنظومَةٍ أخلاقيّةٍ وقِيَميّة، تنظّمُ المجتمَع، وتحكمُهُ بالعَدْلِ، والحُريّة.. وتحضُّ على العِلْمِ، والمَعرفة، للإرتقاء بالإنسان بشكلٍ عام.. وبالحياةِ كُلّها..

وبدأتْ مَسيرَةُ التجهيلِ، والإنحِطاط، منذ أن أغرَقَ أوّلُ غازٍ المكتباتَ في مياهِ (دجلة) وغيرِها.. وسَرَقَ أهَمّ الكُتُبِ، وأغناها بالمَعارف.. وأحرَقَ ما استطاعَ الحصولَ عليهِ من بقيّةِ الكُتُبِ، التي تحوي العلومَ والمَعارِفَ، بكلّ أشكالِها.. الدينية، والدنيوية.. وصارَتِ (القوّةُ المادّيّةُ) العسكريّةُ التسَلّطيّة، هي الحاكمة الآمِرَة، والناهية، والناظِمة لحياةِ المواطِنين.. كما تشاءُ مَصالحُ المستعمرين، الخاصّة..

وكُلُّ مُعتَرِضٍ، يُقطَعُ رأسُه..

فاضطُرّ العُلَماءُ للتَّخَفّي.. وصاروا يُعَلّمونَ الناسَ (سِرّاً ) مِمّا تبقّى لدَيهِم من كنوزِ المَعْرِفةِ، الشفَهيّة، والمَكتوبة..

وهنا حَصَلَ الخَلَل.. إذ، استطاعَ بعضُ الجَهَلَة، أو، الباحِثينَ عن مَصالحِهِمُ الخاصّة.. من جاهٍ، ومالٍ، ومَكانةٍ إجتماعيّة.. أن يَدّعوا أنّهُم (شيوخ) و (عُلماء).. وأن يُصبِحَ لهم أتباعُ، ومُريدون، من الناسِ البُسَطاء، الباحثين عن المعرفة.. حيث أنّ الجاهِلَ منبوذ.. ولا قيمَة لهُ تجاهَ العالِمِ، أو، المُتَعَلِّم.. وذلكَ، لحَضِّ الناسِ على طَلَبِ العِلم..

وكان الناسُ، لا يزوّجونَ بَناتَهم، لمَن لا يملكُ قَدْراً منَ العِلمِ.. فيُضطَرُّ الشبّانُ أن يبحثوا عن (عُلماء) يتتلمَذونَ على أيديهم.. ليتمَكّنوا من القبول، من الحبيبة، وأهلِها..

__________________________________________________

في أحد الأيام، جاء الغالي إلى بيتنا في (الضّهْر).. وبادَرَني بالحديث عن أنه عجزَ عن تأمين وظيفةٍ لي.. وكنت قد حصلت على الشهادة الثانوية الفرع الأدبي، بتشجيعٍ من زوجي، عام 1982م.. وأمّنَ لي زوجي إعطاء عدة ساعات، في مدرسة قريتنا (المريقب) الإبتدائية.. وفي السنة الثانية، في (ابتدائية الشيخ صالح العلي) في الشيخ بدر.. كلما غابتْ آنسة، أمومة.. أو، استراحة.. أعلّم مكانها حتى تنتهي إجازتُها.. وكان يحرصُ على أن (أقبضَ راتبي) بنفسي.. كي أشعرَ أنني مُنتِجَة..

أبدى أخي الغالي أسَفَهُ الشديد لأنّ توظيفي عند الدولة، غير ممكن.. لذلك.. اقترَحَ عَليّ أن يستدينَ هو وزوجي، ويفتحا لي مَحَلاّ في (الشيخ بدر) أختارُ أنا ما سيكون.. (كوافيرة) (بائعة ثياب من البالي) (بائعة ثياب جاهزة)… أو، أي شيء أرضى بهِ، ويُسعِدُني.. وأضاف – مازحاً – :

– أعرفكِ، لا تقدرين على العيشِ بدون كلام.. أنتِ تحبين الكلامَ كثيراً..!!

أجَبتُهُ بفرح :

– إي والله أحبّ الكلام.. وأحبّ المجتمع… وهذا حُلُمٌ عندي أن أخرجَ من عُزلتي، ومن عَطالتي عنِ العمل.. لا أستطيعُ الإستمرارَ في الحياةِ، بلا هَدَف.. بلا عَمَل.. بلا انخراطٍ في المجتمع كإنسانة فاعِلة مُتفاعِلة..

ضَحِكنا معاً.. و وافَقْتُ فوراً.. لكنني لم أكنْ أشعرُ أنّ بإمكاني أداءَ أيّةِ مَهَمّةٍ، أو إتقانَ أيِّ عَمَلٍ بمُفرَدي.. لكنني بأمَسِّ الحاجَةِ للخروجِ بينَ الناس.. والتّحَرّرِ من ذلكَ الجَوِّ الخانِقِ، الضّيّق، الذي كنتُ أعيشُه..

بَحَثَ الفِكْرَةَ مع زوجي.. وأنا غير مصدّقة..

__________________________________________________

(-ما رأيُكِ أن تتقدّمي للشهادةِ الثانوية..؟!زميلاتُكِ، وزملاؤكِ الذينَ كنتِ أذكى منهم، حصلوا عليها، وتوظّفوا..؟!)

واشترى لي كُتُباً من (مستودع الكتب المدرسية) تشجّعْتُ جداً.. وأقبَلْتُ على الكتُبِ المَدرَسيّةِ، بشَغَفٍ، وحَماسَةٍ بالِغَين.. رغمَ أنني كنتُ أعاني منذ سنواتٍ من (عُصاب القلق الإكتئابيّ) طبعاً، أنا شَخّصتُ المَرض لنفسي، حسبَ ما قرأتُ عن أعراضِهِ في كتابَيّ (علم النفس) للدكتور (فاخر عاقل).. و (الصحّة النفسية) ل (نعيم الرفاعي).. الذيَن كانا مُخَصّصَين لطُلاّب الدبلوم.. وكان زوجي قد احتفظَ بهما في مكتبتِه.. وعانَيتُ كثيراً من (القَمَهِ العَصَبيّ الشديد) كما شَخّصَهُ لي الدكتور (محمود زغيبي) الذي اصطَحَبني زوجي إلى عيادته برفقةِ عَمّتي الغالية، أمي الثانية (آمنة) التي اخترتُها من بين كلّ أهلي كي تذهبَ معي إلى دمشق، في التاكسي التي استأجَرها الغالي زوجي، لأنني كنتُ في حالةٍ نفسيّةٍ وجَسَديّةٍ مُزرية.. كانت الغالية أختي (آمال) في الصف الحادي عشر، أو، البكالورية.. وبقيتْ عدّةَ أيامٍ، تجلسُ خَلفَ ظهري على السرير، لتسندَني.. و زوجي يشوي اللّحْمَ أمامي على (المَنقَل) في الغرفةِ، قربَ السّرير، ليرغّبَني من خلال رائحَتِه، بتناوُلِ بعض الطعام.. لكن.. دون جدوى… كنتُ، لأرضيهِ، أضعُ اللقمةَ في فمي، وأمضَغُها قليلاً، وأعجَزُ عن بَلعِها.. فأشيرُ إلى أختي التي تسندني، أن تناولني مَحْرَمة ورقية، فأغافلهُ، وأبصُقُها لترميها أختي في الزبالة..

بصعوبةٍ بالغة، استطاعَ الدكتور (محمود زغيبي ) أن يفحصني.. كنتُ متوَترةً جداً.. وهزيلةً جداً.. لم يجد بي مرضاً جسَدياً، أبداً.. فأحالَنا إلى الدكتور (علي بلال ) المختصّ بالأمراضِ العَصَبية.. وكتبَ لهُ رسالةً باللغةِ الإنجليزية، ترجمَها لنا سلفي، وأخبرَني، بإعجاب، أن الدكتور (محمود ) قد كتبَ في رسالتهِ القصيرة الموجّهة للدكتور (علي ) : (……. أرجو أن تعالجَ هذهِ السيّدة، الذكيّة فوق العادة (إكسترا أوردينري )، فاطمة صالح، التي تعاني من “القمَهِ العَصَبيِّ الشديد”………. إلخ )

عانى معي الغالي زوجي الكثير، خلالَ سنواتِ مَرضي.. كانَ يأخذني بسيّارة أجرة، مَرّتين، إلى دمشق.. ومَرّتين.. إلى بيروت.. يبدّلُ لي الأطباء، والإختصاصات.. الجسمانية، والنفسانيّة.. دونَ جَدوى تُذكَر.. أذكُرُ أنهم كانوا يقولونَ لهُ : (مافيها شي) فاغتاظَ منهم جداً، وقالَ لأحَدِهم بحُنقٍ بالغ :

– (يا أخي، “مافيها شي”، لكنها تكادُ تموت. اعطوني إشعاراً بحالتِها، إذا لم تكونوا قادرينَ على عِلاجِها، وسأخرِجُها للمعاجةِ خارجَ القطر.. )

لن أنسى فَضْلَهُ – يا أمي – ..

أمي..

لا تلوميني..

هناكَ أمورٌ لن أحكيها..

عندما سَمِعَ أنّ وزارَةَ التربية تُعلِنُ عن الترشيح لإعارة بعض المدرّسين إلى بعض الأقطار العربية، لم يتردّد في تقديم أوراقه.. وكانت نتيجة الإعارة، إلى (المغرب).. قال لي : أن الراتبَ هناك قليل، ولا يُقارَن بالرواتب التي يتقاضاها المُدَرّسون المُعارون إلى دول (الخليج) – مثلاً – لكنه سعيدٌ بأننا سنغيّر جَوّاً.. و ربما تستريحُ نفسيّتي..!!

ماذا جرى لنا يا حبيبي..؟!

المهمّ، الآن، أن أكتبَ  حول اقتراح أخي (اسماعيل)..

قال لي :

-ما رأيِك، أن نأخذ، أنا والأستاذ، كلٌّ منا قرضاً.. ونفتحُ لك مَحَلاً في السوق.. وأنتِ تختارين ماذا سيكون..

واخترتُ أن يكونَ محلاً لبيع الألبسة الجاهزة النسائية، والولاّدية.. كي يكون، أيضاً، مريحاً لي ولصديقاتي والزائرات، أكثر من أن تكون فيه ألبسة رجالية.. واختار أخي، أيضاً، أن تكون فيه أحذية.. حتى إذا دخلتِ المرأةُ إليه، تأخذ كل ما تحتاجه لها ولأسرتها من الداخلي والخارجي والأحذية، والمناشف، وغيرها…..

آآآآه…. ما أجمَلَ الأحلام..!! وما أسهَلَ أن نحلم..!!

استعنا بالله..

أنا الغبية، يا أمي.. أنا العمياء، التي لاتعرف عن غير محيطها الضيق، سوى القليل القليل.. طلبتُ من الغالي أخي، أن يدخلَ معي إلى غرفتنا في بيتنا في الضهر.. أغلقتُ البابَ، وهَمَسْتُ له، أستحلفه بالله، إن كان بعضُ مالِهِ غيرَ حلال.. أنا ليستْ لي أية علاقة بخصوصيّاتِك.. لكنني لا أستطيعُ أن أمارسَ عملاً بمالٍ غير مال الحلال الصافي……!!

واعتذرْتُ منهُ على هذا السؤال..

وبكلِّ طيبَتِهِ، وصِدْقِهِ، ونُبْلِهِ المعهود.. أجابَني، وبهدوءٍ، وثقة.. لكن، باستغراب :

-أقسِم.. بشَرَفي.. بديني.. بوجداني.. أنّ مالي حَلالُ حَلال.. وأنهُ لا يمكنُ لي أن أتخلّى عن مبادئي وأخلاقي.. وما ترينَهُ من ادعاءِ الغنى، هو، لأنني أعيشُ في بيئةٍ ثريّة في (حلب) ولا أريدُ لأحَدِ أن يدعوني – يوماً – إلى الغداء – مثلاً – أو أن يهديني هديّة، دون أن أردَّ لهُ ذلكَ بمثله، أو بأكثر.. أما (سلوى) فلا أريدُ أن ينقصَها شيءٌ، ولا أن تبدو أقَلّ أناقةً، أو، دَلالاً، مِمّا تبدو عليهِ النساءُ الأخريات اللاتي تعيشُ معهنّ…

بل، وسأبوحُ لكِ بسِرٍّ، لم أبُحْ بهِ لأحَدٍ غيركِ، يا أختي.. وأتمنى عليكِ ألاّ تبوحي بهِ لأحَد..

(لم أبُحْ بهِ لأحَدٍ، يا أخي الغالي، سوى بعْدَ وفاتِكَ ياغالي.. سامحني.. فقد كانَ ذلكَ ضرورياً جداً..)

أنهُ عليَّ دَينٌ – حتى الآن – ما يفوقُ المئةَ ألف ليرة سورية.. (كان ذلك في أوائل عام 1983م)

أقسِم بشَرَفي.. بديني.. بوجداني… أنني لم آكُل – يوماً – ولا يمكنُ أن آكُل، سوى من تَعَبي.. من راتبي.. والمَهَمّات الموكَلة إليّ..

فاطمئنّي، يا أختي……………..

آآآآآآآآآخ من أختِك.. وعلى أختِك، ياغالي…..!! ما أذنَبَها..!! وما أجهَلَها..!! وما أظلَمَها..!! وما أغباها..!! وما أبعَدَها عنِ الواقِع…!!

سامِحني يا أخي.. سامحني ياغالي..

قلتُها لكَ عندما عُدنا من نزهةٍ اصطَحَبتَني بها إلى (كفر جَنة) شمال (حلب) على الحدود التركية.. مع الغالية (سلوى) وعصفورتكما الحبيبة.. عندما استأذَنتَ زوجي، واصطحَبتَني معَكَ إلى (حَلَب).. لتعرضَني على الأطباء هناك.. لكن لم يكنْ لديكَ وَقتٌ لتأخذني بنفسِكَ إلى الأطباء.. فطلبتَ من سائقِكَ، ومن صديقكَ الطبيب.. أن يصطحِباني..

-أرجوك.. خذ أختي إلى كل الأطباء اللذين تعرف أنها تحتاجهم.. ولا تعيدها، إلاّ وقد شُخِّصَ مَرَضُها.. وعُرِفَ الدواء.. أرجوك.. لا تعيدُها إلاّ وقد تداوَتْ…!!

وضَحِكتما..

غادَرْتَ أنتَ إلى عَمَلِكَ ياغالي.. واصطحَبني الدكتور (ابراهيم) والغالي (عمران) إلى العديد من الأطباء.. تصوير إيكو.. وفحوص سَريريّة.. وغير ذلك.. دونَ أن يوجَدَ معي أيّ مَرَضٍ جَسَديّ.. وكانَ آخر مَن طلبوا استشارته (رئيس شعبة الهضمية في أحد المشافي).. وكان التشخيص….. لامَرَض عُضويّ.. أبداً.. إنما هناكَ (تشَنّجات شديدة في الكولون) ناتجَة عن معاناة نفسيّة، وحَساسيَة مُفرِطة……… وأخذتُ أبكي، بحُرْقَةٍ بالغة.. وأنا ما زلتُ على سَريرِ الفحص.. وعندما لاحَظَ صديقُكَ الطبيب النبيل، أنّ أحَدَ الأطباء أخذَ يلاطفُني أكثرَ من اللازم… سَحَبَني من أمامِه.. وناوَلَهُ أجرَه، شاكراً.. ونزلَ بي مع السائق إلى خارج المَشفى..وراحَ يُعطيني تعليماتِه:

– أختي.. كلّ ما تعانينَ منهُ ناتجٌ عن تَراكُم إزعاجات نفسيّة، وتَراكم مُعاناة.. أختي، أنتِ لا تحتاجينَ أيّ نوعٍ من الأدوية.. لو كانت واحدة غيرك، كان يجب أن نصِفَ لها مُهَدّئات.. لكنّكِ قويّة، وتمتلكينَ الإرادَة.. لن أعطيكِ مُهَدّئات.. طَوّلي بالك على هذه الدّنيا.. وامتنِعي عن تناوُل بَعض الأطعِمة……… وراحَ يعُدّ لي بعضَ أصنافِ الطعامِ الممنوعة… ونحن عائدون إلى بيتِكَ ياغالي… لم تكنْ قد عُدْتَ من عَمَلِكَ يا أخي.. كان (عمران) و (د. ابراهيم) يسنداني، عندما كنتُ أنزُلُ من السيارة، ويَضَعُ كلٌّ منهما يدَهُ تحتَ إبطي، ليساعِداني على صعودِ الأدراج، ونزولها.. أنا التي كنتُ قد فقدْتُ الكثير من وزني، ومن قوّتي..

وفورَ عَودَتِكَ مُجْهَداً، مُرهَقاً، ياغالي.. سألتني عن حالي، فأخبرتك.. لكنكَ لم تكتفِ بجوابي.. فاتصَلتَ بالدكتور (ابراهيم).. الذي شَرَحَ لكَ الحقيقة..

أكلتَ، ونمتَ قليلاً.. وقمتَ لاصطحابنا في اليوم التالي إلى (كفر جَنّة) وكنتُ قد طلبتُ منكَ أن تبحثَ لي عن فواكه تتقبّلُها مَعِدَتي، أكثرَ من غيرِها.. كان (الموز) الذي أحبّهُ، مَقطوعاً.. وكذلكَ (البرتقال) حتى عندنا هنا في (الشيخ بدر).. لم تتركْ وسيلةً إلاّ بَحَثتَ لي بها عن فواكهي المفضّلة المفقودة.. وعندما وَصَلنا إلى الحدود التركية.. نزلتَ من سيارتكَ – سيّارة الدولة – أمامَ بَرّاكَةٍ لحُرّاسِ الحدود.. نادَيتَهم.. وأوصَيتَهُم أن يُأمّنوا لكَ من (تركيا) (سَحّارة) برتقال.. و (سَحّارة) تفاح.. و مثلها (موز) إن وُجِد… ووعَدتَهم أن تمرّ عليهم لتأخذَ الفواكه، عندَ عَودتكَ من (كفر جنة).. وهذا ما حَصَل… كنتُ منكَمِشَة، وأنا داخل السيارة، عندما نزلتَ لتُحضِرَ الفواكه… آه.. كم كنتُ خائفة أن تكونَ (بلاش).. عندها لا يمكنُ أن ألمِسَها، أو أن يتذوّقَها لساني…. لكن……………….

آآآآآآآآآآآآآآآآآخ.. يا أخي…!! وما نفعُ الآخ.. بعد ذلك..!!

لم يقبل حارس الحدود، أن يأخذَ ثَمَنها.. صَرَختَ بوجهِهِ بقوّةٍ، أن يأتمر بأمركَ، ويأخذَ حَقّه… وهو يقول لك :

-لا والله ياسيدي.. لا والله ياسيدي..

فصَرَختَ بوجههِ أكثر.. ودَخَلْتَ البَرّاكَةَ خَلفَه، والدنيا ظلام، إلاّ من أضوية الكهرباء… و بالقوة والشتيمة، أعطيتَهُ حَقّهُ – على الأقَلّ – .. وأرَحْتَ قلبي…….

لا يمكن أن أنسى ابتسامتكَ الطفولية الساخرة مني.. عندما بدأتُ أتناوَلُ ما عَصَرَتهُ لي زوجتك من الفواكه، وأنا في المطبخ.. نادَيتُكَ، وأنتَ تشجّعني على شربِ العصير، كنتَ قدِ ابتَعَدْتَ خطواتٍ عن المطبخ :

-اسماعيل.. أخي….. سامحني….. ألله يخلّيك سامحني…

–على ماذا..؟!!

-لأنني ظلمتُك… لأنني ظنَنْتُكَ عكس ما رأيت…

أرجوكَ سامحني يا أخي…… وقبّلتُك…

ضَحِكْتَ في وجهي ساخراً، كما كنا في طفولتنا ياغالي…

تعني…. الأمرُ سخيف.. لايستحقّ الإعتذار..

بعدَ وفاتِكَ ياغالي، باعَ أبي قِطعاً من الأرض، وغيرَ ذلك، ليوفّي ما عليكَ من ديونٍ بلغَتْ أكثرَ من ثلاثمئة ألف ليرة..

أخبَرنا صديقُكَ الذي كنتَ قد اشتريتَ منهُ بيتكَ الذي تسكنُ فيهِ في أحد أحياء (حلَب) أنهُ حاوَلَ أن (يهديكَ) الشقّة.. فهوَ غنيٌّ، وأنتَ صَديقه.. لكنكَ رفضْتَ رَفضاً قاطِعاً.. وبعدَ إلحاحِهِ الشديد، قلتَ له :

-إن كنتَ تحبُّ أن تخدمَني، بِعْني البيت.. لكنْ.. بالتقسيط.. وأكون لكَ من الشاكرين..

وكان ذلك..

لكنكَ يا غالي لم تكنْ قد وَفّيتَ كل ذِمّتِكَ عند ارتقائكَ إلى رحابِ  القوّةِ الخالقة..

حاوَلَ صديقُكَ بكلّ مالديهِ من جهدٍ، ليجعَلَ أهلي يقبلونَ بأن يُسامِحَهُم بما تبقّى عليكَ من أقساطِ البيت… دون جدوى.. شكروهُ من القلب، على نُبْله..

وأوفوا ذِمّتَكَ ياغالي..

بعدَ ولادَةِ زوجتكَ طفلَكما الغالي.. أعرَبْتَ عن سَعادَتِكَ البالغة بهِ.. كنتَ تظنّ أنكَ غير قادرٍ على أن تحبّ غير عصفورتِكما الغالية.. لكنكَ اكتشَفتَ كم تحبُّ هذا العصفورَ، أيضاً..

كنتُ موجودَةً عندكم، للإستشفاء، طبعاً.. وكانت (سلوى) ما تزالُ في الفراش..

أذكُرُ كيفَ دَخَلَ إلى بيتكم رَجُلانِ، أحَدُهُهما يلبسُ جَلاّبيّةً بيضاءَ، وعقالاً.. وكيف أدخَلتَهما الصالون.. لكننا استغرَبْنا، واستنكرْنا طلَبَهُ أن يرى الصغيرَ (الذّكَر) و (سلوى) ما تزالُ في الفراش، وبلباسِ المرأةِ الوَلود..!!

كانا قادِمَينِ ل (تهنِئَتِكَ ) بالصّبيّ…

أذكُرُ كم حاوَلَ الذي يلبسُ الجلابيّةَ والعِقالَ، ويضحَكُ بشكْلٍ مُرائي.. أن ( يُنَقِّطَ ) الصغيرَ ب (خمسَةَ عشرَ ألفَ ليرةٍ سوريّة)…!!! وكيفَ رَفَضْتَ، بشكْلٍ قاطِعٍ، (هَديّتَه).. لكنّهُ أصَرّ إصراراً أتعَبَكَ، وجَعَلَكَ تحارُ كيفَ تتصرّفُ دونَ أن تؤذي مَشاعِرَه….!!

رَفَضَ (الرّجُلُ) الخروجَ من البيتِ، دونَ أن يرى الصغيرَ.. وأن تقبلَ (الهديّةَ البسيطة)..!!

تأفّفْتَ بحُنقٍ بالغٍ أمامَنا.. ونحنُ في غرفةِ (سلوى)..

قلتُ لكَ – مُحاوِلَةً أن أخرِجَكَ من تلكَ الوَرطة – :

-خُذها، يا أخي.. وغداً اهدِهِ، في إحدى المُناسَباتِ عندَهُ، ما يفوقُ قيمَتَها.. !!

صحْتَ – مُستنكِراً – :

-ما فَشَر……..!!!!!!! هذا يُريدُ أن يطلبَ مني أن أغَطّي لهُ ( تهْريبَةً)….!!!!!!!!!!!!

-مَنْ هذا.. يا أخي..؟؟؟!!

-زعيمُ عَشيرَةٍ.. غنيٌّ جداً.. يُقيمُ في (السّعوديّة).. ويتنقّل بينها وبين سورية وبلدان عِدّة….!!!!!!!

تعبتُ، يا أمي.. سأستريحُ قليلاً، من نقلِ ماكتبتُهُ على الدفتر، وما أضَفتُهُ من ذاكرتي…

فإلى اللقاء يا أمي..

الإثنين/9/6/2014م

*******************************************

رسالة أبي – رحمه الله = إلى أخي اسماعيل – رحمه الله –

 

ولَدي الحبيب            اسماعيل

أطبع على خديك قبلة أب مشتاق للقاء شبله الذي يحمل راية النصر والكرامة عالية خفاقة                 وبعد

ما كنت أحسب أنني افقد عاطفتي نحوك حتى ساعة كتابة رسالتي هذه

أقسم لك أنني ماذكرتكم إلاّ نادراً وبدون عاطفة اطلاقا وماكنت أدري ما السبب حتى تلقيت آخر رسالة منك وعندها عرفت ان هناك شعوري داخلي لا إرادي حميمي انكم رجال بكل مافي هذه الكلمة من معنى وهذا الذي حدا بي الى الثقة بكم وبحسن سيركم ونهجكم  وحينما اشرقت شموس معرفتي بحقيقتكم لأن ليس للبخور رائحة أزكى إلا بعد احتراقه (اي اختباره) فجاشت في نفسي عاطفة جامحة هوجاء وحنين اعمى واشتياق اشد الى الرجال وما أحلاها من كلمة (الرجال) حماة الديار الذين (طمحوا الى استقلالهم بدمائهم       لم يرهبوا التهويل والتهديدا) وذكرني هذا مناقشات قديمة كانت تنشر عن الأعداء انهم اقوياء وانهم مسلحين وانهم… وانهم… فقلت والحرقة تفجر قلبي وحنجرتي اليسو بشراً ايضاً قيل نعم ولكن.. قلت بالنسبة لكم واما بالنسبة لنا فهم مثلنا إلا اننا نحن اعرق منهم شجاعة ورجولة في تاريخ اجدادنا عبره فاين تاريخ اجدادهم.. واما نحن وهم فينطبق علينا قول القائل (ان دون المجد سلّم       مرتقاه من سهام) (لا يُنال الشّهْدُ مالم         إبَرٌ تؤذي العظام) وقولة

(وما المرء حيث كان إلا ابن سعيه           فمَن كان اسعى كان بالمجد أجدرا) وقد قيل قديماً (المصائب محك الرجال)

إذن  الجهاد الجهاد أيها الرجال وليس ارغد عيشاً من الخشونة لقول الرسول صلعم (اخشوشنوا ولا تتنعّموا فإن النعم لا تدوم) وأجلّ صفة يُتّصَفُ بها الرجولة الخشونة ولكن ليس في الأخلاق للرجال وعكسها اللطف والنعومة للنساء . كم اود لو كنت متعلماً لأشبعت قلمي وأرضيت ضميري معبراً عما يجوش في صدري . نحن الاسرة الوالدة والجدة والاخوة والاخوات والعم بل الأعمام وذويهم والعمات واسرهم والاصدقاء ومن حولهم بالخير العميم يشاركوني قبلات وجناتكم انت وبدر ومن يلوذ .

واخيراً  الف تحية وقبلة :                طرطوس في 19/1/74

والدك

صالح سليم

********************************************

أمي.. ألله يسعد أوقاتِك..

أنا الآن في بيتكم – بيتنا – بيت أهلي، في القرية.. أجلس على نفس الديفون الذي كنت أجلس عليه عندما بدأت بكتابة هذه الرواية.. الساعة الآن الثالثة والنصف ودقيقتين، من بعد ظهر الأربعاء، الخامس والعشرين من كانون الثاني (ديسمبر) عام 2013م.. عيد ميلاد السيد المسيح ابن مريم، عليهما السلام.. وعيد ميلاد حفيدكِ الأصغر..

منذ حوالي ساعة، أتيتُ إلى هنا، من بيتنا في (الضهر) بعد أن كنت قد طلعت من (الشيخ بدر) مع صديقتي بسيارتها، كأغلب الأيام.. وجدت زوجي يطلي بالإسمنت جوانب النافذة المفتوحة منذ أشهر، مكان الباب القديم للغرفة الوسطى (غرفة بيت عمي) والتي أنام فيها منذ أشهر.. وبها مدفأة مازوت، وديفون، ومكتبة، وطاولة، وطابعة، وكومة من الدفاتر القديمة، التي كنت قد دوّنت على صفحاتها الكثير من اليوميات، والإنطباعات، وما يعجبني من أقوال، والكثير من الفقرات التي أعجبتني من الروايات، أو المجموعات الشعرية، أو أي من الكتبِ، والمجلاّت التي قرأتها.. أو غيرها الكثير..

وبعد أن أنهى عمله.. كنست الإسمنت من الغرفة، ومن الشرفةِ الزجاجية التي يجلس هو وضيوفه فيها، غالباً، على الديفون الحديدي المتين، الذي أحضره قبل زواجنا بعدة أيام من (حمص) مع باقي الأغراض.. وكنست السجادة حول مدفأة الحطب في الصالون.. ثم نزلت إلى (السفل) تحت الشرفة، وأحضرتُ الكثير من الحطب الناعم، والخشن، أغلبه من شجر (الكينا) المقطّع.. ملأت مدفأة الحطب، ولم أشعلها.. وجمعت الحطبات كومةً قرب مدفأة الحطب الأخرى القديمة الملاصقة للحائط الشرقي، على امتداد المجلى في المطبخ..

كان يحضر طعامه (سمك بالفرن).. انقطعت الكهرباء.. شعرت أنني سأملّ إن بقيت في البيت.. وشعرت بضيق الخلق، وربما بالحاجة إلى البكاء، أو، الإعتراض على أمور كثيرة عصيّة على الحل.. فتركت اللابتوب في الصالون على طاولة بلاستيك جانبية، وحملت عدة أكياس نايلون أسود فارغة مستعملة، لأعطيها لبيت أخي، كي يعيدوا استعمالها في بيع الخضار والفواكه ومواد التنظيف، لأن الغلاء فاحشٌ في هذه السنوات القاهرة.. و وَضَعْتُ ثلاث دفاتر، أحَدَها هذا الدفتر الزهريّ الذي أكتب على صفحاتهِ الآن، في أحدِ الأكياس، مع جهازيَ الخلَويّ، وبعض الأدوية.. سخّنتُ بقايا (الرّز بشعيريّة) الذي كنت قد طبختُ منهُ كأساً كبيرةً، منذ أوّل أمس، هنا.. وتغدّيتُ ما بقيَ في المِقلاة (التقلاية) الستنلس، المخلوع ذيلُها.. والآن، أشرَبُ كأساً كبيرةً من الشاي الأسود (النيغرو) كما يسَمّيه المَغارِبة.. مازلتُ ألبسُ (الكَبّوت) الأسوَد، المُصَوفَن من الداخل، المَرِن (ليكرا) الذي أهدتني إياهُ الغالية أختي، العام الماضي، من (البالي) بستّمئة ليرة سورية.. الآن، حتى (البالي) صارَتْ أسعارُهُ نار..

لا أشعِلُ مدفأةَ الحطبِ التي أمامي.. ولا أشعُرُ بالبَرْدِ، إلاّ بشكلٍ بَسيط.. استَمَعْتُ – وأنا آكل الرَز – من جهازيَ الخَلَويّ، إلى تسجيلِ اللقاءِ الإذاعيِّ الذي أجْرَتْهُ معي الإعلامية (صباح ابراهيم) منذُ مُدّة.. وهوَ أوّلُ لقاءٍ لي على الهواء مباشَرَةً..

أمي..

منذ ثلاثةِ أيام، توفّيَتْ بنت (ديبة) عمّة أبي، بنت عَمّتك (آمنة ياسين سلامي) (أمّ بَدْريّة).. أخبَرَني زوجي عن صِلَةِ القرابة بينكما.. واليوم (أسبوعُها) في (المَبَرّة) و بالأمس، توفّيَتْ (أم أحمد ليلى) يُقالُ أنها أخت (أم فاطمة) العِصاميّة، الرائعة..

(بُنيان) الإبن الأصغر ل (بَدْر كامل وَنّوس).. أسَرَتْهُ (جَبهة النّصرة) أو، مجموعة إرهابية جديدة أخرى.. قيلَ لي أنهُ كانَ (طالب ضابط) في الكُلّيّة الحَربيّة.. وأرسَلوهم للمَعارِك الدائرة في مُختَلَف أنحاء الوطن الغالي، منذُ الخامِس عشر من شهر آذار عام 2011م…. هو ورفاقه في مشفى الكِنديّ، في (حَلَب) تكلّمَ معَهُ أهلُهُ، فرَدّ عليهمُ الإرهابيّون..

حَضَرَ إخوتي، والكثير من شباب القرية، والمَعارف، ليَدْعَموا أهلَهُ مَعنوياً، على الأقَلّ.. ويواسونهم.. إلى أن يقضيَ اللهُ أمراً كانَ مَفعولا..

بالأمس، كنتُ في بيت أخي.. جاءَتِ الغالية أختي، مع زوجها وابنتها وحفيدنا الغالي.. تغدّينا معاً في بيت أخي.. كانت زوجةُ أخي، عاملة (كَبسِة) و (فَتّوش) و (كشك) وغير ذلك..

لعِبْتُ معَ الصغير الغالي.. ما أجمَلهُ، وما أعذبَ ابتسامتَه..!! شبيهٌ بأمهُ، يا أمّي.. ألا تذكرين..؟! حَمَلتهُ جدّتُه، أختي، وقرّبتهُ من وجهِك، لتَرينهُ، وأنتِ مُستلقيةً على فراشِ المَرَضِ، في أوّلِ، وثاني مرّةٍ يُحْضِرونهُ إلى القريةِ، بعدَ وِلادَتِه.. وقالتْ لكِ: (أمي.. هذا إبن بنتي..)..

المُهِمّ، يا أمّي.. حَكى لنا أخي، أنّ (بَدْر) الضابط المُتقاعِد.. صَديق الغالي أخي (اسماعيل) و رفيق طفولتِه.. نزَلَتْ دُموعُهُ، وهوَ يتبادَلُ الحَديثَ معَ الشباب الذينَ جاؤوا لمُواساتِهِ، عندما سَمعوا باختطافِ ابنِه.. وقال :

– لا تؤاخِذوني يا شَباب.. أنا أبّ.. ومَهما يكن.. لا بُدّ أن تطغى العاطفة.. فقالوا له :

– بالعكس.. خُذ راحتَك.. البُكاءُ في مثل هذهِ الحالات، لا يتعارَضُ معَ الرّجولة..

الساعة، الآن، الرابعة وخمس دقائق..

إلى اللقاء يا أمي…………..

هنا…. تجاوَزتُ عدّةَ صَفحاتِ تحكي عن قرية (مْعان) وما حَصَل فيها من مجازر………… على لسان أهلها، مباشَرةً…….

آخ يا أمي…. أحداثٌ لا تُصَدّق…

***********************************

الكهرباءُ مقطوعةٌ من الساعةِ الثامنة والثلث صباحاً.. والآن، يا أمي، الساعة الثانية عشرة إلاَ ربعاً، وما تزالُ مقطوعة.. ربما تأتي في الواحدة.. ألله أعلَم..

قلتُ لأحَدِ الموجودين:

-دَخيلَكْ.. حتى لو لم تأتِ.. المهمّ أن يفرجها الله على هذا البلد..

المرأة.. خالة زوج المريضة التي في المخاض.. قلت لها عدة مرات (ألله يخلصك بخير ياخالتو).. قالت أن زوجة ابنها تزوجت بعد استشهاد زوجها، وظل أبناهما برقبتها، هما وابنة وزوجة ابنها الشهيد الثاني.. وهم مُهَجّرون، ويستأجرون مساكنَ في قرية (الرّقمِة).. يعيشون على مُساعَدات الناس الطيّبين.. لا يجرؤون أن يذهبوا إلى مشفى (المَعَرّة) كي يُحْضِروا الأوراق التي تثبتُ استشهادَ الشابَّين، ورفيقهما.. وسَرِقَة هُويّاتهم، وأجهزَتَهمُ الخلَويّة، والنقود التي كانت معهم.. وكلّ أوراقهم.. والجهات المُختصّة، لا تستطيع أن تعاملهم مُعامَلة أهالي الشهداء، إن لم يُثبِتوا ذلك..

جاءتِ الكهرباء الساعة الثانيةَ عشرة والرّبع، ظهراً..

*******************************************

أمي..

اليوم أنا سعيدة، لأنكِ لستِ معي.. لستِ هنا.. لستِ في هذهِ الدنيا..

أمي..

لا أقدر أن أحصي لكِ عدد الأمور القاهرة التي دعتني إلى هذا الشعور الغريب..

أمي..

يعرضُ التلفزيون، كما تنشُر شبكات التواصل الإجتماعي، فيديو لأحَدَ عَشَرَ شاباً من ضبّاط الجيش العربي السوريّ، وفي مقدّمَتِهِم (بُنيان) يُنَكّلُ بهِمْ، ويُعدَمون بالرّصاص، على أيدي الجماعات الإرهابيّة المُسَلّحة في (مَشفى الكِندي) في (حَلَب).. بعدَ حِصارٍ طويل.. وتجويعٍ، وتعطيشٍ، وتعذيبٍ، وتنكيل.. لدَرَجَةِ أنهم كانوا يأكلونَ المَراهِمَ الطبّية.. و وَرَقَ الشجَر.. وغيرَها.. يُعْدَمونَ بطريقةٍ وَحشيّةٍ، أمامَ أعيُنِ ذَويهم.. وأمامَ العالَمِ أجْمَع..

مساء الأحد/5/1/2014م

وهاهيَ صورَةٌ أخرى على نفسِ الصّفحَةِ، لشبابٍ مَعصوبيّ الأعيُنِ، مربوطيّ الأيدي من خلف ظهورهم.. شَبابٌ صِغارٌ، يا أمي.. ويبدو أنّ أحَدَهم طَلَبَ الماءَ من جَلاّديهِ، وقاتِليه.. فيبدو ذلكَ القاتِلُ في الصورةِ، يرتدي ثياباً عَسكَريّةً خاصّةً بالإرهابيّين (داعش) و (جبهة النصرة) و (لواء الإسلام) و (الجيش الحُرّ) وغيرها.. يمدُّ يَدَهُ القذرة بقَدَحٍ بلاستيكيٍّ من الماء، يقرّبُهُ من شَفَتَيّ الشابِّ الظامئ، المَعصوب العَينين، المربوط اليدين من الخلف، والجالس مع رفاقهِ على الأرض.. يمُدُّ لهُ الماءَ، فيندفعُ ذلك الظامئُ ليَبلّ ريقَه.. فيُبعِدُهُ الجَلاّد.. يمدّ شَفتيهِ مرّةً أخرى، وأخرى، وأخرى.. لكنّ القَدَحَ يبتعِدُ تحت قهقهاتِ، وشَتمِ الجَلاّد القذِر.. دون أن تَمَسَّ قطرةٌ منهُ شفَةَ الشاب..

تعذيبٌ من قتَلَة، فَجَرَة.. يعذّبون، ويقتلونَ (باسمِ الله).. ويظلمون، ويسحقونَ، ويَسحَلون، ويحرقونَ الناسَ أحياءً.. يشوونهم بالفرن.. يخطفون، ويغتصِبونَ، ويهدمون، ويفجرون.. كلّهُ (باسمِ الله)…!!

أيُّ إلهٍ يعبدونَ، يا أمي..؟؟!!

أيُّ إلهٍ دَمَويٍّ قاتِلٍ، فاجِرٍ، ظالِمٍ، يعبدون.. ويقدّمونَ لهُ القرابينَ ليَرضى، ويمنحَهم ستّينَ حوريّةً لكلِّ (شهيدٍ) منهم..؟؟!!

*******************************************

الساعَةُ الآنَ تقارِبُ الواحِدَةَ والرّبعِ، من بعدِ ظهرِ يوم الجمعة العاشر منَ الشهرِ الأوّلِ، من عام 2014م

أجلسُ الآنَ على الطّرّاحَةِ الإسفنجيّةِ، الطويلةِ، السميكة.. التي يغلّفها غطاءٌ مخمليٌّ بُنّيُ اللون.. قربَ مدفأةِ المازوتِ الصغيرةِ التي كُسِرَتْ زجاجَةُ بابِها منذُ ثلاثة أيام، ولم أحضِرْ بَديلاً مَعدنيّاً عنها، حتى الآن..

أقرأُ الآنَ خَبَرَينِ تلقّيتُهُما على جِهازيَ الخَلَويّ، من شَبَكَة (توب نيوز) الإخبارية.. أحَدُها يقول (وَحْدَة من الجيش العربيّ السوريّ تقضي على تجَمُّعٍ للإرهابيّينَ في “سَلمى” وتضبطُ مُستَودَعاً لصَواريخ (ستينغر) و (م. ط ) وعُرِفَ منَ الإرهابيّينَ القَتلى، السعوديّ (فضل التركاوي” والمصريّ (خالد الرّشواني) والليبيّ (أبو صَفوان الزيدي)

الخبَرُ الثاني يقول (الجيش العربي السوري يستهدفُ تجَمُّعاتٍ، وأوكاراً للإرهابيّينَ، في “الشيخ ياسين” و “الحويقة” وعندَ المُجَمّعِ الحُكوميِّ، في (دير الزور).. ويقضي على العشَراتِ منهم.. من بينهم (محمد العزاوي).. والآن، وَرَدَني الخبَرُ التالي، من نفس المَصدَر (الجيش العربي السوري يستهدفُ رَتلاً للعِصاباتِ الإرهابيّةِ في جبل الأكراد، مما أسفر عن تدمير إحدى عشر سيارة، آلية محملة برشاشات (دوشكا).. عُرف منَ الإرهابيين القتلى (أبو محجم العراقي) و (أبو النور السعودي) و (أبو معروف السعودي) و (صبيح الخلف) والقَطَريّ (أحمد خلفان السيد)..

ثم (استقالة رئيس الوزراء التونسي “علي العريضي” ) و (قوات الجيش العربي السوري تستهدف أوكار إرهابيي “جبهة النصرة” في بلدة “المزيريب” بريف “درعا” وتقضي على أعداد منهم، وتدمر معملاً للعبوات الناسفة.. ومن بين القتلى (ياسين الجوابرة) و (محمد، ومحمود الصبيحي) و (أحمد أبو عريمش) و(أحمد التلاّوي) ثم (الخارجية الروسية: موسكو ستعقد مع الأطراف السورية عدداً من اللقاءات على مستوى عالٍ، قبل المؤتمر الدولي جنيف 2) ثم (وزارة الصحة تستهجن في بيان، ما وصلت إليه الحكومة الفرنسية من تحريفٍ للحقائق، وتغوّلها في خرق القانون الدوليّ، ومخالفة مبادئ الثورة الفرنسية التي أدانتِ الكذبَ والعنفَ والجريمة.. وأكدت أن ما روّجَته الحكومةُ الفرنسيةُ عن حَمْلةِ شلل الأطفال، كذبٌ وعارٍ من الصحة) ثم (وزارة الصحة: الحكومةُ الفرنسية، ولأهداف دعائية، تقوم ، وبتسهيلات من الجانب التركي، بإدخال لقاحاتِ الأطفالِ إلى سورية بشكلٍ غيرِ شَرعيّ، ومُخالِف للقانون الدوليّ، وأدخَلَتْ لقاحاتٍ ثلاثيّة التكافؤ، وهي غير اللقاحات التي أوصَتْ بها منظّمَةُ الصحةِ العالمية.. الأمر الذي يؤثّر على صحّة الأطفال)

وأخبار أخرى…………..

بالأمس، يا أمي.. لم أنزل إلى (الشيخ بدر) بقيت في البيت، لأنني كنتُ مُصابةً بالزكام، بقيتُ في الفراش حتى الظهر، تقريباً، لأستريحَ، وليبقى جسمي دافئاً، دونَ أن أشعِلَ المدفأة.. مازوت، عندنا يا أمي.. لكنّ الحَطَبَ قليل.. وهو، في الغالب، من شجرِ (الكينا) أمام منزلنا هنا.. يذوبُ  بسرعةٍ في مدفأةِ الحَطب في الصالون.. استهلكنا، تقريباً، نصفَ الكميّةِ التي كان قد قطعها بواسطةِ المنشار، رجلٌ يعملُ بالإجرة، وأدخلَها زوجي إلى (القَبو) تحت الشرفةِ من الشرق..

اتصَلتُ أمس بصديقتي.. رَدّتْ المُمَرّضة.. قالت أنها في المشفى.. طلبتُ زميلتَها، وقلتُ لها أنني أريد منها خِدْمةً، وهي أن تشتري لي قطعةً معدنيةً دائريةً بحجمِ بلّورة المدفأة المكسورة، لأضعها مكان البلورة المكسورة.. وأن تدفع ثمنها (75) ليرة سورية.. وأن تضعَها مع (مجلات أسامة) الأربع، التي أخبرني صاحب المكتبة أنه أحضرها لي.. فطلبتُ منهُ أن يضعَها عند صديقتي، ويأخذ منها ثمنَها (مئة وعشر ليرات)..

بالأمس، يا أمي.. استغلّيت وجودي في المنزل، وأنهيت كتابة قصتي (بارعة) على اللابتوب، وأرسلتها إلى رئيس تحرير مجلة (الموقف الأدبي) عن طريق الإيميل.. لأول مرةٍ أرسلُ مادّةً للنشرِ في هذه المجلةِ الصادرةِ عن (اتحاد الكتاب العرب) في (دمشق).. وكنت قد أحضرت رقم رئيس التحرير، من الأستاذ (رياض ) عبر المحادثة على الفيسبوك.. واتصلت معه، لأستشيره إن كان بالإمكان نشر موضوع بحثٍ كتبهُ زوجي، حولَ كتاب (تاريخ صافيتا في العهد العثماني) للمرحوم الضابط المتقاعد الباحث (منير نزيه صقر) من (راس الخشوفة) لأن الموضوعَ طويل، ولا تتسع له (الأسبوع الأدبي) التي أنشر بها بين فترة وأخرى، منذ آذار 2001م حيث أرسلت قصيدتي (شرقية أنا) عن طريق الفاكس.. واتصلت برئيس التحرير الشاعر (عبد القادر الحصني) فقال لي :

– سأنشرها.. طبعاً، بعدَ أن أتاهُ الفاكس، واطّلع عليها، وأعجبَتهُ القصيدة.. قلت له حينها :

– أنا مستعجلة على النشر، لأنني كبيرةٌ بالعمر.. أنا من مواليد 1953م.. فقال :

– (والله نفس مواليدي)..

أينَ صِرنا، يا أمي..؟! ههههههه..!!

على طريقة ضحكات الفيسبوك، أو الخلوي..

أنا – دائماً – أسترسل بالحديث..

انتقدَني، بذلك – مرةً – الأستاذ (خالد )، أمام زوجي في بيت أخي (محمد).. فقلتُ له:

– إي.. أنا لا أدّعي الكمال.. لا أحد إلاّ يوجد في شخصيتهِ عيب.. (لا تنقصُني انتِقادات..!!)..

فأجابني، برَويّة:

– هذا يصلح لكتابة الروايات..!!

شكراً يا أستاذ..

لنعُدْ إلى صباح هذا اليوم.. هل لديكِ مانعٌ، يا أمي..؟!

بالتأكيد، لا…. هههه..!!

استيقظت هذا الصباح، على هاتف الدكتورة، تطمئنّ عليّ، وتخبرني أنها كانت في طرطوس..

نشرتُ الغسيلَ الملوّن، قبل أن أنزلَ إلى القرية.. كنتُ أشعرُ بارتجافِ جسمي.. أخذت حبة مرخّي عضلي.. وسألتُ زوجي الذي كان قد أنهى وجبة الحفرِ في الأرضِ  فوق (الخربة) التي تحوي ثلاث شجرات ليمون حامض، ذوات إنتاج غزير، وشبه دائم.. قال لعمتي (آمنة) التي طلبتْ أن تتكلم معه بعد أن أن أنهيتُ أنا كلامي معها على الهاتف.. أنه ممكن أن يزرعَ فيها بطاطا..

نزلتُ إلى القرية، سَيراً على الأقدام.. قال زوجي أنهُ سيَصطحبني بالسيارة، لأنني أخبَرْتُهُ أنني لستُ على مايُرام، لكنني رَفَضتُ ذلك، وقلتُ له :

– أنا أريدُ أن أمشي.. وإن تعِبْتُ، أجلس..

كانَ بابُ بيتكم – بيتنا – بيت أهلي، مَفتوحاً.. كم سَرّني ذلكَ، يا أمي..!! أكوامُ الحَطَبِ المُقَطّعِ على الشرفةِ من جهةِ الغرب.. هنا – كنا – وآه.. من كلمة “كُنّا” ..!! هنا كنا نجلسُ، ياغالية.. وتحتَ الدّرَجِ في المَدخَل، هناكَ الكثيرُ من “قرامي” الحَطَب.. قالوا لي، أنّ ابنَ أخي اشتراها من زميلهِ من قرية (الطْراق) بتسعَةَ عشرَ ألف ليرة..!! وكانَ أخي قد أحضَرَ، أيضاً، بعضَ الحَطَب، قبلَ ذلك..

في البيت، كانَ صديقُ ابن أخي.. لم أسَلّم عليهِ باليَدّ، لأنني كنتُ أخافُ أن أعديهِ بالزّكام.. سألتُهُ عن ابن أخي، قال أنّهُ يُحْضِر…..!! نسيتُ ماذا..!! وأنّ أخي قال أنهُ سيأتي.. لكنه لم يحضر، بَعْدُ.. فتَحْتُ الستائر (البَرادي)، وساعَدَني على فتحِ نافذةِ المَطبخ.. كانتْ مُغلَقةً، على غيرِ العادَة، كي لايزيدهم فتحُها من الإحساسِ بالبَرد.. قالَ أنّهما استيقظا للتّوّ..

نشَرْتُ وَجْبَةَ الغسيلِ على الحَبْلِ المَعدنيّ الأبيض، في الغرفة الغربية، خوفاً من المَطَر، إن نشَرْتُها في الخارِج.. فتحتُ نافذةَ غرفتِكِ، غرفتِنا الغربيّةِ، قليلاً، كي يتشكّلَ تَيّارٌ هوائيٌّ، يَعبُرُ غُرَفَ البيتِ، والمَمشى، ليخرجَ من نافذهِ المَطبَخِ، أو، العكس، ليتجَدّدَ الهواء.. وَضَعْتُ (مِتراً) بلاستيكيّاً جَيّدَ الصُّنعِ، كان عندي في البيت هنا، وَضَعْتُهُ في دِرجِ الماكينة (الجوكي) في (الدّرْبيّة) أو (المَمْشى) التي كنتُ قد أهدَيتُها لابنةِ أخي الغالية، عَقِبَ وفاتِكِ، يا أمي.. كَنَسْتُ السّجّادَةَ القديمةَ المَفروشَةَ تحتَ مدفأةِ الحَطَبِ المُستطيلة، في غرفتِكِ، غرفة أبي.. الشّرقيّة.. والشابّ يروحُ، ويجيءُ في البيتِ، بانتظارِ ابن أخي.. كانتْ (بارودَةُ الصّيدِ) التي يستخدِمُها الغالي، إبن الأغلى.. موضوعَةً على فِراشِهِ، في الغرفة الغربية.. وكانتْ في المَطبخِ، جُثّةُ طائرٍ كبيرةٍ، مُصطادَةٍ حَديثاً، موضوعَةً في صَحنٍ، على المَجلى..

منذُ مُدّة، قلتُ له :

– متل أبيكَ، يا عمتو.. تحبّ الصّيد…… أجابَني :

– وبواسِطَةِ بارودَتِهِ، أيضاً..

وَدّعْتُ الشابَّ، وخَرَجْتُ، مُتّجِهَةً إلى بيت أخي المُجاوِر.. نادَيْتُ منَ الخارِج :

– هل مِنْ أحَد..؟!

قالَتْ زوجته :

– تَفَضّلي..

دَخَلْتُ.. ولم أسَلّمْ على أحَد.. ولم أجلس.. لأنني مُصابة بالزكام.. وأخي الغالي، يعاني، أحياناً، منَ (التّحَسُّسِ الرّبويّ).. كان جالساً مع صهري.. أعطاني زوج أختي، راتِبَ عمّي (عَلي) (أبو مَعْن) لأعطيهِ لزوجي..

كنتُ قدِ اتصَلتُ بأختي على الخَلَوي، قبلَ أن أنزل، فأغلَقَتِ الجِهازَ، واتصَلَتْ هيَ بي، كي لا أخسَرَ ثمَنَ مُكالَمة.. سألتُها إن كانوا سيحضرونَ إلى القريةِ اليوم، قالتْ:

-نعم..

قلت :

-سأنزل، وأصطحِبُ معي بعضَ بصلاتٍ من جذورِ النرجِس (الرّنجُس) للغالي (فادي) ليزرَعَها في أرضِهِم قُرْبَ النّهْر، حولَ الغرفةِ الزراعيةِ الصغيرةِ التي بنوها من حجَرِ (الخفّان) دونَ أن يطلوها بالإسمنت.. لكنني نسيتُها، يا أمي.. المُهِمّ، أنّ أختي لم تكنْ قد حَضَرَتْ.. كانت زوجةُ أخي تخبز على الصاج (مْقَرّنات) لأختيَ الثانية.. طبعاً، بالإجرة.. كنتُ قد فَعَلتُ، مثلما كُنتِ تعلّمينا في طفولتِنا، ياغالية.. وثَبّتْتُ في ذهني هَدَفي من النزولِ إلى القرية، ثلاثة أهداف.. أن أعطي (حسَن) مِئتَين وخَمسينَ ليرة، إجرةَ اصطِحابي بسيّارتِهِ التاكسي، منذ عدّةِ أيام، إلى (بْرَيصين) ومنها إلى (الشيخ بدْر).. لم يأخذ، حينها، أجرَه.. قالَ أنهُ ليسَ مَعَهُ (فْراطَة) خمسمئة ليرة.. كانَ زوجي قد أعطاني، يومَها، خَمْسَةَ عَشَرَ ألف ليرة سورية، تكمِلَةً للراتبِ الذي يعطيني إياهُ شَهريّاً، يكفي لمُدّةِ الستّةِ أشهر القادمة، الأولى من هذا العام.. وكانَ قد أعطاني منها – سَلَفاً – خمسةَ عشرَ ألفاً، عندما اشتَريتُ (اللابتوب).. عندما هَبَطَ سعرُ الدولار الأمريكيّ إلى (148) ليرة سورية تقريباً..   أخبَرْتُ أخي، يومَها أنني أنوي شراءَ (لابتوب) لأنّ (الكمبيوتر) صارَ عاطِلاً تماماً.. وأنّ كلّ ما دَفعتُهُ لإصلاحِهِ، راحَ سُدى.. فقالَ لي :

– مازالَ لكِ معي من ثمَنِ الأرضِ، نقوداً.. كم تحتاجين..؟!

قلتُ له :

– خمسةً وعشرينَ ألفاً..

فأعطاني إياها..

ومن ثَمَن (حَلقاتِك) يا أمي، التي اشترَتها مني حفيدتُكِ الغالية.. كانَ سِعرُ غرامِ الذّهَبِ، حينها، (خمسةَ آلافٍ وأربع مئة) ليرة سورية..

تعِبَتْ يَدي، يا أمي.. سأستريحُ قليلاً.. هل تسمَحين..؟! أنتِ التي كنتِ توصينني، دائماً، ألاّ أُرهِقَ نفسي بأيِّ عَمَل………………

قُبُلاتي.. ياغالية…… نلتقي لاحِقاً، إن شاءَ الله..

*******************************************

الساعَةُ الآن، السادسة وعَشر دقائق، مساءً.. للتّوِّ، خَرَجْتُ منَ الحَمّام، يا أمي.. كنتُ قد وَصَلتُ السلْكَ الكهربائيَّ بالسّخّان، ونادِراً جداً، ما أفعَلُ ذلك.. لكنّ التيّارَ الكهربائيّ انقطَعَ قبلَ أن تتجاوَزَ الحرارةُ الخمسَ والعشرينَ دَرَجَة.. ترَكتُ السّلكَ موصولاً.. وحينَ عادَ التيّارُ، و وَصَلَتْ حَرارَةُ الماءِ إلى ما يقربُ الثلاثين، عادَ، وانقطَعَ التيَارُ الكهربائيّ.. فتركْتُ الدكتور، إبن سلفي، عندَ عَمّهِ في الصالون، ودَخَلتُ الحَمّام، قلتُ :

– حتى لو كانتِ المياهُ فاترة، سأستحِمّ..

كانت حرارةُ الماءِ مَقبولَةً.. أخذتُ معي (الكَهرباية) المَشحونة بالكَهرباء، و وَضَعْتُها على الكرسيّ الخيزران في الحَمّام، الذي كان زوجي قد اعترَضَ على إدخالِهِ إلى الحَمّام، لكنني قلتُ له :

– يَصعبُ عَليَّ الإستحمامُ بوضعيّةِ القرفصاء.. تؤلمني ساقَيّ مِنَ الخَلف.. تتخَدّر.. وظهري أيضاً.. ويصعبُ عَلَيَّ النهوضُ، إلاّ إذا تَمَسّكتُ بشيءٍ ثابت (الخَلاّط) مثلاً.. منذ سنواتٍ، قد تكونُ هذهِ الآلامُ بدأتْ معي منذُ كانَ عمري ثمانيةً وعشرينَ عاماً، عندما عُدنا منَ (المَغرِب) صيف عام 1980م.. كانَ بيتُنا عبارةً عن غرفةِ نومٍ لي ولزوجي.. وغرفةٍ أخرى (هذه التي أجلسُ فيها الآن) لبيت عمي، وحمّام ضيّق، ومِرحاض خارِجيّ.. فقرّرنا إكمالَ البيت، وإضافةَ صالونٍ، ومطبخ، وغرفةَ نومٍ ثانية.. وتوسيع الحَمّام، وجعلِ المِرحاض داخليّاً.. امتدّتْ مرحلةُ الإصلاحِ، تلك، أكثر من عشرِ سنوات.. ولم تكتمِلْ، بعد.. تعبنا خلال تلكَ السنوات بشكلٍ كبير..

كم كانتْ حَماتي دافئةً، يا أمي..!!

أمي.. أظنُّ أنّكِ ستُقاطِعينني الآن، على غيرِ عادَتِكِ، ياغالية، وتسألينني ماذا عَملتُ نهارَ اليوم..سأخبرُكِ ياأمي..(( هنا، يا أمي.. حُذِفَتْ فقَرةٌ مما كتَبتُ على هذا الجهاز.. نتيجةً برنامجِ التنسيق.. ليستْ مُهِمّة.. لذلكَ، سأكمِل، دون أن أعودَ إلى كتابَتِها.. خوفاً من أن يحدُثَ لفقرةٍ غيرِها، ماحَدَثَ لها..!!))

………….كنتُ أرفعُ قَبّةَ جاكيتِ الصوفِ ذاتِ اللونِ القرميديّ، الذي أحبّه، والتي حِكتُها منذُ سَنوات، بِجَدلاتٍ مُتداخِلة، مُتطاولة جميلة جداً.. بينها بعض (حَبّات الحمّص) تزيدُها جَمالاً.. طويلة، تصلُ إلى مُنتَصَفِ فَخذَيّ.. (ألا تذكرينَ أنكِ علّمتِني، بصبرٍ بالغٍ، شغلَ الصوف..؟! كان ذلكَ، عندما كنتُ في الصفِّ الرابعِ الإبتدائيّ.. كانتِ الكنزةُ الأولى التي أشرفتِ على حياكتي لها، من خيوطِ الصوفِ البُنّيةِ اللون.. حِكتُها، بإشرافِكِ، يا أمي، لأخي اسماعيل.. كنتِ تتركينَ عمَلكِ، وتأتينَ إليّ، لتُصَحِّحي لي خطأً في الشغل، حينَ أستنجِدُ بكِ، عندما تفلتُ إحدى القُطَبِ، ولا أعرفُ كيفَ أعيدُها إلى مكانِها.. أو عندما أخطئُ في الشغل.. حتى اكتملتِ الكنزة.. )

كنتُ أرفعُ القَبّةَ كُلّما هَبّتْ نَسمَةٌ قويّةٌ بارِدَة جداً، على نَقرَتي المُتعَرِّقَة بغزارَة..

بجَهدٍ، وَصَلْتُ البيت.. كان زوجي قد عادَ ليَحفرَ في الأرض.. المفتاحُ منَ الخارج.. دخَلْتُ.. نادَيتُهُ، لكنّهُ كان في الخارج.. عرفتُ ذلكَ من صَوتِ الفأسِ التي تحفرُ فوق البيتِ من الشّمال، عندما دَخَلتُ التواليت.. ثمّ المَطبخ.. وعندما فَتَحَ الباب، قُلتُ لهُ، بهدوء:

– أنا هنا..

كي لا (يَقفُط) حينَ يتفاجأ بوُجودي..

قال:

– لماذا أتَيْتِ، فوراً..؟!

قُلت:

– أختي لم تحضر.. و..و..

وأعطَيتُهُ راتبَ عَمّي.. جَلَيتُ الأواني، بعدَ أن استَرَحْتُ قليلاً.. وأوْقَدْتُ مِدفأةَ المازوت هذه.. وجَلَيتُ الغاز، و (عَدّيْتُ) الغسيلاتِ عنِ الحَبل.. نشَرْتُها على الديفون، هنا، يا أمي.. كي تجفَّ من حَرارَةِ الغُرفة.. وطَوَيتُ الغسيلَ الأبيضَ الجافّ، و وَضَعْتُ ثيابي، وثياب زوجي، والمناشف، في مكانها في الخزانة.. (زوجي يناديني الآن : أنا ذاهبٌ إلى بيت أخي) أجَبْتُهُ: (إي، ألله مَعَك……) يبدو أنّ ابنَ أخيه قَد ذَهَبَ، بعدَ أن شَرِبَ الشاي.. كنتُ قد وَضَعْتُ المزيدَ من الحَطَبِ الناعِمِ في مِدفأةِ الحَطَب، عندما دَخَلَ الدكتور.. كانَ عَمُّهُ على السّطح، يُغْلِقُ شيئاً ما (سِكْر) لينزلَ الماءُ الساخِنُ من الصنبور (الحَنَفيّة) عندما أفتَحُ السّخّانَ الكهربائيّ.. ما زلتُ لا أعرفُ ماذا أغلقُ، وماذا أفتَحُ على السّطحِ، من تداخُلِ التمديدات، وقساطِل المياه.. وكان زوجي قد رَكّبَ السّخّان الشّمسيّ الحالي بواسطة المهندس إبن عمتي، دونَ أن أعرف..

******************************************************************

السادسة والنصف صباح السبت الحادي عشر من كانون الثاني (يناير) 2014م

كم يفوتنا، عندما يأخذنا النوم، أو التجاهل، ولا نستيقظ باكراً، كما كان يفعلُ أسلافُنا..!!

استيقظتُ في حوالي الخامسة من هذا الصباح، أيّ، قبلَ ساعةٍ ونصف.. خرجتُ إلى الحمام.. أطفأتُ لمبةَ المطبخ، و وضعتُ اللمبةَ الحلزونيةَ الموفِّرةَ للطاقةِ، في (البريز) وعدتُ إلى الفراش.. يشغلني الكثير.. خصوصاً، الروايةُ هذه (إلى اللقاء يا أمي).. دوّنت على شاشةِ جهازيَ الخَلَويّ، رؤوسَ أقلامٍ، عليّ كتابتُها في هذه الرواية.. سمعتُ صوتَ فتحِ بابِ غرفةِ النومِ الغربيةِ ذاتِ السريرَين.. زوجي خرجَ إلى الحمّام، ثم عادَ إلى الغرفة.. لم آتِ بحِراكٍ، كي لا يشغلهُ استيقاظيَ المُبْكِر.. لم تعدْ بي حاجةٌ إلى النوم، لكنني أتجشّأ الكثيرَ من الغازاتِ، وأشعر ُبالبردِ، ويؤلمني بطني وأكتافي (وتاتيبي)..!! نهضتُ قبلَ دقائق، خرجتُ إلى الحمام، ثم عدتُ وبدّلتُ ثيابَ النومِ بثيابِ الخروج (بنطاليَ البنيّ، القطنيّ السميك “الجينز” الذي اشتريتُهُ مع آخرَ أسود (هو الآن في المصبَغة) عندما أعطتنا البلَديّةُ ثمنَ الأرضِ التي أعطانا إياها أبي الغالي.. ولبستُ الخُفّ “القَدَم” تحتَ الجراب الأسود الموشّى بالأبيض.. ولبستُ البلوزةَ الصوفيةَ ذاتَ اللونِ (البيج) التي حكتُها منذ حوالي سنتين، كنتُ – حينها – عندكِ، يا أمي، على ما أظنّ.. حكتُ أخرى صوفيّةً حمراءَ، عقبَ وفاةِ أبي.. إذ كنتُ لا أستطيعُ التركيزَ على شيء.. قراءة.. كتابة.. وغيرِ ذلك.. فأحضَرتُ صوفَ الكنزتين، وبدأتُ بالأولى الحمراءِ الجميلة، ربما أردتُ تحدّي الحزنِ على وفاةِ أبي الغالي، بالإشتغالِ باللونِ الأحمر.. لم ألبسْ أسودَ – أبداً – يا أمي، ولا أريدُ أن ألبس.. يكفي ظلامُ الحزنِ على مَن يرحَلُ قبلنا من الغوالي.. أريدُ أن أعيشَ ما كُتِبَ لي، بأقَلّ الخسائر، خصوصاً أنني لستُ من (الوَسَطيّين).. إن حزنتُ، أحزنُ بكلّ ذاتي.. وكذلكَ إن كرهت.. لكنني أكرَهُ أعمالاً.. لا أشخاصاً.. وكذلكَ، عندما أحبُّ.. أو أفرح..

المهمّ، يا أمي..

بعدَ أن لبستُ ثيابي، وبالمناسبة، مازلتُ أشعرُ بالبردِ يلسعُ ظهري، وأنا في الفراشِ، أتدثّرُ ببطّانيةٍ تحتَ اللحافِ، وأخرى فوقه.. سميكتينِ، ناعمتينِ مزهّرَتين، من صنع (الشركة السورية – السعودية) .. وأشعر بالغيظ، عند لفظ (السعودية) الضالعة حتى العظم، فيما يحدثُ من دماءٍ، ودَمارٍ في بلدنا الغالي.. سورية..

خرجتُ إلى الشّرفة التي تغطيها، أو تحجُبُها عنِ الخارجِ، واجِهَةٌ زجاجيةٌ، يحيطها معدنُ الألمنيوم..

يا للرّوعَةِ، يا أمي..!!

يا للسّحر..!!

أللـــــــــــه..!! ما أجملَ صباحاتك..!!

جبالك..!! وِديانك..!! بيوتك الوادِعة..!! قُراكِ الحَزينةِ الكادِحَة..!!

يا أللــــــــه… !! يا أللـــــه… ما أجمَلَ هذا الصباح..!! وبالتأكيد، كلّ الصباحات.. لكننا غالباً على غفلةٍ منَ الجمالِ الذي مَنحتْنا إياهُ الطبيعة.. والقوّةُ الخالقةُ لنا وللطبيعة..

أللـــــــه.. يا أمي..!!

سِحْرٌ.. وجمال.. قبلَ شروقِ الشمس.. لكِ أن تتصوّري…

هدوء.. سكون.. سحر.. جَلال.. شَفَقٌ أحمر.. بعض الغيوم الزرق.. عصفورٌ ينطُّ على الشرفةِ منَ الخارج، ظننتُهُ ضِفدعاً.. لكنني تأكّدْتُ أنهُ عصفورٌ صغيرٌ، جاءَ يلتمسُ بعضَ الدِّفءِ قربَ زجاجِ الشرفةِ منَ الخارج، حينَ نَطّ و وَقَفَ منكمِشاً على نفسهِ، على حَديدِ  الشرفة.. خافَ مني يا أمي.. تصَوّري..!! قفزَ بعيداً.. وقفزتْ روحي خلفَه.. وخلفَ هذا السحرِ الحَلال.. شَهَقتُ من نَشوَتي.. وعُدْتُ أبحثُ عن دفترٍ آخرَ أكتبُ عليهِ شعوري، وقدِ أكملُ على صفحاتهِ روايتي هذهِ، قبلَ أن أنقلَها إلى (اللابتوب) ثمّ أطبَعها، وأنسَخها على (سي دي) وأرسِلها إلى النشر..

الدفترُ القديمُ امتلأ منذ المساء.. وكنتُ قد كتبتُ على دفترٍ آخرَ، بعضاً من أحداثِ هذهِ الرواية، لكنني وجدتهُ هوَ الآخر شبه ممتلئٍ بالكثير من (الخربشات) الشعريةِ، وغيرِها.. فتناوَلتُ هذا الدّفتَرَ ذي الجلدِ السميكِ والجميل.. كم أحبُّ الدفاترَ والكتُبَ، يا أمي..!! وكم أتفَنّنُ في شراءِ أجمَلِها..!! كما كان يفعلُ أخي الغالي، والأحَبّ (اسماعيل) رحمه الله.. كانَ يُحِبُّ الأقلامَ الجميلةَ، أيضاً.. ويتفنّنُ في شِرائها.. بل، كانَ يعشَقُ كلّ شيء جميل…….. وللبَحْثِ وَقتٌ آخر..!!

هذا الدفترُ الذي يربط أوراقهُ ببعضِها سِلكٌ معدنيٌّ حلزونيّ الشكل.. أوراقه ذاتُ خطوطٍ مُربّعة، طالما أحببتُ الكتابةَ عليها، أكثرَ من ذاتِ الخطوطِ المتوازية..!! هل كان هذا النموذجُ منَ الدفاترِ مخصّصاً لكتابةِ لغةٍ أخرى غيرِ اللغةِ العربيةِ، أو الإنكليزيةِ، التي لها شكلٌ آخر..؟! ربما..!! هل هو مخصّصٌ لكتابةِ اللغةِ (الصينية) مثلاً.. أو (اليابانية)..؟! أو…!! المهم، أنا سعيدةٌ لأنني أكتبُ عليه.. لكنني لا أعتني بالخطِ، أبداً.. بل، أكتبُ بسرعةٍ بالغة، غيرَ عابئةٍ بجمالِ خطي، أو الكتابةِ على السطر.. كي ألحَقَ الفكرة..

صارت الساعة السابعة، يا أمي..

أستودِعُك الله….. برعايةِ الرحمنِ يا أميَ الغالية..

سأتدثّرُ جيداً، بعد أن أخرجَ إلى الحمّام، وأعود.. أنتظرُ تحتَ اللحافِ، أو الغطاء.. قد أغفو قليلاً.. وقد لا أفعل.. وقد أنزلُ مع صديقتي بسيارتها، إلى (الشيخ بدر).. نجلسُ في عيادتِها الباردة، نوقدُ مدفأةَ المازوتِ الصغيرة.. أو تكون المُمَرِّضة قد أوقدَتها، ومسَحَتْ رخامَ العيادة….. سأصطحبُ معي اللابتوب.. أدخلُ بواسطتِهِ على النِّت، والفيسبوك، بسهولةٍ وسرعةٍ أكبر.. فهيَ لديها (آ دي أس أل ) أما أنا، فأدخلُ عن طريقِ البطاقة.. (سوا) (آية) (رن نت) (الجمعية) التي أفضّلها على غيرها من البطاقات..

إلى اللقاء، يا أمي……….

*******************************************

اليوم، يا أمي، كان السبت الثامن عشر من كانون الثاني (يناير) عام 2014م..

بعد أخبار قناة (الأرضيّة السورية).. (الدّش) عندنا معطَّل..!! عُرِضَ ما يشبه التقرير عن (مَجازر مَساكن “عَدْرا” العُمّاليّة )

دَخَلَ المُجرِمونَ (كلّهم من جنسيات غير سورية) حَسبَ قولِ أحَدِ الناجينَ مِنَ المَجازر.. دَخَلوا المَدينةَ من جِهَة (دوما) على ما أظنّ.. ويبدو أنّهم كانوا هارِبينَ من (مَعركَة القلَمون) التي يقوم بها الجيشُ العربيّ السوريّ، البطل، وغيرُهُ من قِوى المُقاوَمة (حزب الله) (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) (من مصر.. هناك شهيد) من (اليَمَن) منَ الكثير من القِوى التي تدعَمُ المُقاوَمة..

هَجَموا في الساعةِ الخامسةِ والنصفِ فَجْراً، على المَساكِن.. قَطَعوا رأسَ (أبو حازم..!!) نعرفُهُ كُلُّنا.. وأحضروهُ لنا… دافَعْنا (كانَ معي مُسَدّسٌ مُرَخّص) و (رَبيع) عَسكري، كان معهُ (روسيّة).. دافَعْنا قَدْرَ الإمكان.. قاوَمناهُم (أنا قتلتُ إرهابياً).. وَضَعْنا النساءَ والأطفالَ، في جانبٍ منَ البنايةِ التي يُهاجِمونها.. وصِرنا نقاوِمُهُم من جانبٍ آخر.. كي نضَلّلَهُم عنِ النساءِ، والأطفال (مازالَ هناكَ مُحتجَزينَ في الأقبيَة، كدُروعٍ بَشَريّة، مع المُجرِمين).. كانوا يمنعونَ تقدُّمَ الجيشِ، بأن يَصعَدوا إلى الأسطِحة، ومَعَهُم أطفال.. وكُلّما تقدّمَ الجيشُ قليلاً، كانَ المُجرِمونَ يُلقونَ بَعْضَ الأطفالِ عن أسطُحِ البناياتِ، أمامَ أعيُنِ الجيش.. فيُحجِمُ الجيشُ عنِ التّقَدُّمِ، كي لا يموتَ الأطفال..

اغتَصَبوا بَعضَ النساءِ، والبَنات.. حَرَقوا البنايَةَ بما فيها، ومَن فيها.. قَطَعوا الرؤوسَ.. ومَثّلوا بالجُثَث.. (أنا نجوتُ بأعجوبَة..) (رَبيع، استُشهِد).. مَشيتُ أنا و صَديقي بينَ المُسَلَّحينَ، بعدَ أن قَتَلوا الكثيرَ منَ النساءِ، والأطفال.. ومن بينهم، زوجَتي، وطفلي ذي الأربعةِ أعوام.. والآخر عُمرهُ عامٌ واحد.. أنا ضَحّيتُ من أجلِ هذا الوطن، بثلاثة.. وغيري ضَحّى بأكثَر.. ربّما بعائلاتٍ بأكمَلِها.. حَرَقوا النساءَ، والأطفال (الحمدُ لله، كانوا مستَشهَدينَ، قبل أن يحرقوا جُثَثَهُم).. (زوجتي، وأبنائي ” ويبكي بقَهْرٍ مَكْبوت” استُشهِدوا، قَتَلوهُم بطريقةٍ بَشِعة.. بَشِعَة جداً.. جداً.. “ويشهَق”.. عندما استُشهِدَتْ كلُّ عائلاتِنا.. ولم يَعُدْ مَعَنا سلاحٌ، ولا شيء.. قلنا: لم يَعُدْ عندنا مَن ندافعُ عنهُ.. ونحنُ.. مَيّتونَ.. مَيّتون لا مَحالَة.. قالَ رَفيقي : سيروا رافِعينَ رؤوسَكم.. فَمَشينا بينَ المُسَلَّحينَ، حتى وَصَلنا “بعِنايَةِ اللهِ” إلى أوّلِ حاجِزٍ للجيش.. فسَلّمناهم أنفُسَنا.. لن أقولَ لكِ (يبدو أنّ مُذيعَة كانت تُجري اللقاء) أيّ طريقٍ سَلَكْتُ، حتى نَجَوْت.. كي لا يعرفَ بهِ (المُسَلَّحون)…

الشهداءُ كانوا من كلّ أطيافِ الشّعبِ السوريّ.. (سُنّى – مَسيحيون – عَلَويّون – دُروز – شِيعَة – أكراد…… إلخ )

كانوا يُقيمونَ الحَدَّ على مَن يُخالفهم.. مثلاً.. على مَن يشربُ التبغ.. رَفيقي خَرَجَ “مستوي” منَ الجَلْد..

امرأةٌ، لم تُظهِر وَجهَها.. كانتْ تتكلّمُ وهيَ متخفّيَةً خلفَ مجموعَةٍ منَ الصِّبيَةِ، يحجبونها عنِ الكاميرا.. بينما المُذيعُ الشابُّ، الذي يَظهَرُ على الشاشَةِ، يسألُها، وهيَ تروي..

قالتْ أنهم نَهَروهم عندما رأوهُم يجلسونَ، نساءً، ورجالاً.. قالوا أنّ ذلكَ (حَرامٌ بالشَّرْع)……………. إلخ

قارَبَتِ الثانيَةُ بعدَ منتصَفِ الليلِ، يا أمي……

فأستودِعُكِ الرَحمن الرحيم… و.. إلى اللقاء….

*******************************************

الساعة الآن تُقارِبُ الواحِدَة، ليلَ الإثنين – الثلاثاء، العشرين، والحادي والعشرين من كانون الثاني (يناير) عام 2014م.

بعدَ ظهرِ الأمس، الإثنين، تغدّيتُ في بيتكم- بيتنا- بيت أهلي.. رزّ مع عَديس.. أحضَرْتُ كأسَ لَبَنٍ كبيرةٍ من عندِ زوجةِ أخي.. خَلَطتُها مع الرزّ.. وأكلتُها.. ثمّ أخذتُ الدّواءَ، وطلعْتُ إلى (المَبَرّة) لأعَزّي بالغالي الشابّ المهندس المُلازم أوّل في أكاديميّة الأسَد للهَندَسة العسكرية، شَهيد (مَشفى الكِنْدي) في حَلَب (بُنيان بَدْر وَنّوس)..

*******************************************

أمي..

الساعةُ الآن تجاوَزَتِ السادِسَة مساءً، بعِدّةِ دَقائق، من مساءِ يومِ الإثنين السابع والعشرين من كانون الثاني عام 2014م..

سأروي لكِ بَعضاً ممّا حَدَثَ معي اليوم.. لكن، قبلَ ذلكَ سأبَشّرُكِ بأنّ الدنيا تبرُقُ، وترعُدُ الآن، ومن قبلِ أقَلّ من ساعة، عندما كنتُ آتيةً من بيتكم- بيتنا- بيت أهلي، في القرية..

كنتُ قدِ استيقظتُ في السابعة والربع صباحاً.. لبستُ ثيابي، وجَهّزتُ نفسي لأصطحِبَ معي تسعةَ قطع (مْحَمّرَة) واللابتوب، ودوائي، ومفتاحي، وبعضَ النقود.. وأنزلُ سيراً على الأقدامِ إلى (الشيخ بدر).. لكنّ الغالية صديقتي الدكتورة (عَلّمَتْ) لي على الخَلَوي قبلَ الثامنة بحوالي عشرِ دقائق.. فأغلقتُ اتصالّها، و (عَلّمْتُ) لها، أيضاً.. يعني: أنا جاهزة.. فَمَشيتُ غرباً، نحوَ بيتهِم، حوالي خَمسينَ متراً.. عابَثتُها، وعابَثتُ طِفلَيها الغاليَين، بأن لَوّحْتُ لهم، شِبْهَ راقِصَةٍ، بكِيسِ (المْحَمّرَة).. و وَقَفتُ، لثواني، في مُنتَصَفِ الطريقِ، أمامَ سيّارَتِها.. ثمّ صَعَدْتُ إلى جانبِها، عندما أوقَفتْها ضاحِكَةً.. قلتُ للطّفلَين الغاليَين:- اليوم ليسَ هناكَ من قُبلاتٍ،لأني مُصابَةٌ بالزّكام.. لكنني قَبّلتُ يدَ الغالي (حَسَن) ثمّ مَسَحْتُها عِدّةَ مَرّات.. الغالي (علي) اختبأ عنّي خَلفَ مسندِ المقعَدِ، وراحَ يَعوي، ويَنبحُ، كأنّهُ كَلب.. فصِرْتُ أردُّ عَليهِ بنباحٍ أقوى.. قال لي (حَسَن): هذا ليس (علي) هذا (توتو).. قلتُ لهُ، وأنا أمُدُّ يَدي إلى خَلفِ المقعَدِ، لألمسَ جَسَدَهُ الصغيرَ الغالي، عَبَثاً.. لأنّهُ رَفَعَ ساقَيهِ نحوَ زُجاجِ النافذة، فلم أستطِعْ لَمْسَه (أنتَ كلب.. وأنا ضَبعَة.. كيفَ يكونُ صوتُ الضّبْعَة، يا (حَسَن)..؟! ) قال: وووووو….. وهوَ يزمُّ شَفَتيهِ بقوّة.. فصِرْتُ أعوي بقوّة : أووووووووو.. و (علي) ينبح……..!!

أمي.. هاتي البِشارَة.. المَطَرُ يهطِلُ بغزارَةٍ على الشّرْفة.

الحمدُ لله.. الحمدُ لله.. الحَمدُ لله.. أخشى على اللابتوب منَ البَرْقِ، والرّعْد.. فقدِ انتهى شَحنُهُ قبلَ قليل، قبلَ أن تأتي الكهرباءُ في الساعةِ السادِسة.. كانَ من المُفتَرَضِ أن تنقطِعَ منَ الرابعةِ، إلى الخامسةِ والنصف.. ثمّ، منَ الثامنةِ والنصفِ، إلى العاشرةِ، ليلاً.. أمّا في الصّباح، فمِنَ السابعةِ، حتى العاشِرة.. هكذا أخبَرَني أحَدُ مُوَظّفيّ الكهرباء..

انتقَلتُ الآن منَ الصالون، إلى غرفتي، لأنني شَعَرْتُ بالبَرْدِ الشديدِ يَلسَعُ ظهري.. هنا أجلسُ قربَ مدفأةِ المازوت التي أوقَدتُها قبلَ حَوالي عشرِ دقائق.. الآن (طَقّت) البَلّورَة، تماماً.. طَفَيتُ المدفأة، حتى تبرُدَ، ثمّ أنزَعُ الزجاجَةَ المَكسورَةَ منذُ مُدّة.. وكنتُ أعيدُ لَصقَها بواسطةِ (الشّعلة).. لكنني أوصَيتُ مُمَرّضة الدكتور (محمد) منذ أكثرَ من نصفِ شَهرٍ، أن تشتريَ لي رقيقَةً مَعدَنيّةً دائريةً، مُخَصَّصَةً كبديلٍ لزُجاجاتِ المدافئ.. فاشترَتها لي بخمسةٍ وسَبعين ليرةً سوريّة.. لكنّ الزُّجاجَةَ حَرَنَتْ، ولم تعُدْ تنكسِر، وتسقط، حتى هذهِ اللحظة..

هل تعرفينَ  ياأمي..؟!! ظهري مُسَقّع.. يا الله، تكادُ المدفأةُ تنطفئ.. ومنَ المؤكّدِ أنها لن تحتاجٌ إلى وقتٍ طويلٍ كي تبرُدَ، لأنها لم تَحْمَ كثيراً، بَعْدُ..

مازالَ الرّعْدُ متوسّطُ القوّةِ، يَهدُرُ بينَ فترَةٍ، وأخرى.. (أللهُمّ صَلِّ على النبي).. كم كنتِ تخافينَ الرّعْدَ، يا أميَ الغالية..!! أو، بالأحرى، كم كنتِ تخافينَ من أيِّ شيءٍ عَنيفٍ، يهُزُّ سَلامَ روحِكِ المُسالِمَةِ، الطّيّبة..!!

سأحاولُ تبديلَ زُجاجَةِ المدفأة، وأعود..

إلى اللقاء يا أمي………..

بَدّلتُها بسهولةٍ، يا أمي..

حَضَرَ زوجي، وأنا أثبّتُها.. قال:

– يا الله…..

في إشارَةٍ إلى أنهُ هوَ الذي دَخَل… فقلت:

– إي…..

أعني، عَرفتُ..

أخبَرْتُهُ أنني بَدّلتُ زجاجَةَ المدفأة.. وأنّ أحد الشعراءِ غيرِ اللطيف، كان قدِ اتصَلَ بي بعدَ وصولي بقليل.. كنتُ أجمَعُ الزبالةَ من الحَمّامِ، والواليت، والمطبخ، وكنتُ قد ربطتُ الكيسَ الأسوَدَ جيداً، حينَ رَنّ الهاتفُ الأرضيٌّ طويلاً.. فبحثتُ عن مِنديلٍ وَرَقيٍّ لأمسكَ بهِ سَمّاعَةَ الهاتف..

– مَن..؟!

– أنا أخوكِ أبو (فلان )

– مَن أبو (فلان )..؟!

– ألم تعرفيني..؟! أنا (فلان)..

هنا شَرحٌ طويلٌ لا أجدهُ لازماً.. لذلكَ، لن أنقلَهُ إلى اللابتوب..

المُهِمّ، يا أمي.. الآن أكادُ أشعُرُ بالدّفء.. لكنني منذُ الظهر وأنا أشعُرُ بالحاجَةِ إلى التقيّؤ.. وأشعُرُ أنّ جسمي ليسَ على مايُرام.. أخذتُ قبلَ حوالي نصف ساعة حَبّةَ (موتين).. ولم يتغيّر الإحساسُ كثيراً..

(الآن يناديني زوجي من قربِ البابِ الخارجيّ: أنا ذاهبٌ إلى بيت أخي.. قلتُ له: إي.. ألله معك.. ) هاهوَ يُغلِقُ البابَ خلفهُ يا أمي.. و قد يقفلهُ بالمفتاح، كما طَلَبْتُ منهُ عِدّةَ مَرّات.. فلم يعُدْ هنالكَ أمانٌ كما كانَ قبلَ حوالي ثلاثِ سنوات من هذهِ الحَرب…

يزعجني جداً شعوري بالحاجة إلى التقيّؤ.. وأحار.. هل أقومُ إلى المغسلة، أو التواليت، وأحَرّضُ معدتي بواسطة سَبّابَتي..؟! أم أنَّ ذلكَ خطأ..؟! تسألينني ماذا أكلتُ اليوم..؟! أكلتُ في الصباحِ قطعةَ (مْحَمّرَة) وكأساً من الشاي، في عيادةِ صديقتي.. وأكلتُ (قضوضة) شوكولا، من صنعِها.. أعطتني كميةً منها عندما نزلتُ معها بالسيارةِ هذا الصباح، قالت : هذهِ هَديّةٌ من (علوشة وحسونة ).. شكرُتها وشكرتُهما، وأعربتُ عن سعادتي بهذهِ الهديةِ الغالية..

ذهبتْ إلى طرطوس لتجري عملية لإحدى المريضات..

حملتُ اللابتوب، وذهبتُ إلى أحدِ معارِفنا، في محلهِ، ليُجري لي بعضَ الرّتوشِ على استخدامي له، كفتحِ الفيديو عن طريقِ النت أو الفيسبوك، وتقطيعِ اللقاءِ الإذاعيِّ الذي أجرَتهُ معي الإعلامية (صباح ابراهيم) على هوا (أمواج) منذ مدّة.. لأنشرَهُ – كرابط- على صفحتي ، ليستمعَ إليهِ مَن يريد.. لم أجدْه.. قالَ ليَ الشابُّ الذي في المحل:

– اتركيهِ حتى يأتي.. هوَ يعرفُ هذهِ الأمور أكثرَ مني.. (الفيديو) فتحَ معهُ فوراً..

قال: – إذن، لا يفتحُ عندكِ من بطءِ النت، لأنكِ تدخلينَ من بطاقة.. قلتُ له: حتى عندَ الدكتورة لم يفتح.. ربما سُرعةُ النت لها علاقةٌ بالموضوع.. تركتُهُ في المحلّ، واتصلتُ ببيتِ أخي الغالي.. أجابَ هوَ بصوتٍ أجّشّ.. سألتُهُ إن كانَ مناسِباً أن أزورَهم في ذلكَ الوقت، قال:

– زوجتي في المستوصَف، وأنا جالسٌ بمفردي..

قلت له : – أنا ذاهبة….

شربتُ معهُ المتةَ معَ الزعترِ البريّ (عرانيس) مع السكّر.. حضرَ ابنُهُ الغالي.. بفرَحٍ غامِر تعانقنا.. قال: -هل نعملُ غلافَ الكتابِ الآن..؟!

قلت له: – لاحقاً ياحبيبي..

وكان قد أخبرَني على الهاتفِ منذ مدّة، أنهُ ألّفَ كتاباً معَ رسومِهِ المناسِبة.. وطلبَ مني أن أصنعَ لهُ غلافاً.. ظاناً أنني أنا التي أصَمّمُ أغلفَةَ كتُبي، وأثبّتها على الصفحات، وليستِ المطبعة.. بعد قليل، جاءتِ الغاليةُ أمه.. نحن نناديها باسمِها، فقط.. دونَ لقبِ دكتورة.. لأنها قريبتُنا.. وقدِ اعتدنا ذلك…… رحّبَتْ بي جداً.. تبادَلنا القبل.. كان الصغيرُ قد وضعَ بنفسِهِ ثلاث قطع من لَفّات الملفوفِ  المطبوخِ، المحشوِّ بالرز واللحمِ، في صحن.. وملأ زبديةً من الحجمِ الوسَط ب (المتبّلة) وجلسَ يأكلها، بعدَ أن طلبتُ منهُ أن يغسلَ يديهِ و وجهَهُ قبلَ الطعامِ، ففعل.. أثنى عليهِ أبوه، لأنهُ وضعَ لنفسِهِ الطعامَ، وقالَ له :

– أخبرْ ماما عندما تأتي، أنكَ فعلتَ ذلك، لتسَرّ منك.. اتصلتْ خالتُه، حبيبةُ قلبِكِ.. ردّ الصغير.. أغلقَ السماعةَ فرِحاً، وراحَ ينطّ ويقول:

– خالتي تدعوني لتناوُلِ ورقِ العنب.. دائماً.. كلّ يوم ٍتدعوني إلى الغداء….

لكنهُ جلسَ ليكمِلَ طعامَه.. وبعدَ قليلٍ، أرسلت خالتُهُ جاطاً زجاجياً (بيركس) مليئاً بورقِ العنبِ الساخن، وقطعٍ لا بأسَ بها منَ اللحم.. أظنّ أنهُ لحم خروف.. جلستْ زوجةُ أخي قربَهُ، وراحت تأكل، لكنهُ تمدّدَ على الصوفا، ونام.. دَعَتني إلى الطعامِ، بإلحاح.. قلتُ لها :

-شكراً.. لستُ جائعة.. أنا في بيتي.. ولا داعي للإلحاح..

قالت: – والله وأعَزّ..

أجبرَتني على تذوّقِ قطعةٍ منَ اللحمِ الناضجِ جيداً.. طلبتُ أن تكونَ صغيرةً جداً، لأنني لا أحبّ اللحم.. وكان ذلك… أنهى الصغيرُ طعامَه وأقبلَ على صحنِ (الشوكولا) الذي نزعْتُ عنهُ كيسَ النايلون، عملتْ له أمهُ منها (قضوضة) أتى ابنُ أختِها الصغرى، من غرفةِ السطحِ، التي كان يدرسُ فيها مُحَضّراً للشهادةِ الثانوية الفرع العلمي.. وابن أخي، يحضّرُ لامتحاناتِ الفصلِ الأولِ من السنةِ الأولى (طبّ بَشَري) في طرطوس….. أكلنا نحن الخمسة منَ الشوكولا.. جلى ابنُ أخي الصحن.. وضعتُهُ في كيسٍ، وحمَلتُهُ معي إلى بيت أخي المُسافِر.. جلستُ حوالي عشر دقائق، فقط.. كانتِ الساعة قد تجاوزتِ الثانيةَ والنصف ظهراً.. الكُلُّ نائمٌ، إلاّ ابنتُهُ الصغرى، وأخوها الأصغر.. البابُ مُغلقٌ على غرَفِ النومِ والمطبخ.. جلسْنا ثلاثتُنا في الغرفة.. أخبرتني ابنةُ أخي أنها أصبحتْ (أدمِن) صفحةٍ على الفيسبوك.. وأنّ لديها الوقتُ لذلكَ، لأنها ستتخرّجُ هذا العام، إن شاء الله، في الجامعة (تشرين) (اللاذقية) مُجازةً في مادّة (الجغرافيا).. سألتُها عن أختها.. وكانت  قد أخبرَتني من يومَين عندما وضعتُ لها صورةَ قلبٍ أحمر، على المُحادَثة، كتَحيّة، أنها قد أجْرَتْ عمليةَ (ليزر) على عينيها..

– ألا تريدينَ أن تأتي إلى عندِنا، لترَينها، ياعمتي..؟!

– إن شاءَ الله.. الحمدُ للهِ على السلامة..

خَرَجْتُ من بيتهم إلى مَحَلّ الكمبيوتر.. كان صاحبهُ موجوداً.. جلستُ عندهم أكثرَ من نصفِ ساعةٍ، وهو يحاولُ أن يقطّعَ لي اللقاءَ الإذاعيّ.. لكنهُ، في النهايةِ، حفظهُ عندهُ، وأخبَرَني أنهُ سيشتغلُ بهِ كلَّ ما يستطيع، ليحاولَ نَقلَهُ على (اليوتيوب) بشكلٍ كامِل.. ويضعَ لي الرابطَ على صفحتي.. اشترَيتُ من عندِه بطاقَتَيّ نت (جمعية) كلّ بطاقةٍ بمئةِ ليرة.. كانت زوجةُ أخي، قد طَلَبَتْ مني أن أتصلَ معها عندما أنهي عَمَلي، لتنقلَني إلى بَيتي (هُنا) بالسيارة..

عندما خرَجتُ من المحلّ، مَدَدْتُ يدي إلى جهازيَ الخَلَويِّ، لأتصِلَ معَها، وما كدتُ ألمسَهُ حتى صارَ يرتجُّ بين أصابعي.. كانتِ الغاليةُ على الطرفِ الثاني منَ الخطّ الخلوي، تسألني إن كنتُ قد أنهَيتُ عملي..

حضرتُ إلى أمامِ بيتهم، انتظرتُ قربَ السيارةِ، إلى أن نزلَتْ من بيتهم، هيَ والغالي الصغير.. وأحضراني إلى هنا..

أخبَرْتُ زوجي بذلك.. فعَبّرَ عن سُرورِه.. بقيتُ بثيابِ الخروج.. وجَمَعْتُ كميّةً من أكياسِ النايلون الصغيرةِ جداً، والأكبرِ، والأكبر.. ثلاث مقاسات.. كنتُ قد احتفظتُ بها من مُحتوَياتِ (المَحَلّ).. رَمَيتُ بحقيبتي الصغيرةِ المعطوبةِ إلى سلةِ الزبالة.. و وضعتُ نقودي ودوائي والمفتاحَ في الحقيبةِ السوداءِ الصغيرةِ الجميلة.. وأخبَرْتُ زوجي أنني نازلةٌ إلى القرية.. كان (محمد) إبن جيراننا يُطلِقُ بوقَ سيّارَتِهِ أمامَ بيتنا، ليخرجَ زوجي، وينزلَ معهُ ليجتمعوا مع وفدٍ من أهلِ القرية (صندوق القرية الخَيريّ) ليَتركوا سَياراتهم، أو موتوراتهم.. قُرْبَ المَبَرّة (مَبَرّة الإمام علي زين العابدين) عليهِ السلام.. ويستأجروا (مِيكروباص) ينقلهم من قريةٍ، إلى أخرى.. للتعازي بالشهداء.. وبالمُتَوَفّين طبيعياً.. حاملينَ مَعَهُم لكلّ شهيدٍ، إكليلاً دائرياً من الزهر.. و (شهادة فخرٍ واعتزازٍ مُبروَزَة) و كلمةً يلقيها أحدُهم كتعزيةٍ بالشهيدِ، وهو يقدّمُ الشهادَةَ إلى أهله.. ويُشاركون بقراءةِ القرآنِ على روحهِ، وأرواحِ جميعِ شهداءِ الوطن.. وكانَ لهذهِ البادِرَة الشعبيةِ الطيبة، أثرٌ طيّبٌ عند أهالي الشهداء.. يرفعُ من مَعنويّاتهم.. ويزيدُ اللحمةَ بين أبناءِ الوطنِ الأغلى..

لم أنزلْ معهما، لأنني كنتُ أريدُ أن أمشي.. جَلستُ عند زوجةِ أخي، حتى حَضَرَ أخي من دَوامِهِ في (مصفاة بانياس) التي ليس بها وُقودٌ منذ حوالي شهر – كما أخبَرَني بالأمس – دَعاني إلى الغداء، فاعتذَرْت.. كنتُ قد أعطيتُ الأكياسَ لزوجته، وجلستُ حوالي نصف ساعة.. ثمّ عُدتُ إلى بيتكم – بيتنا – بيت أهلي.. كَنَسْتُ حَولَ مِدفأةِ الحَطَب، والمَدخَل، والخارِج.. جَمَعْتُ الزبالَةَ في كيسَين، وأخرَجْتُهُا إلى زاويةِ زريعةِ البنفسجِ التي زرَعَها أبي الغالي.. قُرْبَ بابِ السّقيفة.. وضعتُها هُناك.. غسلتُ يديّ.. وَضَعتُ كيساً أسوَدَ فارغاً في سَلّةِ القُمامَةِ التي في المطبخ، كانَ صغيراً.. لم أجِدْ غيرَه.. ترَكْتُ برميلَ الغسيلِ الحديديّ الصغيرِ القديمِ الذي أستعملهُ من زمان لجَمعِ القُمامَةِ في الحَمّام قربَ التواليتِ الإفرنجيّ، بدونِ كيس، لأنني لم أجِد.. جَليتُ عدّةَ كؤوسٍ صغيرةٍ كانتْ في المَجلى، مَشروبٌ فيها الشاي.. ثم خرجتُ ومعي الكيس الأخضر الذي كنتُ أضعُ فيه بقيةَ الأكياس.. والآن فيه – فقط – حقيبتي الصغيرة.. أغلقتُ البابَين.. باب المَدخَل الداخليّ الخَشَبيّ، وبابَهُ الخارجيّ الحديديّ.. وأتيت.. سمعتُ هَديراً.. تمنّيتُ أن يكونَ رَعداً، وليستْ قذائف.. وكانَ ذلك..

أمي..

الساعةُ الآن السابعة وثمانٍ وثلاثونَ دقيقة.. تأخّرْتُ عن سَماعِ أخبارِ (المَنار) بواسطة الراديو..

إلى اللقاء يا أمي…

*******************************************

ألله يصَبّحِكْ بالخير يا أميَ الغالية..

أنا الآن أجلسُ في عيادةِ صديقتي.. تناوَلتُ دَفتري، وقلَماً.. وبدأتُ أكتب..

الساعة الآن حوالي الثامنة والربع من صباح الأربعاء التاسع والعشرين من كانون الثاني (يناير) عام 2014م..

من أوّل أمس، الإثنين، وأنا أعاني من حَرارةٍ ليسَتْ عالية.. حوالي (38) وخَطّين.. ( أنتِ ياغالية، مَن عَلّمتِني – بكثيرٍ من الصبر، والإصرار- قراءَةَ ميزان الحرارة الزئبَقيّ.. وكذلكَ إعطاء الحقَن.. وكم أعانَني ذلك في حياتي..!! لكنني لم أجرؤ – يوماً- أن أعطي سوى أسرتنا.. حَماتي.. و عَمي.. وزوجي… وأحياناً جارتي الغالية “نُهى”.. ومرّةً تجرَأتُ وأعطيتُ نفسي، مُحاوِلةً تقليدَكِ.. إذ كنتِ تحقنين نفسَكِ بالحُقَنِ التي وَصَفها لكِ الطبيب.. لكن، يا أمي.. لا تُخبِري أحداً…ههه ظَلّتْ إليَتي زرقاءَ بعدَها لأكثر من عَشرة أيام…!! اضحكي.. اضحكي….!! ) أشعرُ أيضاً بآلامٍ بالمَفاصِل.. وغير ذلك من توَعّك.. نتيجةَ التهاب جهاز تنفّسي عُلوي.. لازَمْتُ البيتَ في (الضَّهْر) حتى صَباح هذا اليوم.. وَجَدْتُ نفسي أحسَنَ قليلاً.. كانت بنت خالي، قد (عَلّمَتْ) لي – كما اتفقنا سابقاً – على الخَلَوي، فعَرفتُ أنها جَمَعَتْ لي عَدَداً من بيضِ الدّجاجِ البَلَديّ.. فنزلتُ في حوالي السابعة والنصف، حاملةً الحقيبة الجلديّةَ وفيها اللابتوب، وأشياءَ أخرى.. في الطريق، عند (المْسيل) تحت بيت خالتي، فوجِئتُ ب (سَيّارَتِنا) هههههه.. ضحكة فيسبوكية..!! كانت صديقتي قادِمة عَكسَ اتّجاهي.. ضحكنا نحنُ الإثنتَين، باستغرابٍ لهذهِ المُصادَفة السعيدة.. أوْقَفَتِ السيّارة، وفتحَتِ النافذة، ومَدّتْ كَفّها لتُسَلّمَ عَلَيّ، فرفَضتُ، لأنني أسعُلُ في كَفّي، كي لا تنتقلَ العَدوى إليها..

– كنتِ مُناوِبَة في المَشفى..؟!

-نعم..

– ألله يعطيكِ العافية..

-لا أعرفُ إن كنتُ سأنزل..؟!

-بل، ستنزلين.. المُمَرِّضة ليستْ مَوجودة..

وعَرفتُ من زميلتها، أنها كانت مع أمها في المَشفى..

أشعَلتُ مدفأةَ المازوت الصغيرة، فورَ أن فَتَحَتْ لي الصبيّةُ الباب.. وعادَتْ لتفتَحَ بابَ عيادة الدكتور (محمد).. ثمّ أتتْ لتكشفَ على المدفأة.. تعطيها الدكتورة أجراً، لأنها تُداوِمُ في غيابِ مُمَرّضتها، وبعدَ الظهر.. مَلأتُ طاسَةَ المدفأة بالمازوت.. وسَكَبتُ، من غيرِ قَصْد، قليلاً منه خارجَ الطاسةِ على الأرض.. وتعَوّذتُ بالله.. مَسَحْتُ المازوتَ عن الأرض، بواسطةِ الخرقَةِ المُخَصّصَة لمسحِ الأرض.. مازالتْ رائحتُهُ قويّة.. فتحتُ الآنَ البابَ الخارجيّ، وكنتُ قد وَسّعتُ فتحةَ النافذةِ في الغرفة المُقابلةِ ليَميني، قربَ المَطبخِ، والحَمّامِ، والمغسَلة.. والتي تحوي البطّاريّة الشاحِنة للكهرباء.. وسَريراً للمَريضات.. أظنّ أنها كانتْ توَلّدُهُنّ في العِيادَةِ، قبلَ أن تتعاقَدَ مع مَشفى في طرطوس.. وبعْدَها صارَتْ رئيسة القسم في مشفى (الشهيد مازن ابراهيم) هنا في (الشيخ بدر) عند (السّبيل)…..

هناكَ ارتَقَتْ روحُكِ الطاهِرَةُ إلى بارِئِها.. يا أميَ الغالية..

فَجْرَ يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من نيسان عام 2013م…..

رَحْمَةُ اللهِ على روحِكِ الطاهرةِ النقيّة..

قد تكونينَ أوّلَ شَخصٍ ترتقي روحُهُ في هذا المَشفى الذي كانَ مُحدَثاً.. تَمّ افتتاحُهُ في الخامس عَشَر من نيسان في ذلك العام 2013م.. حَيثُ أجرَتِ الغالية أوّلَ عَمَليّةٍ قَيصَريّة، شاهَدْتُها على الفيسبوك.. كان المَشفى يعملُ قبلَ ذلكَ بقليل، كَعيادات، فقط..

أحضَرْتُ سبعَ بَيضاتٍ بَلَديّاتٍ من بنت خالي، التي كانتْ تُطعِمُ البَقرَةَ، في زريبتها تحتَ البيت.. وعندما انتبَهَتْ لوجودي فوق، أمام بيتهم.. ابتسَمتُ في وَجهِها.. وأشَرْتُ لها أنني حَضَرت.. فقالتْ لي : اطرقي الباب.. أختي في الداخِل.. قلتُ لها، معَ الإشارات: طَرَقتُ.. ولا أحَدَ يُجيب..!! قالتْ: آآآ…. مازالتْ نائمة..

غَسَلَتْ يديها، ثمّ صَعَدَتِ الدّرَجَ الحَجَريّ.. بَدّلَتْ حذاءَها.. لبستْ حذاء البيت… ودخلتْ.. غسَلَتْ يَدَيها مرّةً أخرى بالصابون على المغسلة.. وأحضرَتْ لي البيضَ منَ المَطبَخ.. ناوَلتُها خمسمئة ليرة.. قالتْ: ليس لديّ صرافة.. قلتُ – وأنا أسندُ ظهري إلى الحائط – :

-احسبي ثمنَها.. أنا أتألّمُ كثيراً من ظهري..

وأشَرْتُ لها أنّ حَرارَتي مُرتفعَة.. وظهري وحَلقي يؤلماني.. قالت، بأسى:

– صحيح..؟! سلامتِك..

حَسَبَتْ سبع بيضات، كل بيضة بخمسة وعشرين ليرة.. يساوي مئة وخمسين ليرة.. طبعاً خطأ يا أمي.. لكنني لم أنتبهْ حينها، لتوَعُّكي وعدَم قدرتي على المُحاكَمة السليمة، أو التركيز.. أعطَيتُها مئة وخمسين ليرة، ونزلتُ نحو (الشيخ بدر).. في الطريق، عند (المْسيل)، قبلَ وُصولي إلى قُرْبِ مقامِكِ، يا أميَ الغالية، بِعِدّةِ أمتار.. رأيتُ سَيّارةَ صِهري، ومعهُ أختي، وابنَيهما..حَبايب قلبِك ياغالية.. رأيتُ أختي تُشيرُ لي بكَفّها اليُمنى، مُستغرِبَةً.. ظننتُ أنها تستغربُ نزولي باكِراً.. حاوَلتُ أن أكْمِلَ سَيراً على الأقدام إلى هنا.. لكنّ ظهري كادَ ينقصِمُ منَ الألَم.. فرَغِبْتُ أن أسلكَ الطريقَ القديمَ النازلَ من عندِ (الشّبيبَة) إلى (الشيخ بدر) خوفاً من أن يخذلني ظَهري، أو تخذلني صحّتي في ذلكَ الطريق (الأوتوستراد) وأجلس دون أن أعرفَ إن كانَ أحَدٌ سيتعرّفُ عَلَيّ، أو أمونُ عَلى أحَدٍ أعرفهُ، يقودُ تاكسي، أو موتوسيكلاً، فأستوقفُهُ ليُقِلّني إلى هُنا، ولو بالإجرة.. ثمّ قلتُ لنفسي، سأجلسُ أمامَ بيت أخ الدكتورة، أنتظرُها عندهم.. حيثُ ستأتي وتقف عندهم لتصطحِبَ ابنهم ، مع طِفلَيها إلى (رَوضَة المَحَبّة) التابعة للإتحاد النسائي، فأطلعُ مَعَها بالسيّارة، تضعُهُم في (الرّوضة) وتُكمِل إلى العِيادة.. لكنّ صهري كان قد أوصَل أختي وطفلَيهِما الغاليين إلى مَدرَسَة القرية، وعادَ إلى عَمَلِهِ.. وعندما رآني، أوقفَ السيّارَةِ أمامَ بيت أخ الدكتورة، قبل أن أصِلَ إليهِ بقليل، أشَرْتُ لَهُ أن يذهَب، وأنني لا أريدُ أن أنزلَ معه، لكن يبدو أنهُ لم ينتبهْ، مِنَ الغَبَش الذي يُغطّي زُجاجَ السيّارَةِ مِنَ الخلف نَدى.. أو مَطَر.. جلستُ في المقعدِ الأماميّ على يمينهِ، وأنا أقول لهُ، بعدَ التّحيّة: والله لم أكُنْ راغِبَةً بالنزولِ مَعَك.. أنا مَريضة.. كنتُ (ساخِنة) والآن، ظهري يؤلمُني جداً.. قالَ، مُستنكِراً: (ساخنة)..؟! لماذا نزلتِ منَ البيت..؟! قلت: كي أغَيّرَ جَوّاً.. لي يَومَين في البيت.. مَلَلْت.. قال: والله، أنا إذا أرَدْتُ تغييرَ جَوٍّ، لا أجِدُ أجمَلَ منَ الجلوسِ على شُرْفَةِ بيتِكم، والإستمتاع بالمناظر الطبيعية الرائعة.. وأريحُ نفسي من هذا الصّخَبِ، والضجيج.. قلتُ له: كلّ إنسان يَرغَب بما ينقصُه….. قال: والله صَحيح..

تابَعتُ إلى هنا.. كان كلّ من بابَيّ العِيادَتَينِ مُغلَقاً.. اتصَلتُ مع الدكتورة لأخبِرها أنني أمام العيادة.. سُرّتْ بذلكَ، وقالتْ: بعدَ قليل تأتي الصبيّة، وتفتحُ العيادة…

وكانَ ذلك..

صِرتُ أتمَشّى من باب عيادتها، وباب أستاذ الرياضيات الذي يعطي دروساً خصوصيّة.. كنتُ أكبرُهُ بعامٍ دِراسيّ.. صِرتُ أتمَشّى في المَمشى الصغير، الضيّق، أمام العِيادَتَين، وظهري يكادُ ينقسِمُ إلى نِصفَين.. أسندُهُ، أحياناً، على الحائط، وأحياناً أنحَني قليلاً ليَخفَّ الألَم.. أو أفرُك مَكانَ الألَمِ، عَلّني أستفيد.. دونَ جَدوى تُذكَر.. وفي حَوالي الثامنة والربع، جاءَتِ الصبيّةُ الشقراء.. فتَحَت بابَ عيادَةِ الدكتورة أوّلاً.. ثمّ عيادَة الدكتور (محمد).. وبعْدَ أن أشعَلْتُ المِدفأة.. جَلَسْتُ أكتُب..

والآن، صارتِ الساعَةُ حوالي الواحدة والنصف وخمس دقائق، بعْدَ الظهر.. والدكتورة عندها مَريضَة.. سنطلَعُ بعْدَ قليل.. وتصطحِبُ مَعَها صَغيرَيها الحَبيبَينِ منَ (الرّوْضَة)، وابنَ أخيها أيضاً.. تُنزِلُهُ عندَ بَيتِه.. ونُتابِعُ إلى بيتنا في (ضهر المريقب).. تنزلني عند مفرق بيتنا.. وتتابع غرباً حوالي مئتيّ متر أو أكثر.. لتصِلَ إلى بيتِها الذي اشترَته عندما تزوّجتْ.. في (ضهر الديرانة)..

أخذتُ دواءً كثيراً يا أمي.. والحمد لله، أشعر الآن بارتياحٍ لا بأسَ به.. كنت قد اتصلت بالغالي ابن أخي.. ليحضر لي من (المطعم) الذي افتتحوه حديثاً في (الوَرْوَر) أو (أرض الوَتِت) نصف كغ (مْسَبّحَة) بمئة ليرة، وأربعة أقراص (بسلق) وقرصين (بجبنة) صنع أمه، وخالته.. و قطعتين من (المحمرة).. فأحضرها على (الموتور) وطلب أربعمئة ليرة، مع (التوصيلة) كل قطعة بخمسة وثلاثين ليرة سورية.. و (التوصيلة) خمسة وعشرين ليرة سورية.. فأجبرته بخمسة وعشرين ليرة زيادة.. قلت له: فقط، لأنها أول مرة.. تبادلنا الشكر والدعاء بالخير.. وعاد إلى المطعم.. أكلت قرصاً محشوّاً بالسلقِ والبصَل، طيب جداً، وقليلاً من (المسَبّحة) لذيذة جداً.. بشهيّةٍ بالغة.. بالأمس، لم تكن لديّ شهيةٌ مطلقاً، إلاّ صباحاً.. حيث أكلت صحناً من شوربة معكرونة بجبنة، كنت قد طبختها منذ عدة أيام.. لكنها كانت مثلّجة تماماً في أسفل البرّادِ الصغير.. فوضعتُ فوق المعكرونة قليلاً من الماء.. غليتُها وتناولتُ صحناً.. وبعدهُ لم أتناول أيَّ شيء.. قال زوجي :

– سأشوي فرّوجاً..

قلت له:

– لا أحبه..

لكنني، في المساء، أجبرت نفسي بثلاث برتقالات متوسطات الحجم، وتفاحة.. ونمتُ، مع الأنينِ، والآلام.. واستيقظتُ بشكلٍ أفضل.. وأتيت..

أمي..

إلى اللقاء ياغالية..

*******************************************

الساعة الآن الثانية وثلاث وعشرين دقيقة، من بعد ظهر السبت الأول من شباط (فبراير) عام 2014م..

أجلسُ على الديفون، في صالونِ بيتِنا في (الضّهْر).. أمامي، فوق السّجّادَة، طربيزة بُنّيّة، عليها كأسُ ماءٍ زجاجيٍّ، فيه نصفه، ونظّارَتي، وبعضُ المناديلِ الوَرّقيّةِ البيضاء، وخشبة دائريّة رقيقة، عليها رَسْمَةٌ للطبيعة، يغلبُ عليها اللونُ الأخضر، وهيَ من صناعةِ الصين.. مدفأةُ الحَطَبِ البارِدَة، تبعُدُ عني حوالي متر.. وبعدَها بحَوالي متر ونصف المتر، شمالاً، الدّنسوار الذي يحملُ التلفزيون (سانيو) المُلَوّن، صناعة سوريّة، شاشة مُسَطّحَة (18) بوصة، على ما أظنّ.. على الحائطِ فَوقَهُ، ساعةُ حائط بُنّيّة مُرَبّعَة، أهدَتني إياها جارة أختي، عند إجرائي لعَمَليّة استِئصالِ المَرارةِ، في عيد الأم /21/3/2010م/….

كُنتِ عندي في (مَشفى الطّبّ الحَديث) في طرطوس، يا أميَ الغالية، معَ إخوَتي، وأخَواتي، وزوجي، وأقارِبي، وبَعْضُ مَعارِفي، وبَعضُ أقارب زوجي.. الدكتور، إبن أخ زوجي، هو الذي أجرى ليَ العَمَليّة، عن طريق التنظير.. ونَقَلَني بسَيّارَتِه، في نفس اليوم مساءً، إلى القرية.. إلى بيتِكم – بيتنا – بيت أهلي……

لم يستجيبوا لي، كما اتفَقنا قبل إجراء العملية، بأن أبقى في بيت أختي الأغلى (آمال) في طرطوس.. تعتَني بي هيَ وأسرَتُها الغالية، حتى أشفى.. وطالَما ضَمّني بيتُهُم، وضَمّتني أرواحُهُمُ الغالية، حيثُ كانَ يعزّ عَلَيّ الأمان، إلاّ مَعَهُم.. بكَتْ أختي (آمال) مُحاوِلةً أن لا أراها تبكي، وهيَ تحاولُ إقناعَهُم، كي لا يَحْنَثوا بوَعْدِهِم لي ولَها، بأن أبقى عندها بعدَ إجراء العَمَلية.. لكنّهُم فاجؤوني، وأنا لا حَوْلَ لي ولا قُوّة، بأنهم سيأخذوني منَ المَشفى، إلى القرية.. وتبَرّعَتْ أختيَ الصغرى، التي يبدو أنها اتّفَقَتْ مع زوجي على ذلك، أن تعتني بي في بيت أهلي عِدّةَ أيام، قبلَ أن يأخذوني إلى بيتي في (الضّهْر).. وأن تسهَرَ على راحَتي، ولا تترك أيّ شيءٍ ينقصني.. على أن أطلعَ مَعَهُم إلى القرية (كَي لا يحكي الناس عليهم) إذا بَقيتُ عندَ أختي………!!

لن أسترسِلَ، يا أميَ الغالية..

الطّقسُ مُشمِسٌ ودافئٌ، نوعاً ما، في الخارِج.. والهَواءُ شَرقيٌّ مُتوَسّطُ القوّة..

عندما استيقَظْتُ هذا الصّباح، وخَرَجْتُ إلى الحَمّام.. سمعْتُ من نافذتِهِ صَوتَ زوجي، و ….؟! لا أعرفُ مَن…!! يبدو أنهم يَعمَلونَ في الأرض.. وبَعْدَها……….. لن أكْمِلَ، يا أمي..

انتَقَلْتُ الآنَ إلى غرفتي، بعدَ أن مَلأتُ طاسَةَ االمِدفَأةِ بالمازوت، وأوقَدْتُها.. وجَلَستُ قُربَها.. أشعُرُ بالبَردِ، يا أمي.. معَ أنّ الطّقسَ في الخارِجِ مُشْمِس..

ما رأيُكِ، يا أمي أن نتصَفّحَ بَعْضَ ما دَوّنتُهُ على أحَدِ دَفاتِري من ذِكرَياتٍ قديمَة..؟! ننسى بها الواقِعَ الجافَّ.. ونُبدِعَ من مُخَيّلاتِنا الخَصيبَةِ، أحداثاً حَدَثَث بالفِعل.. لكنّ خَيالَنا يُضيفُ عَلَيها مسْحَةً منَ جَمالٍ، ودِفء.. كَتعويضِ نَقص.. فالذاكِرَةُ – غالِباً –  (انتِقائيّةٌ) كما يقولون..؟!

يا الله..!!

أذكُر، يا أمي، في أحَدِ الأيام، كانَ أبي غائباً.. وقلتُم لي بعدَ أن كبرْتُ، أنّهُ كانَ يؤدّي الخدمَةَ العسكَريةَ الإلزاميّة، بعْدَ عَوْدَتكم من الأرجنتين.. لأنهم كانوا قد زَوّروا تاريخَ ميلادِهِ، وصَغّروا سِنّهُ، كي يتمَكّنَ من السّفَرِ، عَبْرَ (البَحرِ الأبيضِ المُتوَسّط) من ميناءِ (بَيروت) حتى يصِلَ إلى ميناءِ (بوينوس آيرس) قاطِعاً (المُحيطَ الأطلَسيّ) ليَحْظى بكِ يا أميَ الغالية.. أبي من مواليد تشرين عام 1931م.. لكنّهُ سُجِّلَ عام 1933م.. لأجلِ ذلكَ الغَرَض.. قالَ لي الدّكتور (عَلي بلال) رَحِمَهُ الله، يومَ كنتُ أتعالَجُ عندَهُ من عَطَبٍ نَفسيٍّ ألَمَّ بي، عَقِبَ زواجيَ المُبْكِر، وانقِطاعِ أحلامي.. كانَ بصُحبَتي الغالي زوجي، الذي تُحِبّينَه، وأحِبُّه.. هوَ و عَمّتي الغالية الحنونة الدافئة (آمنة).. بالمُناسَبة، سأحكي مَعَها اليوم، إن شاءَ الله..

استأجَرَ لي سَيّارةَ تاكسي من (المْرَيقِب) إلى (دِمَشق) مُتَنَقِّلاً بي من طبيبِ، إلى آخر.. عام.. وهَضمي.. و عَصَبي.. ونَفسي… مُستَميتاً في مُحاوَلَةِ عِلاجي، وإنقاذي ممّا حَلّ بي من مَرَضٍ كادَ يقتُلُني.. ولا يعرفُ أحَدٌ سَبَبَهُ، ولا تشخيصَه..

إلهي يعظّم أجرَك ياغالي.. كم كنتُ مُتَعَلِّقَةً بك..!! وكم كنتُ، وما أزالُ، وسأبقى مُعتَرِفَةً بمَواقِفِكَ المُتفانيةِ التي لا يُمكِنُ أن يَقِفَها سوى إنسانٌ نبيلٌ كريمٌ شَهمٌ، مُحِبٌّ، وَفيٌّ، مُخلِص..!! ما الذي جَرى يا حبيبي..؟!

أنا لستُ جاحِدَة.. أبَداً.. وأنتَ والجميعُ تعرفونَ ذلك.. لم أترُكْ شيئاً أعرفُهُ، وأقدرُ عَليهِ، في سبيلِ إسعادِكَ، ورَدّ الجميلِ إليكَ، إلاّ فَعَلتُه.. خسِرْتُ من صحّتي، وكرامتي، وتنازلتُ أو نسيتُ أغلَبَ حقوقي عليكَ، وعلى غيرِكَ مِمّن كانوا يؤثّرونَ في حياتِنا.. كي أردَّ هذا الدّيْنَ الذي ما يزالُ في عُنُقي.. لكن….. دونَ جَدوى…………

لن أطيلَ يا حبيبي.. لن أطيل..

(……. بكلِّ الحبِّ، والعِرفانِ..

أحملُ قَسْوَةَ الأيامِ..

صابرَةً.. بإيماني..

وحامِلَةً..

مبادئَ جَمّةً..

ماذا يكونُ المَرْءُ، لولاها..؟؟!!)

من إحدى القصائدِ التي كتبتُها في الثمانينات من القرنِ الماضي..

مايَجعَلُنا نعتمِدُ على القوّةِ الخالقةِ العادِلة، التي تُسَجّلُ عندها في سِجِلٍّ لا يُخطئ، أبَداً.. تُعاقِبُنا، وتُكافؤنا إن أخلَلْنا في ميزانها الطّبيعيّ المَوضوعِ بالقوّةِ والعَدْل، على صَفَحاتِ الكونِ الأزَليّةِ، السّرمَديّة.. هوَ شُعورٌ بالعَجْزِ عن إدراكِ كلِّ شيء.. أينَ أخطأنا بحَقِّ أنفُسِنا.. أو حَقِّ غيرِنا..؟! لكنني على ثِقَةٍ تامّة، أننا نُعاقَبُ، ونُكافأ.. إن أخلَلْنا في الميزان..

قالَ لي الدكتور (علي بلال) وأنا أرتَجِفُ منَ التّوَتُّرِ النّفسيّ، خَلفَ مَكتَبه في عيادَتِهِ في (شارِعِ العابِد) في دِمَشق، وهوَ يبتَسِم: أنتِ بنت صالح سليم صالح..؟! قلت: نعم.. قال: أنتِ مَريضة..؟! قلتُ لهُ: نعم.. نعم يا دكتور.. ألله يخلّيك عالجْني، أنا مُتوَتّرَة.. متوَتّرَة جداً..

ضَحِكَ، بهُدوءٍ، واستنكارٍ، وقال: لا والله لستِ مَريضة، إلاّ إذا كنتُ أنا مَريضاً.. وتابعَ : الدكتور محمود، يمدَحُ بكِ كثيراً، في رسالتِهِ هذه.. اذهبي.. اذهبي، وكُلي.. كُلي.. وخُصوصاً حلويّات.. أبوكِ كانَ معي في المدرسَة، بنفسِ الصّفّ في طرطوس.. قالَ لنا، بزُهُوٍّ، عندما أرادَ ترْكَ المَدْرَسة، من الصّفِّ الثامِن، عندما سألناهُ لماذا..؟! قال: أنا مُسافِرٌ، لأتزوّج..!! ضَحِكَ الدكتور (علي).. وحاوَلْتُ الإبتسام..

عمّتي، وزوجي في غرفةِ الإنتظار.. والبابُ مَفتوح..

أمي.. ستَسْعَدينَ الآن.. أتعرفينَ لماذا..؟! قبلَ قليل، اتصَلَتْ بي ابنةُ الغالي، لتُخبِرَني أنّ (الشّوبَك) الذّكرى.. الذي طَلَبْتُهُ منكِ، في أحَدِ الأيام، لأحتفِظَ بهِ كَتَميمَةٍ دافئة، تُدفئ صَقيعَ أيامي، حينَ يهجمُ البَرْدُ القارِس.. لأنهُ يحملُ من ذِكرياتِنا مَعاً، الكثيرَ.. الكثير.. عندما كنتُ أرقُّ بواسطتِهِ لكِ العَجينَ على التّنّورِ، على مَدى أكثر من ثلاث سنوات، قبلَ زواجي.. وتقرصينَني في زَندي، إن كانتْ أطرافُ الرّغيفِ سَميكَة….. تضحَكين..؟! (سأحاسبكِ..!!).. الشَّوْبَك، صارَ مع  بنت أخي.. هل سُرِرْتِ..؟! أعرفُ ذلك.. وأنا سُرِرْتُ جداً.. كنتُ أشعُرُ أنّ هذهِ التَميمَةَ، يجبُ أن تُحفَظَ معَ إنسانٍ جَديرٍ بها، ويعرفُ قيمَتَها المَعنويّة.. فاخترتُ الغالية ابنة الأغلى، لترِثَهُ عَنا.. يا أميَ الغالية..

سأعودُ لأحكي ما أذكرهُ من ذلكَ اليومِ الذي كانَ أبي فيهِ غائباً، ولم يَكُنْ في ذلكَ البيتِ الطينيِّ العريق (بيت الشّرقي)  غيري أنا (فاطمة) الطفلة النائمة في السريرِ المعدنيّ، قُرْبَ الحائطِ الشّماليِّ، المُحَوّرِ، والمُزَنّر.. مُقابلَ السريرِ الحديديّ، الذي كنتِ تنامينَ عليهِ، أنتِ وأختي الأصغر مني بسنتين وثلاثة أشهر.. كانتْ (امرأةُ عَمي أم يحي “قَنّوع سلامة”) مَرَبّيَتُنا.. كانت تحاوِلُ إجلاسَها على الحَصيرِ المَصنوعِ منَ القَشّ.. بعد أن نزعت الحفاض المبلل .. مازلت أذكر ذلك المنظر الذي كنت أراقب تفاصيله، وأنا أنام (فوق خمّتي) مبللة ثيابي أيضاً، وفستاني النصف كم (نفخ) وفي مقدمته (إسوارة) من نفس القماش (الكرنش) المزهر بزهرات ناعمة، والمزموم من الخصر.. وكنت تخيطين ثيابنا وثياب العائلة كلها، الداخلية والخارجية، وتخيطين بالإجرة لبعض أهل القرية.. نساءً وأطفالاً، شباباً وشيوخاً..

لم أجرؤ على النهوض، قبل أن تجفّ الفَرشة قليلاً، وتجفَّ ثيابي.. تجنباً ل (قتلة) مؤكدة منكِ، لأنني فعلتها..

كانت (امرأةُ عمي أم يحي) رحمها الله تعالى، تحاول أن تُجلِسَ (آمال) على الحصير، كي تبعد الحفاض المبلل، وتحضر آخر جافاً، لتحفّضها من جديد.. لكنها، كلما ابتعدت قليلاً، تميلُ الصغيرةُ، وتكادُ تقع على جانبها.. فتسرع (مرت عمي) العجوز الدافئة.. الدافئة جداً يا أمي، وتستنكرُ ماحَصَل : (لاه.. لاه.. لااااه… ألله يلعن أبليس).. وتحاول إجلاسَها مرّةً ثانية، للحظةٍ، فقط.. كي تبدّلَ الحفاض..

كانت – رحمها الله – قد لاحَظتِ استيقاظي، مازلتُ أسمَعُ صَوتَها الدافئ: ( فِقتِ، يافاطمة..؟! إي يا الله، قومي بقا.. قومي يا بَيّي….. ) فأغمضُ عَينَيّ المُخادِعَتينِ، كي تظنني عُدتُ إلى النوم.. فتعاودُ مناداتي وهي تغنّي لي لَحناً تُراثياً دافئاً، مَرَحّبَةً باستيقاظي.. وتحثّني على النهوض: (فَطّوما.. فاطّوما………. إلخ) لكنّ (فَطّومَة) الماكِرَة، كانت تخطّطُ لفِعْلِ إنقاذيٍّ ما، وهي تدّعي مُعاوَدَةَ النوم..

كُنتِ قد أحضَرْتِ خِرقةً قطنيّةً بيضاءَ مُرَبّعةَ الشكل، وطَوَيتِها على شَكلِ مُثلّث، واتّجَهتِ صوبَ أختي الصغيرة، الشقراء الجميلة..لتربطيها حولَ إليَتِها، كحِفاضٍ جافٍّ، ونظيف.. لكنكِ فوجئتِ أنها بالتْ تحتها فوق الحَصيرِ، قبل أن تتداركيها.. فأنّبْتِ نفسَكِ (يامَرت عَمّي) الغالية : (لااااه.. لاااه….!! ألله يلعن أبليس) ورَفَعْتِ أختي من تحتِ إبطَيها، و (دَحْدَحْتِ) بها إلى مكانٍ بعيدٍ عن البول، لتشَطّفي لها، وتجفّفيها وتعاوِدي تحفيضَها.. وكانتِ الفرصَةُ الحُلُم، وغير المتوقَّعَة، بالنسبةِ لي.. فغافَلتُكِ..وقفَزْتُ من سَريري، بسرعَةِ البَرقِ، جَلَسْتُ فوقَ بولِ أختي.. وعندما لَمحتِني، سارَعْتِ إلى تنبيهي: (لاه.. لاه.. لاه يا بَيّي.. ألله يلعنك يا أبليس.. قومي قومي.. خيتك شَخّت عندِك..).. لكنني لم أقمْ بسُرعَة.. فكَرّرتِ تنبيهي.. فنهَضْتُ، مُتباكيَةً، وأنا أتلَمّسُ فستاني.. مُدّعِيَةً أنهُ للتّوّ تلوّث..!!

تضحَكينَ، يا أمي..؟!

رحمكم ربُّ الكون.. يا زمانيَ الدافئ.. القاسي.. الفقير.. الغنيّ.. الحنون……………

كنتُ أشعُرُ بينكم بالحياة.. بكُلّ مَعانيها..

ولم أشعُرْ بَعدَها بها……… أبداً…… يا أمي…

الساعَةُ تقاربُ الرابعةَ عَصراً..

ستأتي الكهرباء التي انقطعت في الواحدة..

سأستريحُ قليلاً..

إلى اللقاء…… يا زمانيَ الدافئ.. إلى اللقاء يا أهليَ الغوالي..

********************************************

تحضرينَ في خاطري ووجداني، وأنتِ تحملينَ مِنكاشاً (مَنكوش) صغيراً، وتنزلينَ إلى حَقلنا (الحير) القريب الذي كان مزروعاً في العام الماضي بالبطاطا.. تبحثين عن (سِمْخٍ) يبزغُ فوق الأرضِ القاسية، بزوغَ الأملِ في روحٍ تحلم.. وكلَما بَدا لكِ (سِمْخٌ) تسارِعينَ للبَحثِ، بالمنكاش تحتَ التراب.. لتستخرِجي بَعضَ حَبّاتِ البطاطا الصغيرة جداً.. تجمعينَ ثروَتَكِ هذهِ في (جْمَيِّم) من القَشّ، حتى لو كانتِ الحَبّةُ بحَجْمِ (الكِلّة).. تعودينَ بها ظافرَةً إلى البيت.. تقلينها، أو تسلقينها.. أو تطبخينها بمقلي الفَخّار مع البصلِ والبندورة.. أو تحمسينها بالزيت والملح.. لنا.. أو للضيوف.. أو لأبي وأخي وعمي وعمتيّ وجَدّتي، عند عَودَتِهم من العملِ بالأرض… فينشرحُ صَدْرُكِ الغالي الحبيب.. لأنّكِ أمّنتِ وَجبَةً للعائلة، كنت تخشينَ ألاّ تجدي ما تطبخين، لولاها..

وأراكِ في دار بيت الشرقي، في حُفرةٍ صغيرةٍ أنزَلَكِ فيها (كْحال) الضخم، وراحَ يُداعِبُكِ بقرنَيهِ الصّلدَين.. وأنتِ تبحثين عن سلاحٍ.. ولا تستطيعُ يدَاكِ الظفَرَ سوى بقضيبٍ صغيرٍ رَفيع، تحاوِلينَ إبعادَ الثور المُشاكِسِ، وأنتِ خافِضةَ الرأسٍ خوفاً من أن يُحَطّمَهُ الأهبَل.. فتضربينه بالعصا.. فتارَةً تحقّقُ إصابَةً ناعمةً على قرنه.. وتارَتينِ تقعُ الضّربَةُ على رأسِك.. وبقيتِ على هذه الحال، حتى تعِبَ الثورُ ومَلّ من هذهِ اللعبَة.. فقرّرَ الإبتعادَ، والبحثَ عن تسليَةٍ أخرى وَقْتَ القيلولة.. فنَهَضتِ مُضَعضَعَةَ العظامِ، والروح.. تبكين وتضحكين وأنتِ تروين لنا ما حَدَث.. وتُرينا الكَدَماتِ الزرقاء التي خَلّفتها هذه التسلية الحيوانية الفظّة..

وأراكِ تشعرين بالحَرَجِ، وأنتِ تطلبين من (أم علي سليمَة) أن تعيرَكِ فَرْشَةً أو لحافاً إضافيّين.. لأنّ بيتنا مليءٌ بالضّيوف.. ولم تعُدِ الفرشاتُ تكفي ليناموا ليلتَهُم، قبلَ أن يعودوا في الصباح الباكرِ، إلى قُراهُمُ البعيدة.. وتشعرينَ بالإمتنان والحبّ، عندما تناولُكِ جارَتُكِ العجوزُ الفراشَ مَطويّاً، من فوقِ حائطِ المِصطَبَة.. وتطلبُ منكِ الحِرصَ على الإمساكِ بهِ جيّداً.. وتعود.. وعندما تفرشينهُ فوق الحَصيرِ على أرضِ البيت.. تُفاجَئينَ بعِدّةِ أرغِفةٍ من الخبزِ، وعَدَدٍ من أقراصِ الشنكليش، وبعض البيضِ البَلَديّ.. فتدمَعُ عيناكِ فرَحاً وامتناناً من تلك الجارة العجوز الكريمة الحنونة.. التي قَدّرَتْ حاجَتكِ، وأهدَتكِ ما تتوقّعُ أنكِ  ستحتاجينهُ لضيوفِكِ، الذينَ يترَدّدون على بيتكم (بيت الكَرَم والعزّ، وقَضاءِ الحاجات) أغلَب الأيام.. وتبقين تتذكّرين (أم علي) بالكثير من الإحترام والتقدير.. وتحدّثيننا بما كانت تفعل.. وتحدّثي غيرنا في كل مناسَبة… رغمَ أنكِ لم تقَصّري، ولايمكنُ أن تقصّري معها ولا مع غيرها، يوماً.. بأيّةِ خِدمَةٍ ممكنة..

مازالت كنّتُها تتحدّثُ عن (فَضْلِكِ) عليها في أمَسّ أوقاتِ الحاجة.. خصوصاً عندما كانت تلِدُ.. أو تُجهِض.. وأنتِ تساعِدينها على الولادَةِ.. وعلى التَخلّصِ من الخلاص.. تقولُ أنكِ كنتِ تُحَمّمينها.. وتغسلي لها حاجاتَها، بكلّ نفسٍ راضية.. كأنها أختُكِ، أو قريبتُك.. وتبكي وهي تحدّثُنا بتأثُّرٍ بالغ.. وتقول : هذه أمّنا.. أمّي أنا.. وأمّ الجميع.. رغم أنها قد تكون بعمرك..

كما أراكِ تعترضين على أبي عندما كان يستشيرُكِ أن يبيعَ البقرة، ويريحَكِ من أعباءِ العناية بها.. بعد أن رأى صحّتَكِ لم تعُد تحتملُ التعَبَ الشديد.. تحتجّينَ ساخِطَةً.. وترفضين بيعَها.. وعندما يسألكِ عن سبب اعتراضِكِ.. وهو يهدفُ إلى راحَتِك.. تجيبينه دامِعَةً.. و (تُبَرْوِتين) : إذا بِعتَها يا سيّد أبو (اسماعيل) من أين سأدَبّرُ الحليبَ.. أو اللبنَ.. أو الشنكليش.. أو الكشك.. أو المتبّلة.. أو الزبدة والسمنة وغيرها..؟! وإذا مرضَ أحدٌ من أهل القرية، ماذا سآخذ له إن لم يكنْ عندي (درّ)..؟! (أم محمود) هذه العجوز الوحيدة.. كنتُ آخذُ لها حين أزورُها.. أو أرسلُ لها كأساً من (العيران) لتبلّ ريقها به.. ماذا سآخذ لها إن بعتَ البقرة..؟! و (الشغ سليمان) ذلك العجوز المريض.. كنتُ آخذُ لهُ حين أعيدُهُ، سَطلاً من الحَليب.. ماذا سآخذُ لهُ، عندما أزورُهُ، إذا بِعْتَ البقرة..؟! فيبتسمُ أبي الغالي.. ويؤجّلُ بيعَها إلى أن تقتنعي أنتِ، وتطلبي بنفسِكِ بَيعَها..

كما تحضرين في روحي، وبكل تقدير، وإعجاب.. عندما كنت تستيقظين باكراً، أكثر من المعتاد.. وبهِمّةٍ عالية، لتنجزي كل أعمالكِ اليومية، والمستقبلية التي لا بدّ منها، ولا تقبلين أن ينجزَها أحَدٌ سِواكِ.. قبل أن تحضّري نفسَكِ للنزولِ إلى (طرطوس) لتُجري عمليةً جراحيةً، ولا تستجيبينَ لطلبِ أبي الغالي، بأن تتركي كلّ عمل.. وترتاحي جيداً، قبل أن تنزلي.. يقول لكِ، أنهُ سيأكلُ بنفسه.. ولا يهمّ ماذا يأكل.. الطعامُ متوفّر لله الحمد.. وهو سيحضّر طعامَهُ بنفسهِ في غيابك.. وعندما تعودين بالسلامة وتتعافين جيداً ستعودين لتحضّري له الطعام الذي يناسبه.. فأنتِ تعرفين ماذا يناسب صحّته أكثر من أي إنسانٍ آخر.. والجَلي والتنظيف وترتيب البيت، وتحضير عَدد من الطبخات للعمالِ الذين يشتغلون في الأرض.. كنت تعملين بجهدٍ مُضاعَف، وسُرعةٍ أكبر.. وتوصينَ أفرادَ الأسرةِ أن ينتبهوا لهذا الشيء، أو ذاك.. حتى تعودين.. وعندما تلاحظين اهتمام الجميع بكِ، وخصوصاً أبي..تقولينَ مازحَةً:

( – لو عرفتُ أنكم ستهتمّونَ بي، وتدَلِّلوني إلى هذهِ الدّرَجَة، كنتُ سأجري كلَّ يومٍ عمليّةً جراحية..!! )

وعندما يسألكِ أحدٌ، كيف يشغلكِ كلّ شيء إلاّ العَمَلية..؟! تُجيبينَ، باستِغراب :

( – ويلي أنا..!! بعمري لم أخفْ من إجراءِ عملٍ جراحيٍّ، أبداً.. ماذا يخيفُ بالعَمَليّة..؟! هل سأشعرُ بألم..؟! سأكونُ مُخَدَّرَة.. وإذا مِتُّ وأنا مُخدّرَة، هذهِ أمنية.. ما من ميتَةٍ أسهل من أن يموتَ الإنسانُ وهوَ مُخَدَّر..!! ) وتضحَكينَ، غير عابئةٍ بقلقِ مَن حَولِك..

عندما أدخَلوكِ إلى غرفة العمليات في (حَلَب) وابنُكِ الغالي بجانبك.. لم يسمحوا لهُ بالدخولِ معكِ.. هوَ الرهيفُ الحَنون، إلاّ بَعْدَ أنْ ألبَسوهُ الثيابَ الخضراءَ المُعَقّمَةَ.. وحذاءً مُعَقّماً، أيضاً.. وطاقيّةً معقّمةً تخفي شَعرَةُ الكثيف، وكَمّامَةً، لاتسمحُ لهواءِ زفيرِهِ أن يَخرجَ في فضاءِ الغرفة… استلقَيتِ على سريرِ العَمَليات.. وقبلَ أنْ يخَدّروكِ، قُلتِ : يا الله.. استعَنتُ بألله.. وبعلي زين العابدين….. فهَمَسوا في أذنكِ، أن عليكِ ألاّ تقولي هنا هذا الكلام.. لأنهُ يوجَد أغراب.. فأجَبتِهِمْ بثقة : لماذا..؟! هذا دينُنا وإيمانُنا.. إي والله، استعنتُ بالله.. وبسيّدنا علي زين العابدين.. فضحكوا.. وخَدّروكِ.. وأجروا لكِ العمليةً بنجاح.. لله الحمد..

*****************************************************************

وعندما يطلبُ منكِ أبي أن تذهَبي مع إخوتي وأخواتي في نزهةٍ، إلى مَطعَم.. أو متنزّه.. أو زيارةٍ لأقاربَ أو مَعارفَ تحبينهم.. يقول لهم أبي :

– خذوها إلى المكان الذي ترغب به.. إلى أيّ مكانٍ يُسعِدها.. أنا غيرُ قادِرٍ على إسعادِها.. ولا أحبُّ المَطاعِم.. ولا أستطيعُ أن أفرح..

ويطلب لكم سيّارةَ أجرَة، كي تكونَ تحتَ تصرّفكم.. وأن تصطحبي معكِ كلّ مَن تحبين.. وكلّ مَن يُسعِدكِ…. وألاّ يبخلوا عليكِ بشيء.. وهوَ مُستعِدٌّ للدفع، مُقابلَ إسعادِك..

أحياناً كنتِ تتعزّزين، لأنكِ لا ترغَبين بتركِ أبي وهوَ مريض.. (- أخافُ عليهِ من (هالشّرْدوقَة ).. والله إذا حصلتْ معهُ، وهو بمُفرَدِه، قد يموت منها، لا سَمَحَ الله.. أنا غير قادرة على تركهِ، أبداً أبداً.. لن أتركَه.. )..!!

***********************************************

(أمي حبوب) هي زوجة جَدّي (الشيخ محمد صالح صالح) الإبن الأكبر لجدّي (الشيخ صالح) و هي (حَبّوب بنت الشيخ عباس) عمة جدّتي (خديجة أحمد عباس) (أم صالح) و سلفتُها..كانت – إن حصلتْ على لقمةِ خبزٍ (رغيف ) أو (شَدّوق )، مثلاً.. تضعهُ في عبّها، وتخرجُ منهُ لقمَةً، لقمَة.. تلقّمُ بها أولادَ سِلفها الصّغار.. أبي.. صالح سليم صالح.. وعمتى فاطمة.. وعمي علي.. وعمتي ندة.. وعمتي آمنة.. وعمي محمد.. وابنتها (عمتي خديجة)…….لذلك، كانوا يدعونها (أمي حبوب )..

***********************************************

أمي..

ألا تسمعين زخّات الرصاص المنبعثةِ من فوّهاتِ البنادق العسكريّةِ، بغزارةٍ كبيرة..؟!!

أهنئكِ أنكِ لا تسمعينها..

إنها آتيةٌ من قرية “شريجس” التي تودّع اليومَ، أو، تزفّ – كما يقولون – شهيداً شاباً من أبنائها.. لا أعرف رقمهُ بين شهداءِ هذه القريةِ المنكوبة.. ربما اقتربَ عددُ شهدائها من ثلاثين شهيداً.. قريتنا الغالية فقدتْ، حتى الآن، خمسةَ شهداء من أبنائها.. هم على التوالي.. (العميد الركن عيسى صالح سلامي ) إبن إبن عمتك البطلة (أم علي آمنة ) اختطفوه، وعذّبوه، ربما ليومَين، أو أكثر، ثمّ وُجِدَتْ جثّتُهُ قربَ الساعة، في مدينةِ حمص..أخبرَتني أختُهُ الطبيبة، أنّ بقايا لحمِهم كانت ماتزالُ تحتَ أظافِره.. دليلاً على شدّةِ مُقاوَمَتِهِ لهم.. وأضافتْ : والله، حتى لو قطّعوهُ إرَباً، إرَباً، لا يمكنُ أن ينشقّ عنِ الجيش..!!.. و (الملازم شرف أحمد صالح حسين ).. إبن صالح ديبة.. أو، صالح ابراهيم.. و ( العقيد الركن نضال محمد سلمان ) إبن الأستاذ محمد غانم سلمان.. و (النقيب ملاذ علي حامد ).. إبن جيرانِنا.. و (النقيب المهندس بُنيان بدر ونوس ).. إبن بدر إبن كامل غبيسو، يا أمي…

تذكّرتِ أخي اسماعيل…؟!

لكلّ شهيدٍ منهم قصةٌ، يا أمي الغالية.. اليوم.. كان هناك إلى المنطقة هنا ( الشيخ بدر ) أربعةُ شهداء.. ( من شريجس ) و (بيت دَوحة ) و (المجيدل ) و (الورديّة) ..

أمي..

الساعة الآن الثالثة واثنتيّ عشر دقيقة من بعد ظهر يوم الأحد السادس والعشرين من شهر كانون الثاني عام 2014م.. أنا في بيتكم – بيتنا – بيت أهلي… في غرفتكم الشرقية.. أجلس على نفس الديفون الذي كنتُ أجلس عليه عندما بدأتُ روايتي هذه في الأول من أيار عام 2013م.. لكنّ سريركِ لم يعدْ هنا في الغرفة.. صارَ في الصالون.. ينامُ فوقهُ ابنُ أخي الأغلى..

سأستريحُ قليلاً، يا أمي.. لأتغدّى رزّ بحمّص.. طبختُهُ قبلَ قليل، عندما أتيتُ مع الدكتورة، وزوجها من عيادتها إلى عند (الشيخ علي سلمان).. هما تابَعا نحوَ الفرنِ ليُحضِرا خبزاً طازجاً.. وأنا تابَعتُ إلى هنا سَيراً على قدَميّ، معي اللابتوب في شنطتهِ أو محفظتهِ الجلديّةِ الخاصة.. تناولتُ الحمّصَ من الثلاجَة، كنتُ قد سَلقْته في بيتنا سابقاً.. مازالت زخّاتُ الرصاصِ تخرقُ عِنانَ السماء، يا أمي، لتُسمِعَ السماءَ كم نحنُ مقهورون.. لم أجرؤ على الخروج من البيت هنا عندما مرّت جنازةُ الشهيد.. أخافُ من الرصاصِ المتمرّد الطائش، يا أمي.. لن أتوقّف عن الكتابة مباشرةً على اللابتوب.. لقد أحضرتُ صحناً من الصينيّ الأبيض متوسط الحجم.. تعرفينه جيداً.. كان لديكم منه دزّينة..”12″ صحناً.. ملأتُه بالرز.. أضفتُ إليه كميةً من زيتِ الزيتون.. وجئتُ آكلهُ هنا على الطاولة البُنّية.. وأكتب.. أشعرُ بالبردِ قليلاً، يا أمي.. فقد فتحتُ عدةَ نوافذَ في البيت.. والطقسُ في الخارجِ غائمٌ بشكلٍ كلّيّ.. هل تحملُ هذه الغيومُ الرماديةُ الغامقةُ، زخّاتٍ من المطر..؟! أم علينا ألاّ نرى إلاّ زخّاتِ الرصاص..؟! ألله كريم.. أعرف.. لكنّ المطرَ تأخّرَ جداً هذا الموسم.. سأغلق بعضَ النوافذِ، وآتي…  أغلقتُها… الرزّ قليلُ الملح.. وقد برَدَ بسُرعة..لكن.. لا عَليه.. طيّب….. آخ…!! ما طعمُ الحياةِ إن لم يشاركْنا فيها الأحِبّة..؟! لا.. وغيرُ الأحِبّة..؟! فلا يُظهِرُ النقيضَ، إلاّ النقيضُ.. أتفلسَف..؟! لكنها الحقيقة… ربما هي المتناقضات التي تشكّلُ الكونَ، والحياة.. عندما وصلتُ إلى أمام البيت، كانت بنفسجاتُكَ يا أبي الغالي، قد أزهَرَت… قطفتُ باقةً صغيرةً منها، وأحضرتها إلى هنا.. وضعتُها في كأسٍ زجاجيّةٍ مستطيلةٍ جميلة، مذهّبة عند فوهتها الدائرية… وملأتها بالماءِ من الخزّان من حنفية المطبخ.. هاهي الآن أمامي.. رائحتُها اللطيفةُ الناعمةُ تنعِشُ روحي، وأنفي.. أشعرُ أنها رائحتُكَ يا أبي.. أيها الغالي… أرجو أن تكونَ سعيداً حيثُ أنت…

أتذكُرُ حينَ تواصَلتُ معكَ بالروح، عندما كنتَ في لحظاتكَ الأخيرةِ في هذه الفانية..!! كنتَ في مشفى تشرين العسكري في دمشق.. وكنتُ في بيتنا في الضهر.. زوجي بجانبي… يروحُ، ويأتي… وأنا أبكيكَ بصمتٍ، يا أبي الغالي… وأحدثُكَ بما كنتَ تعلم، وبما لم تكنْ تعلم… شرَحْتُ لكَ كلّ شيء.. كلّ مالم يكنْ واضحاً بالنسبة إليك.. وكنتُ أشعرُ أنّ روحَكَ الطاهرةَ العامرةَ بالحبّ والحنين، معي… تكلّمني بلغتها الخاصّة.. تفهمني… تسامحني… تتفهّمُ كلّ تصرّفاتي، وردودَ أفعالي… تحضنني، بندّيةٍ، وأبوّةٍ خالصة.. شعرتُ أنكَ قد عرفتَ كم أحبكَ يا أبي الغالي.. وكم أقدّرُ كلّ ما عانيتَهُ من أجلنا.. ومن أجل كلّ مَن التجأ إليكَ –يوماً- غريباً، أم قريباً… لايهمّ… المهمّ أنكَ كنتَ صادقاً، ووفياً، وحازماً، ومخلِصاً للجميع.. حتى المخطئين… لأنكَ كنتَ تفعلُ المستحيل.. بكلّ ما أوتيتَ من قدرةٍ وذكاءٍ، وحِنكةٍ، وعدل… كي تردّهُ عن ظلمِه.. أو خطئِه… جازاكَ اللهُ خيراً، يا أبي الغالي…

إذا نجحَ أحدُ الفقراءِ في قريتنا، أو تفوّقَ، أو أنجَبَ، أو عادَ من سفر.. أو.. أو.. أو…. كنتَ تسارِعُ في الخيرات… فترسلُ لهُ هَديّة.. أو بعضاً من النقود.. أو تحضرُ الشوكولا.. والسكاكر.. وتضيّفُ زوّارَك الكثُر.. وتُبدي لهم سعادتك.. ( تعِبْتَ جداً، يا أبي… فليُعطِكَ الإله.. غايَتَكَ التي هي.. رضاه.. ).. آمين يارب العالمين.. لم تكنْ تريدُ جزاءً، ولا شكورا…

فلتهنأ يا أبي.. أكيد، التقيتَ بحبيبةِ عُمرِكَ.. والتقتْ بك… هل أنتما سعيدانِ معاً أيها الغاليَين..؟! أكيد… كنّا نمزحُ مع الغالية أمي.. ونقولُ لها أننا نخشى أن تقتلَ نفسَها كي تسرعَ باللقاءِ بكَ يا غالي..  كم كانتْ تفتقدُكَ يا أبي..!! حبيبها.. وحبيبتكَ الوحيدة.. والوحيد… رحمكما الله تعالى أيها العاشقينِ الغاليين..

أنهَيتُ صحنَ الرز يا أمي… الحمد لله رب العالمين…

إلى اللقاء يا أمي…

الساعة الآن الرابعة وإحدى عشرةَ دقيقة..

لا.. لن أنهي.. سأكتبُ قليلاً.. اتصلْتُ قبلَ قليل بابنِ أخي :

(- عمتو.. أريدُ عشر محمّرات ).. قال أنهُ سيُحضِرها بنفسهِ إلى هنا.. عندما يغلقُ المطعمَ الجديدَ الذي افتتحوهُ منذ حوالي نصف شهر.. لبيعِ المعجّنات.. وغيرِها.. في (وادي ورور) أو (أرض الوَتد )…  بكم القطعة ياعمتو..؟! بخمسةٍ وثلاثينَ ليرة.. إذاً العشرةُ بثلاثمئة وخمسين ليرة.. لاعليهِ يا أمي… فقد وضَعَ لي أخي الغالي مبلغ ألفَيّ ليرةٍ هنا في علبةِ الدواءِ التي كنتِ تستعملينها.. وقبلكِ أبي… أظنّ أنّ بنت الأستاذ (يوسف) إبن خالكِ، المرحوم… و كنّة عمتي.. أحضَرَتْها لأبي.. كهَديّةٍ، منذ سنوات…. وبالتأكيد.. دفعَ ثمنَها، أضعافاً.. كعادَتِه… في طريقي إلى هنا، مرَرتُ إلى باب بيت أخي (محمد) لأعيدَ عدداً من (مجلةِ المعرِفة) كنتُ قد استعرتُه من ابنتِهِ الصغرى.. وهي لخطيبها… وسيتزوّجا في الثاني والعشرين من شهر شباط القادم.. إن شاء الله.. حاولتُ أن أضعَ المجلةَ داخلَ شَبَكِ الحَديدِ على نافذةِ غرفتِها.. لكنّ أمها فتَحَتْ بابَ المَدْخل.. قلتُ لها :

– رأيتِني من النافذة..؟!

قالتْ: – لا والله.. لكنني فتحتُ البابَ ل….

نسيتُ لماذا…

اعتذرتُ أنني لم أكنْ أظنّ أنّ أحداً في البيت، فحاولتُ وضعَها على النافذة… قالت :

– لا عَليه..

ودَعَتني للدخول.. فاعتذرتُ.. سألتُها عن الجميع بمن فيهم أمَّها.. أجابتْ أنهم جميعاً بخير.. سألتُها ماذا بها..؟! قالتْ أنها كانتْ تبكي الشُّهداء.. رحمهم الله.. قلتُ لها: معكِ حقّ… لا نستطيعُ تحمّلَ ما يَحدُث… لكن.. علينا بالمزيدِ من الصبر… ودعوتُ الله أن يفرّج عن سوريا… أظنّ أنّ أسبوع الشهيد الغالي (بُنيان) كان اليوم.. أو، بالأمس… شاهدتُ عدةَ شبابٍ يثبّتونَ صورةً لهُ على حائطِ شُرْفةِ بيتِهم من جهةِ الطريقِ العام.. لم يلتفِتوا لأسَلّم عليهم.. تابعتُ مَسيري إلى هنا..

على المَفرَق عندما يتفرّعُ الطريقُ الآتي من (الشيخ بدر) إلى هنا.. ويصعَدُ نحوَ المَبَرّة.. ونحو بيتنا… هناكَ نصَبَ شبابُ القرية الغوالي.. قوسَ نصرٍ عليهِ صورةُ الشهيد (بُنيان).. وصورة (الشيخ صالح العلي).. وصورة (الرئيس بشار الأسد).. الشهيدُ الغالي يرفعُ إشارةَ النصر… والقوسُ ذو العمودَينِ الخشبيّين، المثبّتين على جانبَيّ الطريق.. تصِلُ بينهُما خَشبةٌ مُعترِضة.. على ارتفاعِ عِدّةِ أمتار.. تكسو الخشباتِ زينةٌ من أغصانِ (الريحان ) الآس.. باللغة الفصحى… يبدّلون اللوحةَ والإسم عندما يزفّونَ شهيداً آخر.. إلاّ أنتَ يا غالي.. (أحمد صالح حسين).. فقد نصَبوا قوسَ نصرِكَ هنا… في أوّلِ الزاروب… الذي يتخلّلُ القرية ليصِلَ إلى بيتِكم عند (الرّويسة) ..لكن، هناكَ في لوحةٍ مُضيئةٍ مُثبّتةٍ على عَمودِ الكهرباءِ في أوّلِ القرية، ترتفعُ صورتُكَ الغالية.. مبتسماً، بلطافَةٍ حزينةٍ – كَعادتكَ- يا أحمد..

أمي..

الساعة الآن الرابعة وخمس وثلاثون دقيقة.. سأتركُ الكتابة.. وأذهب إلى بيت أخي .. فقد سمعتُ صوتَ “موتور”.. قد يكون أخي حضرَ بواسطتهِ من دوامِه.. حيثُ تقلّهم سيّارةٌ خاصةٌ بنقلِ عُمّال المِصفاة، من الشيخ بدر إلى عملهم.. فيترك “الموتور” تحتَ بيتِ أخيه… ويحضِرهُ عندما يعود…

أو قد يكونُ ابنُه، قد حَضَر، ومعهُ (المحَمّرة)..

إلى اللقاء يا أمي..

منذ الثاني والعشرين من هذا الشهر.. و “مؤتمر جنيف 2 ” ينعقد بحضور الوفد الرسمي العربي السوري المؤلّف من : (السيد وليد المعلّم) وزير الخارجية والمغترِبين.. و (السيدة الدكتورة بثينة شعبان).. و (السيد الدكتور بشّار المقداد) نائب وزير الخارجية والمغتربين.. و (السيد عمران الزعبي ) وزير الإعلام.. و (لونا الشبل)، التي كانت (مذيعة في قناة الجزيرة القطَرية) المُجْرِمَة..

يكفينا من هذا المؤتمر موقفُ السيد الوزير المعلّم عندما قال لوزير الخارجيةِ الأمريكيّ المجرم “كيري “.. وهو يشير بسبّابتِهِ الكريمَة :

(( سيد كيري.. لا أحدَ في العالم… لا أحدَ في العالم.. سيد كيري… لا أحد في العالم.. يحقّ له أن يقرّرَ مصيرَ الشعبِ السوريّ، إلاّ الشعب السوريّ نفسه..))

وموقف السيد المقداد، عندما سأله أحدُ مُراسِليّ وكالات الأنباء العالمية (نعرفُ أنكم تتمسّكونَ ببشّار الأسَد..) فقاطعَهُ (السيد بشار المقداد ) قائلاً :

– مَنْ هو بشّار الأسَد..؟!!

قال المُراسِل :

(- الرئيس بشار الأسد)…

فقال المقداد:

-تابع سُؤالك……

وقد تناقلتْ وسائل الإعلام هذين الموقفين ورَدّدتهما وماتزال بين فترةٍ وأخرى تردّدُ المقطعَين…. وكان ذلكَ رافعةً كبيرةً لمَعنويّاتنا نحنُ السّوريين، ولمَن يدعَمنا في العالم كلّه…

آخر مرة يظهر فيها الغالي (السيد الرئيس بشار الأسد) على التلفزيون، في إحدى إطلالاته في لقاء على محطّة تلفزيونية غربيّة، كانَ يبدو نحيلاً، وكأنهُ كبرَ فجأةً عدّة سنوات… لو أنكِ هنا يا أميَ الغالية، كنتِ “عَيّنتِ ” لهُ.. وقلتِ : الله يعينَك.. مسؤوليتُكَ ليستْ سهلة….!!

********************************************************************

أحتاجُكِ الآن، يا أمي.. لتضمّيني في حضنكِ الدافئ.. وتمنحيني الأمانَ الذي فقدتُه.. وتروي عطشي إلى الحب الصادقِ الذي لا يوجَدُ إلاّ معك.. في رحابِ روحِكِ الطاهرة.. أنا أفتقدُ الحنانَ، يا أمي.. وأنتِ مَنبعُهُ الصافي، الجَواد..

امسَحي دموعي يا أميَ الطيبة.. التي تسيلُ مدراراً على خدّيَ الناشِف.. والذي يزدادُ جَفافاً يوماً بعدَ يوم.. أحتاجُ أن ترطّبيهِ بمَعينِ عاطفتِكِ الصادقة.. النابعةِ من روحٍ مجبولةٍ على الحبّ، وبالحبّ.. حتى صارتْ هي الحبّ.. هي مَنبعَهُ الرقراق الذي لا ينضب.. تكادُ روحي تجفّ، يا أمي.. فرَطّبيها بحبّكِ، ياغالية.. أعيدي لها الأمانَ، والحياةَ النديّة، التي لا وجودَ لها إلاّ في مزارعِ روحِكِ الطيبةِ الزكيّة..

أنا أحتاجُكِ يا أمي.. في هذه اللحظة.. وفي كلّ آن.. يا عَذبَةَ الروح.. يا صافيةَ المَعين..

أنا أحبكِ يا أمي.. وتعرفينَ كم أحبك..

أحتاجُكِ الآنِ، وفي كلّ آن.. لتمنَحي روحيَ الظمأى إلى الحنانِ، حاجَتَها كلّها، حتى الإكتفاء..

فلا حنانَ يشبهُ حنانَكِ.. ولا حُبّ كحبكِ.. ولا عفويّةً، وصدقَ عاطفةٍ، يُماثلُ ما جُبِلْتِ عليهِ، وفيهِ، حتى صِرتُما ذاتاً واحدة.. يا أميَ الطيبة.. يا عذبةَ الروح.. يا جميلةَ الشكلِ، والمُحتوى..

اليوم هو الأحد.. الثاني عشر من كانون الثاني عام 2014م.. عيد ميلاد (آمال).. بالتأكيد، عايَدْتِها يا أميَ الطيبة.. بعُمرك لم تنسي عيدَ ميلادِ أحدٍ من أبنائكِ، أو بناتِك.. أحفادكِ، أو حفيداتك.. وحتى زوجات أبنائك.. (كناينك)..

*********************************************************************

كان من زوّار بيت جَدّي البطل المُجاهد المرحوم (الشيخ سليم صالح صالح) الكثيرُ من أهل المُدُن… من طرابلس لبنان.. ومن طرطوس.. وحَماه.. وغيرها….

كلّهُم كانوا أغنياء.. نساؤهم كانوا يلبسون الكثيرَ من الذهبِ، والثيابِ الفاخرة.. وغير ذلك مما يدلّ على غِناهم.. ومَرّةً، سألتْ إحدى النسوةِ من أولئك.. سألتْ (ستّي أم صالح).. زوجة الشيخ المُجاهِد (جدّي سَليم) :

– أين هيَ زوجَةُ الشيخ..؟! لم نرَها…

بكَتْ جَدّتي، وهي تغادِرُ (المْصيف) لتُكمِلَ الطّبْخَ، والنّفخَ، وأنواعَ الطعام.. بعد أن أجابَتها :

(-هلّق بتجي..)…

كانتْ فقيرةً.. ثيابُها ثياب فلاّحَةٍ مكافِحَة.. تخجَلُ أن تظهَرَ بها أمامَ تلكَ النسوَةِ (المَدَنيّات) المُنعَّمات، المُرَفّهات.. ويعرِفنَ أنها (زوجة الشيخ سليم)..!!!!!!!!

كتبتُ مَرّةً..

( لماذا.. يا جدّتي الغالية..؟!

ياذات الروح المعذّبة..

ياذات الصوت الشجيّ .. الحزين..

أيتها المبدعة المُكبّلة..

يا أنثى العندليب..

يامن عجز جسدها المرهَق.. عن حَمل روحها الأكثرَ إرهاقا ً.. فأطلقها بعد اثنتين وثمانين عاما ً.. نحو أصلها..

لماذا أيتها الغالية.. كانت كلّ مواويلك ِ الشجيّة.. تبدأ وتنتهي.. بالآخ…. آخ…؟!!

بمجامرَ متوقّدة من القهر.. وأنهار غزيرة.. تفيضُ بالدموع ِ الحارقة..؟!

كم عانيت ِ..!!

أتساءلُ دائما ً.. كنتُ.. وما أزال.. وسأبقى ماحَييتُ.. أتساءلُ..

تكلّمي ياجَدّتي.. أرجوك ِ..

فأنا أنثى مثلك ِ.. بالإضافة إلى أنّ دَمي من دَمك ِ.. وهذا يؤكّد أنني أكثر من يفهمك ِ..

بوحي.. أيتها الغالية.. فسرّك ِ في بئر.. لا نهائية ِ القرار..

لا تخافي شيئا ً.. لا تخشي أحدا ً..

أنت ِ – ياجدتي – طاهرة.. مؤمنة..

كم استيقظتُ مرة ً، قبيلَ الفجر.. ورأيتك ِ تنزلين من سريرك ِ.. بيتك ِ.. منزلك ِ الذي كان يحضنك ِ أغلبَ ساعات اليوم.. تُنزلين ساقيك ِ البيضاوين، الجميلتينِ، بتثاقل ٍ شديد.. تُسقِطيهما عن سريرك ِ اللاهث ِ الحنون.. تجرجرينَ جسدَك ِ المتعَب، خطوات ٍ.. وتقفينَ بمحازاة السماءِ، قربَ نافدة ِ غرفتِنا المطلة ِ على القِبلة.. تفتحينَ صدرَك ِ اللاهث.. وتتمتمينَ صلاتك ِ اليومية..

( أشهدُ أن لا إله إلاّ الله.. وأشهدُ أنّ محمدا ً رسول الله.. ) ( الحمد والشكر إلك يا مستوجبَ الحمد.. الحمد لله.. ) ( ياربّ وفقلنا الغايبين والحاضرين ).. تتضرّعينَ متوحّدة ً مع القوّة ِ الخالقة.. ربّ السماوات والأرض ومابينهما.. القادر على كل شيء.. السميع البصير.. والقريب المجيب.. العليم بحالك.. وبكل شيء.. رازق الدود.. في حجر الجلمود..  سبحانه..( قصَدْتُ بابك.. فأرجوك لا تخيّبني.. ).. مُنقطعة ً عنِ العالمِ الخارجيّ.. متوحّدة ً مع الكونِ والحقيقة.. بريئة ً.. نقيّة ً.. صادقةً.. حُرّة..

صَدّقيني – ياجدّتي – ألله يحبّنا.. ليس لأننا لا نخطئ.. بل، لأننا .. لا.. ولم.. ولن نتعمّدَ الخطأ – أبدا ً – ويحبنا لأننا أنقياء..نأتيه ِ بقلب ٍ نقيّ من الشرور..

صَدري يصفُرُ يا جدّتي.. بل يجرش..

صدرُكِ الحنونُ، ظلّ يصفُرُ.. ويجرشُ.. على مدى عشرات ِ السنين.. )

حَفيدَتكِ المُخلِصة

فاطمة

*********************************************************************

تفجير إرهابيّ في حافلةٍ مدرسيةٍ في قريةِ (الكافات ) في ريفِ مدينةِ سلمية.. تسعة شهداء معروفين.. وأشلاء 3 شباب، ورجل مجهول الهُوية.. الخميس 9/1/2014م ظهراً..

*********************************************************************

الطحين والخميرة تأتينا من إيران. وأحياناً من تركيا.. وأحياناً تُصنع محلياً، بطريقة قديمة.. إذا انقطعت من الأسواق.. مثلاً.. في بداية الأزمة، بعد نفاذ المخزون.. نتيجة الحصار الإقتصادي والعقوبات الإقتصادية التي فرضها الغرب الإستعماري، على بلدنا الغالي سوريا..

********************************************************************

أمس، كان ذكرى رحيلكَ يا أبي الغالي.. تصوّري يا أمي أنني لم أذكرْ سوى في هذا الصباحِ الباكرِ من يومِ الأحد 19/1/2014م..!! كنتُ قد استيقظتُ باكراً في حوالي السادسة وعشرة دقائق. نظرتُ من خلالِ زجاجِ الشرفة، وإذا بالضبابِ الكثيفِ يغطي الجبالَ والتلالَ والوديان.. يفرشُ عباءته الناعمةَ الرطبةَ قليلاً على أكتافِ هذه القرى الغافيةِ من تعبِ وكدحِ الأمسِ لتأمين احتياجاتِ أسَرِها في هذه الأيام القاسيةِ، والجافةِ حتى من رحمةِ السماء. التي رطّبتْ أديمَها ببعضِ قطراتِ المطر.. التي بالكادِ لاحظتُهُ قبلَ أن أغفو في الثانيةِ بعدَ منتصفِ الليلةِ الفائتة. كنتُ طوالَ نهارِ أمس أشعرُ أنّ الثامنَ عشرَ من كانون الثاني ذكرى مهمّة بالنسبةِ لي.. لكنني لم أفلحْ في تذكّر ماهيّةِ هذه الذكرى سوى قبلَ ساعةٍ من الآن بعد استيقاظي بقليل.. سامحوني يا أبوَيّ الغاليين.. فأنا متأكدةٌ أنكَ يا أبي الغالي لا تهتمّ كثيراً بأيةِ مسألةٍ تخصّكَ شخصياً.. فكيف إذا كان هذا الأمرُ ذكرى رحيلِكَ، يا أبي..؟!!! قضيتَ عمركَ تولي الآخرينَ اهتمامَكَ الأكبر.. الأقربينَ والأبعدين.. حتى شمَلَ اهتمامُك الوطنَ الأغلى والمنطقةَ كلها والعالم.

*********************************************************************

عصر الخميس خطبَ ابنُ عميَ الأصغر.. أخبرتني (نهى) أن عمّة العروسِ، قالتْ لها أنها مشغولةٌ لأنّ عندهم خطبة..

– مَن..؟!

– إبن عمكِ المرحوم (أبو رامي) سيخطبُ ابنةَ أخيها المرحوم (اسماعيل)..

فور إنهاءِ المكالمة اتصلتُ على الخلوي بابنِ عمي..

– سوفَ تخطبُ اليوم..؟؟؟

– خطبتُ…

-ألله يجعلها ساعة خير يا حبيبي… بالتوفيق يا غاليين….

*********************************************************************

عندما أخبَرونا أنّ عميَ الغالي (محمد).. سيُتَوَفى.. بعد مَرَضٍ طويل، ومَرير…

كتبتُ، على وَقع دموعي.. وقهْرِ روحي :

( عَمّاه…

ياقَلبَ طِفلٍ نقيٍّ، في صَدْرِ رَجُلٍ كبير..

يا روحاً خَيِّرَةً، مِعطاءَة، تحويها هيئةٌ مُتَجَهِّمَة..

قَسْوَةُ الحياةِ، ياغالي.. طَبَعَتْ بَصماتها قَسوَةً على وَجْهِكَ الجميل..

لكنّها أبقَتْ نقاءَ الرّوحِ، وزادَتْ في طَهارَةِ القلبِ، وعَطفِهِ على كلِّ مَنْ تقسو عليهِ الحياة…

مَنْ ينظُرُ إليكَ، يخشاكَ، ويَتَهَيّبُ الوُلوجَ إلى داخِلِ نفسِكَ الطاهرة.. لكن، ما إن يتجرّأ قليلاً، ويَعزفُ على أوّلِ وَتَرٍ من أوتارِ قلبِكَ الطاهِر.. حتى تهدأ نفسُهُ، وتطمئنَّ، وتَسْعَد، وتحلمُ، على أنغامِ عَزفِ هذا الوَتَرِ الحَنونِ، الذي يملأ جَوَّ المَكانِ عاطِفَةً صادِقَةً، وحِكْمَةً نادِرَة..

أبٌ لنا، وللجَميع.. بكلِّ ما تعني كَلِمَةُ أبوّة..

أثابَكَ اللهُ يا عَمّاه.. أعظَمَ ثوابٍ.. دُنيا، ودينا.. سُبحانَهُ إنهُ لا يُضيعُ أجْرَ العامِلين..

و رَحِمَكَ اللهُ سُبحانَهُ وتعالى.. في الدنيا، والآخرة.. سُبحانَهُ وتعالى.. إنّهُ أرحَمُ الرّاحِمين.. )

********************************************

( قشيبرة الذرة.. مَسرَد . غربيل عينه واسعة.. منخل.. زراعة الدخان. التسجيل على ربع أو نص.. أو ثلاث أرباع أو علبية أو أكثر من بذر الدود. تربية دود الحرير. طين السطايح. العرجلة. رش التبن. الحَوّارة.. الزنار.. التنقيش. المحفارة. تحصيلدار. ريجة. بدار الدخان. المشمع. تحضير المشاتل.. روي المشتلة.. زراعتها. تحضير المشاتل بالزبل البلدي الناعم. تغطيتها بالمشمع من الدولة. تكشيفها في النهار قليلاً ، أو كلياً.. سقايتها يومياً. تنقيتها من الأعشاب. قلعها. وضعها في سحاحير خشبية. نقلها على الأكتاف إلى الحقول البعيدة المفلوحة جيداً عدة مرات والمخططة تحضيرا لزراعة شتل التبغ فيها وتسهيل حفره وسقايته. سقاية الشتل أثناء الزراعة وبعدها. الحسة. الوسط. الكبير. الرقبة. كسر الشتل. قطفه. نقله إلى البيوت. شكه. كرات خيطان (سلوك) بيضاء.. قطع الخيطان بطول حوالي متر أو أقل.. زردة. نشره على المشابح.. أسلاك شائكة مثبتة من طرفيها على أشجار التوت. بينها تتأرجح خيطان المشابح المتوازية.. تحميها أغصان التوت المورقة، من حرارة الشمس المباشرة، لتبقى أوراق التبغ بلون أشقر بعد جفافها في الظل.. إعادته إلى البيوت بعد جفافه. كبسه في قوالب خشبية تشبه الصناديق المثقوبة من أعلى ومن أسفل. نقله على ظهور الحمير إلى مؤسسة الريجة (الكمسيون) ليباع بالدور.. وتقييم موظفي الريجة لدرجة جودته.. وبالتالي، تقدير سعر الكيلو.. الأمل..بالنسبة للمُزارع.. أخذ ثمنه القليل، بعد تصنيفه بدقة..  صرف الثمن على العائلة. لباس، وغيره.. إيفاء الديون.. وانتظار موسم الحرير.. )

هذه العناوين، مشاريع لم يتسَنَّ لي شَرحُها في هذه الرواية.. لكنّ تفاصيلَها محفورةٌ في الذاكرة.. لاتبرحها، يوماً….

فاطمة

*********************************************************************

يرنُّ صوتُكِ الباكي، في أذني، وأنتِ تهزّينني من كتفي، ذات يومٍ فارغ :

(-ولِكْ، وينا فاطمة..؟! وينا..؟! وينا..؟؟!!!! )

……….زواجي المبْكر.. وزوجي يخدم العلم بعد حوالي عشرة أشهر من زواجنا.. وبقائي مشتتة ما بين منزلنا في الضهر.. بين زوجة عمي (جدتي) بدرة صالح.. أم علي.. وعمي (جدي) الشيخ محمد علي اسميعيل.. في بيت منفرد.. ليس عندنا جيران سوى (بيت خالتي ) بيت (جدي ) الشيخ محمد صالح.. الذي يسكن مع زوجته.. خالتي.. لوحدهما في ذلك البيت الطينيّ البائس.. وكان ابنه الوحيد.. الشهيد (صالح محمد صالح) أبو علي.. كان قد استشهد على الحدود مع العدو الصهيوني، في حزيران عام 1970م قبل زواجي بحوالي ثلاثة أشهر.. تاركاً زوجتَهُ المريضة.. وثمانية أطفال.. أكبرهم (كوكب) التي كانت قد تزوجت وأنجبت ابنها البكر (مجد ) الذي لم يُتَح لجدّه الشهيد أن يراهُ، أبداً.. استُشهِدَ ( أبو علي ) وهو يشربُ الشاي مع رفاقه في الجيش، أثناء قيام طائرات العدوّ الصهيونيّ بغارة على (مستودع الأسلحة ) الذي يخدمون فيه.. قيلَ أنهُ كان مبتسماً، كعادته.. رحمة الله على روحه الطاهرة.. ماتزالُ ضحكتُهُ النبيلة ترنّ في أذني.. وكأنني أراهُ يلفّ سيجارةً من الدخان العربي الثقيل.. أثناء قدومه إلى القرية في إحدى الإجازات القليلة.. ويسكن مع عائلته الكبيرة في ذلك البيت الطينيّ البائس.. المكوّن من غرفتين تتصلان ببوّابة خشبية مهترئة.. وغرفة صغيرة للدّواب.. وخُمٍّ للدجاج..

*********************************************************************

في أحَدِ الأيام، جاء رجل من (مْشَرّق ) مع ابنه، وبعض أقاربه.. إلى بيتنا.. بيتكم.. بيت أهلي.. ليتبارَكوا بطلب يد أختي الغالية (آمال ) أثناء دراستها في الصف الحادي عشر.. فقال لهم أبي الغالي : أنتم على عيني وراسي.. ونتشرّف بإعطاء ابنتنا لابنكم الدكتور الذي على أبواب التخرّج.. سأسألها رأيها.. مع أنني أرجو ألاّ يحصل ذلك قبل أن تكمل تعليمها وتتوظّف.. لأن الزواج المُبْكر، أثّرَ على صحة أختها الكبيرة….. وطلب (آمال) واستشارَها أمامهم.. ورفضت.. لأنها لا تعرف الشاب.. ولأنها مازالت تدرس… ولم تستجب لإغراءاتهم.. أكرَمَهُم أبي كما يستحِقّون.. وذهبوا لكن بعد أن سألوه : – متى نعود..؟!! فأجابهم، أن مرحباً بكم متى ما أردتم.. لكن ليس للزواج من ابنتي.. على الأقلّ في الوقت الحاضر.. وعندما تنهي تعليمها وتتوظف.. لكلّ حادثٍ حديث.. و (يخلق اللهُ ما لا تعلمون )..

*********************************************************************

كنتِ تقولينَ لأبي الغالي : ( أتعجّبُ، كيفَ لأحدٍ من أبنائنا أن ينجحَ، ولم ينمْ أيّ واحدٍ منهم، بعدَ طلوعِ الفجرِ.. يوماً..)..

كنا نستيقظُ في الصباحاتِ الباكرة.. مع كل أفرادِ العائلةِ الكبيرة.. لنقلَعَ (الشّتل) من مَشاتِلِ التبغِ، ونساعِدَ في عمَليّةِ الشتلِ، والسّقي، والحفرِ، وغيرِها.. قبلَ أن نذهبَ إلى مَدارِسِنا..

أو نقوم بغيرها من الأعمال الحقليّة.. نساعِد العائلة الكبيرة الكادحة المُرهَقة… في كل مانستطيعُ من أعمال.. ولا نجِدُ وَقتاً للدراسَة، أفضلَ من المساء.. بعد انتهاء الأعمال.. وخلود العائلة للنومِ الباكر..

هل تعلمينَ، يا أميَ الغالية، كم عانَينا من تَكّبُّرِ، وعَجْرَفَةِ، الكثير من الذين سَمَحَتْ لهم ظروفُهُم ألاّ يكون لديهم أيةُ مسؤوليّةٍ، سوى أن يدرسوا.. فنالوا بذلكَ شهاداتٍ عالية…..؟!!!!!!

وكنتِ تقولين لأخي (محمد) الذي لم يكن ملتزماً كثيراً بالدراسة.. ويرافق شباباً من عمره غير مبالين بالدراسة في الصف التاسع : ( لا والله يا محمد لن تنجح…. ) فيجيبكِ أنه سينجح… فتضيفين : ( إذا نجحتَ يا محمد، أنا سأتقدّم إلى الشهادةِ العامَ القادم.. ).. و عندما نجحَ، طلبَ منكِ أن تفي بوعدكِ له – كعادتك – وتتقدّمي لامتحان الشهادة الإعدادية..!! فتضحكون.. ونضحك جميعاً…

*********************************************************************

من رواية ( أرض السواد ).. للروائي العربي الأستاذ ( عبد الرحمن منيف ) .. مايلي :
قنصل بريطانيا في العراق ” ريتش ” يقول :
) في المدرسة تعلمنا الإصغاء.. وفي وظائف الخارجية تعلمنا مع الإصغاء، الإبتسام.. وفي مثل هذه البلدان.. تعلمنا.. أن نسمع مايقولون.. وأن نفعل مانريد.. )……………………… وأنا أقول ، يا ريتش الساقط.. يارمز الغربيّ الغاصب.. الطامع بخيرات غيره.. والذي يسلب الشعوب ” الطيبة ” خيراتها وكرامتها .. ويذلها ليجعلها عبدة له في بلدانها وأوطانها.. ينظر إليها باستعلاء.. وعندما يتكرّم عليها.. عندما تطيعه وتعبده.. وتعترف بفوقيته.. يلقي لها بعض الفتات.. مما سرقة واستولى عليه من خيراتها .. لتلتقطها خانعة.. لتبقى ( حية ).. فقط.. على قيد الحياة الذليلة.. أقول أيها (الغربيّ النهِم ) كما وصفكم عظيم الهند.. المهاتما غاندي.. في رسالته للمجاهد البطل الشيخ صالح العلي.. رمزنا.. أو أحد رموزنا.. ( خسئتَ.. يا ريتش .. وخسئ من علموكَ كيف تستعبد الشعوب الحرة الكريمة.. على مبدئكم الشيطاني ” الغاية تبرر الوسيلة “.. شعوبنا حيّة.. أيها الأوغاد.. وقد تنبهتْ لوسائلكم الحربائية القذرة.. وسوف لن….. لن.. لن تستطيعوا السيطرة علينا مرة ً أخرى.. أيها السفلة الساقطون.. يا عبَدة المادّة.. الزائلة.. التي نعتبرها – نحن الشعوب الحرة الشريفة التي تعتنق المحبة للحق دينا ً.. وللباطل والظلم كفرا ً.. – .. نعتبرها وسيلة.. لتحقيق إنسانية الإنسان.. السامية.. الراقية..)

من صفحتي على الفيسبوك..

********************************************************************

من صبيحة هذا اليوم المبارك .. أول أيام عيد الأضحى .. أعلن المؤذنون في جوامع قريتنا والقرى المجاورة ، ارتقاء ثلاثة من خيرة شبابنا ، شهدااااء .. استشهدوا وهم يدافعون عن حياة وشرف وكرامة هذا الوطن الأغلى .. ياااااااااأيهاالشهداء .. يااااااأيهاالأبرار .. أيهاالأحياء عند ربكم ، ترزقون .. بوركت الأرض المقدسة من عرقكم وعرق أهلكم الكادحين في سبيل لقمة العيش الكريمة .. بوركت وفتحت ذراعيها السمراوين .. لتضمكم إلى صدرها الدافئ الحنون .. تكفنكم بأمومتها الخصيبة .. وتصدح ألحانها بتراتيل ( كل عام وأنتم بألف خير ) .. لتصل ألحانها الخالدة إلى عنان السماء .. تعانقها بمنتهى الحب .. وتهطل غيومها خيراً وعطاء .

هاهي السماءُ تبرقُ وترعدُ وتمطر .. أللهمّ صلِّ على سيدنا محمد وآله وأصحابه الأطهار .. السماءُ تشارك أمكَ باستقبالِكَ أيهاالشهيدُ الغالي .. سوف يتأجّلُ قِطافُ الزيتونِ عدة أيام .. كنتَ قد وعدتَهم في الحقلِ منذ أيام أنكَ ستساعدهم أيضاً في الإجازةِ القادمة .. مالكَ أيهاالشهيدُ الغالي ..!! لم تخلفِ الوعدَ يوماً ..!! حبيبي .. لستُ أمك .. ولاقريبتك .. ولم أركَ يوماً .. لكنني كجميعِ الكادحينَ الشرفاء .. فقراءِ المادة .. أغنياءِ الروح .. مشبَعينَ بالإنسانية .. بالإيثار .. أقولُ لكَ يابنيّ الغالي .. هنيئاً لكَ الشهادة .. وهنيئاً لأمكَ الأرض .. احتضانكَ في روحِها الخصيبة .

Top of Form

***********************************************Top of Form

عندما سمعنا باختطافِ (فريق الإخبارية السورية) في منطقة (التّل) وانقطاع التواصُل بينهم وبين المَحَطّة..

كتبتُ على صفحتي:

( أقسم بالله العلي العظيم ….. وأكرر قسمي .. من يتجرأ على مس بأذى ، حتى لو شعرة منك يا يارا .. أقسم . ياعمتو ، أنه سيدفع الثمن ……. أقسم . والله على ما أقول شهيد .)

***********************************************

وعندما حَرّرَهم الجيشُ العربيّ السوريّ البطل، بعمليةٍ فدائيةٍ مُتقَنة، كتبتُ على صفحتي :

( الحمد لله .. ثم الحمد لله الواحد الجبار .. والشكر .. كل الشكر والحب والعرفان لأبطال جيشنا العربي السوري .. البواسل .. الشرفاء .. الأحرار .. الأباة . على تحرير الغالية إبنة أخي الإعلامية المناضلة الشجاعة ( يارا محمد صالح) وزميليها الغاليين (عبودي) و ( حسام ) والرحمة لزميلهم الشهيد المؤمن البطل الغالي (حاتم ) .. لكم الحب .. لكم المجد .. لكم العزة والكرامة أيها الشرفاء .. في سوريا الحبيبة والعالم . شكرا من القلب لكل من تضامن معنا في محنتنا .. ولمن هنأنا بسلامة يارا الغالية . ولمن صلى من أجلها ونذر النذور لعودتها بالسلامة . إنها حفيدة المجاهد البطل الشريف ( الشيخ صالح العلي ) وذراعه الأيمن ( الشيخ سليم صالح ) .. حفظتِ وصية جدك يا يارا .. أيتها الوفية الشريفة الشجاعة الأبية :

(- ارفعي راسي يا جدو . ألله يوفقك ويكون معك.. )

هذه وصيةُ جدِّك، أبي الأغلى، رحمهُ الله، لكِ ياعمتو.. الحمدُ لله على السلامة. وعقبى لتحرير كلِّ سوريا الأمّ الحنون، من عصاباتِ الغدرِ والإجرامِ، وداعميها. وعقبى لعودةِ الحقوقِ لأصحابها في كلِّ بقاعِ العالم ( راياتِكْ بالعالي .. ياسوريا..)

من صفحتى على الفيسبوك، أيضاًBottom ofBottom of Form

*********************************************************************

عندما سألتُها مَن أنتِ؟ دار بيننا الحوار التالي..

(- سيدتي :أسماؤنا لاتهم ..يوما”من الماضي قلتِ لي و لصديقةٍ قديمةٍ، جمَعتنا صدفةً، قلتِ لنا أنتم غيوميَ القادمة، عند صدورِ روايتكِ الأولى..لكن أعتذرُ منكِ لأنّ غيومَ أدبنا لم تمطرْ فأحداثُ بلدنا كسرَتْ أحلامَ قلمِنا الذي أرادَ أن يصنعَ شيئا”و لكنهُ تردّدَ في أخرِ لحظة..

هذي أنا)..

– وما أزالُ عند قولي ( أنتم غيومُنا القادمة ) العابقةُ بأمطارِ السماء.. وخصوبةِ الأرضِ الغالية…. التي تعَمّدَتْ بدماءِ الشهداءِ الأبرار… وبعَرقنا وعرَقِ أهلنا.. وبصلَواتنا لإلهِ المَحبة….
لن تُكسَرّ الأقلام.. لكن… ( وأمّا الزَبَدُ فيذهبُ جُفاءً.. وأمّا ما ينفعُ الناسَ، فيمكثُ في الأرض) قرآن كريم..
-)أشكركِ سيدتي. .أتمنى أن نهتدي يوما”إلي الطريق الذي ظللناه بفضل ثقتك و إيمانك بنا )

-أنا على ثقة بذلك

 

-)كل الشكر لكِ سيدتي )

-)لا يليق بنا أنصبح زبدا”و سنقاوم إلى النهاية )
-أحيّيكِ.. ثمّ…… هذه إحدى الحروبِ الظالمةِ الطاغيةِ التي مَرّتْ فوقَ هذه الأرضِ الطيبة.. ليست الأولى.. ولن تكونَ الأخيرة.. دَمّرتْ ما دَمّرت… لكنها عجزت.. وستعجزُ عن تدميرِ أو قَتلِ روح هذه الأمةِ الأبية..

-)أوفقك الرأي و لكن يحدث مع كل تلك الأوجاع أن نضعف قليلا”و لكن نعود إلى درب الحق أقوى )

-أنا العجوز… ما أزال.. وسأبقى.. إن شاء الله….. حاملةً سلاحيَ الأقوى…. المعنويّ.. العَصيّ على الزوال..

-جُرِحنا… بكينا… قُهِرنا……. ومانزال……. لكننا لن.. لن.. لن نلقي أسلحتنا.. كلٌّ من موقعه…….. وسنحياااااااااااااااااااااا……… قد تفنى أجسادُنا……… وستفنى… لكنّ قِيَمَنا.. وأرواحنا.. ستبقى خالدة إلى ما لا نهاية… إلى الأبد
وسنمَهّدَ الدروب للقادمين…… ليعيشوا أفضل مما عشنا.. وسيمهّدون لمن يأتي بعدهم.. وهكذا..
-)أنت ماتزالين شابه بإيمانك و قوتكِ ..لا يقاس العمر بالسنين بل بحب الحياة.. و أنت تملكين الأخيره..أطال الله عمرك . )

-من أنتِ؟ أرجوك..!!

-أنت لاتحبينَ الغموض أما أنا فأجلْ أحبه ..و لكن أحبّ هذا الإسم لقوّته..لربما تهتُ و أعتقدتُ أنهُ إسمي أما إسمي فهو (ر…) و كنت أزورُكِ بمكتبتكِ القديمة مع ( ش ).

……. وأخبرتني أنها من صديقات مكتبتي السابقة(مكتبة الثقافة ) التي بقيتُ لسنوات أعيرُ منها للأصدقاء والصديقات.. الأبناء والبنات… (غيومنا القادمة ..)

فاطمة

***********************************************

-أمي.. هل أقرأ لكِ ماكتبَ عني الأستاذ (عز الدين عيسى) ألله يرحمه..؟!

-طبعاً.. اقرئي..؟!! هل يحتاجُ الأمرُ سؤالاً..؟! يالله..!!

( فاطمة صالح صالح والفردوس المفقود )

ابنة الغار والريحان والحبق وعرف الديك ، وسليلة الكرم والعدالة والجهاد ضد كل من يغتصب الأرض والعرض والكرامة .
في هذه البيئة المحافظة في تراثها وهويتها ، بلدة الشيخ صالح العلي ، نشأت الأديبة الشاعرة فاطمة صالح صالح ، تربّت على هذه القيم وتطبّعت بتلك الثقافة الشرقية الأصيلة . وبشكل نادر استطاعت أن تجمع بين الشخصية الخلقية الملتزمة بواقع منبتها وأصالتها ، وبين الشاعرة الحرّة التي تفرّ إلى عوالم أخرى من وحي تأملاتها وخيالها الخصب عندما يضيق الواقع بالأحلام الكبيرة .
لم تنبهر بأضواء الحضارة ولم تضعف أمام مغرياتها ، أو تُفتن بصرعاتها ونزواتها ، ولم ترَ فيها إلا أسراب الغربان القادمة من بلاد غريبة متنكرة بأثواب الحمائم ، لا لاحتلال الأرض وحسب ، بل لاغتصاب الهوية والأصالة من رأسها حتى قدميها .
إنه المغوليّ الجديد ، بحوافر وسيوف مخملية ، يجيدُ القتل على مهل ، دون صليل ٍ وعويل .. ونضحك ونحن نموت .. وفي موتنا ، نتسابق – كالحمقى – لاستقباله ، وإرضائه .
وكشرقية ٍ أصيلة ، وفنانة لها رؤاها الثاقبة ، تغمض الشاعرة عينيها وتشيحُ بوجهها وتعود القهقرى .. تضمّ في قلبها حلمها الكبير ، الذي لامكان له في الزمن الرديئ ، حاملة ً آهاتها ودموعها وآخاتها ومواويل العتابا والميجنا ، لتحرقها بخورا ً على أطلال فردوس طفولتها المنهوب ، المهجور ، المحطم حتى الرماد . وتعصفُ الأسئلة ُ في وجدانها : مَن ..!؟ مَن ..!؟ مَن خانَ !؟ وفي ثورة الصراخ يتراءى الفارس القادم على صهوات جياد الروح ، ليردّ الحياة في خريف الزمن .
في هذا الخواء تتكيئ الشاعرة على حلمها وتبحر في ضباب الماضي ، يقودها حسّها الشعريّ وذاكرة جنسها البشريّ التي تصحو في الملمّات والأحزان ، فتدخل مملكة الطهر والبراءة ، قدّيسة ً توزع الصلوات والمحبة ، وشاعرة تبحث في رؤاها عن وطن ٍ خرافيّ ، وتارة ً فيلسوفة تنقّبُ في ماهيّة الوجود ، أو صوفيّة ً تتوحّد به ، وتوصد على نفسها بوّابات الزمن .
وككلّ الرومانسيين الذين أتعبهم الترحال في سموات الخيال ، يدقّ الوقت ويبدأ الزمن . فتصحو الشاعرة على وقع ارتطامها بالواقع المرّ ، الذي يمسكُ بنا متلبّسين بسرقة الأحلام وتهريب الأمنيات ، يقتادنا ، يأمرنا ، يطالبنا .. فللأحلام السعيدة فواتيرها الباهظة ، يتقاضاها الواقع ، ودون أن يكترث بمشاعرنا ، يذكّرنا بشرطنا البشريّ ” حياة وموت ، سعادة وألم ” . ودون جدوى نتطلّع إلى القفز فوق المعادلة الصعبة .
لقد مُنحنا جميعا ً الخيال والواقع ، الحلم والحقيقة ، الجسد والروح .. وما نربحه في أحدها نخسره في الآخر .. كأنبوبتين مستطرقتين . أليس هذا عادلا ً من منظور يتجاوز رغباتنا وأفقنا البشريّ ، ووفقا ً للشرط الذي ارتضيناه أحرارا ً أو مُرغمين ..!؟ وكيف لنا أن نجنحَ بعيدا ً في طرف ٍ دون أن تواجهنا الطبيعة بمساءلتها وثأرها في الطرف الآخر ؟.
هكذا ترسم الشاعرة طريقها في خطوط مستقيمة ، على هديّ قيم ٍ وانتماءات قاطعة ، ترفض بكلّيتها إذا رفضت ، وتقبل بكلّيتها عندما تقبل ، متوحّدة ً مع ذاتها ، رهينة َ ثوابتها ، لا تناقش ولا تساوم ولا تبحث في حدود الوسط ، في تطرّف ٍ خطير يقودنا – دون علم منا – إلى غير مانشتهي ونحب .
إنّ النفس البشرية شبيهة بالمناخ الذي تقود تطرّفاته ، إما إلى التجمّد المميت ، وإما إلى نار ٍ تحرق كلّ شيئ .
هذه هي رياح الشاعرة في تقلّباتها الحادة ، رقيقة ٌ وديعة ٌ كالحلم ، متوعّدة ٌ غاضبة كالإعصار ، مما يعكس صراعا ً داخليا ً بين فكر ميتافيزيقيّ متوهّج يفرّ من وهم العالم ، وبين عاطفة ٍ مشبوبة يشدّها إلى الواقع أمانيّ وذكريات وأوطان ، في مفارقة ليست غريبة على الشعراء والفنانين ، فهذه الازدواجية ضرورة ملحّة تتيح للشاعرة أن تتأمّل ذاتها وأن تحاورها وتناقشها ، تختلف وتتصالح معها ، خصوصا ً وأن الشعر في مفهومه الأساسيّ هو : ” بُنية علاقة مع الذات ” وهذه العلاقة تنهار عندما تأخذنا التزمّتات بعيدا ً في طريق ٍ أحاديّ الاتجاه فتقتل في داخلنا شيئا ً هاما ً ، وتعرقل نظام فسيولوجيتنا وعفويتنا اللتان لا تخطئان .
فلنوازن إذن بين الحلم والحقيقة ، بين الفكر والعاطفة ، بين مانرغب به وما لانرغب ، كي نتيحَ للعفوية التي فطرنا عليها أن تأخذنا إلى حيث تريد ، كفكرة بريئة لاتقيّدها رغبة ، ولا تحرقها عاطفة ، ولا يأسرها وهم .
والقدَر الذي يسهر على تطبيق شرطنا الوجوديّ يتعقّبنا ويسجّل علينا أدوارَنا ، يعاقبنا في هذا ، أو يُثيبنا في ذاك .
فالعالم لا يؤخذ بعين العقل وحدها دون أن نكون قساة ً وجافّين . ولا بعين العاطفة وحدها دون أن نكون شخصيين ومنحازين . وهنا يأتي دور الشعر والفن في تلطيف مناخاتنا النفسية والفكرية والعاطفية ، وتصحيح نظرتنا للحياة ، ومعادلة ذواتنا بالعالم من حولنا .
وإذا جاز لنا أن نعاين الفن بشكل عام على أنه علاجٌ للحياة ، أو هروب من الواقع ، أمكننا أن نرى إلى أيّ حدّ ذهبت الشاعرة في هذا الاتجاه أو ذاك . وهنا لا نستطيع أن نتجاهل دور اللاشعور الذي غالبا ً ما يمسك بالدفة ويقود مصائرنا فيما يشبه العملية الإسعافية عندما تتأزّم الحياة وتصبح غير قابلة للاحتمال .
فالشاعرة التي ورثت في دمها توجّس الآباء والأجداد وتحسّسهم من كل ماهو آت ٍ من الغرب ، ترى مفرزات الفكر الغربي تعبث بالتراث وتطمس الهوية وتدنّس طهر الشرق ، فتجد في هذا الذريعة والمبرر في الارتداد اللاشعوريّ نحو جذورها وطفولتها ، تتخذ منها حصنا ً تتمترسُ خلفه هربا ً من مسؤولية تلاحقها وتقضّ مضجعها ، وتفاديا ً لاتهام ٍ قد تواجهه ويعذبها ، فتلقي بالمسؤولية واللوم هنا وهناك ، بعد عجزها عن التكيّف في عالم كهذا . إنها لعبة اللاشعور في حماية الذات من إحساس مؤلم هو فوق التحمّل .
ومع ذلك فإن الشاعرة التي نذرت على نفسها الصلوات واقتحام المخاطر والأهوال ، تفي بوعدها ، وبدلا ً من أن تستسلم وتنطوي على حسّها التراجيديّ الدفين ، تقوم بتصعيده والارتقاء به وصياغته في شكل من أشكال الفن الرفيع تتجلّى فيه موهبتها الفذّة وفكرها المتّقد وإرادتها الصلبة وثقافتها الواسعة .
وهاهو قلمها يسطّر الماضي وأمجاد الأجداد وبناء الفردوس فوق رماده ، ويهَبُ للشاعرة امتدادا ً طالما حلمت به في جانبها الأسمى ” الروحيّ والمعنويّ ” فقدّمت نفسها من خلال تجربتها الشعرية والروائية الرائدة ( الإنسانة النموذج ) التي تحمل همّ الوطن والطفولة والهوية وكل فضائل الشرق ، والأم الحقيقية التي استنبتت في داخلها الأديب والشاعر والمفكر والإنسان ، إنهم يسكنونها جميعا ً ويولدون تباعا ً : ( صلاة ٌ .. لغيومك ِ القادمة ) و ( زهرة ٌ .. فوق الرماد ) و ( مجنونة ُ الخصيبة ) … وبقية قادمون على الطريق .
وها هو التراث يُبعث ُ حيا ً ويُسَجّلُ للتاريخ ، وروحُ الأجداد ترفّ ُ ، والفارسُ الموعودُ يصلُ على متن السحب أمطارا ً غزيرة ً تروي ظمأ أيلول ، وذات القلم الذي يعيد ترتيب العالم تشهره الشاعرة في وجه غزاة الروح أسوة ً بسيف ِ جدّها ( صالح ) ولا فرق بين الجهادين والمحتلّ واحد في الأرض كان ، أم في الرأس ، أم في كعب الحذاء .
هذا هو الخلود الحقيقيّ والامتداد الذي يتفوّق على شرطنا البشريّ ، ويتخطّى حدود الشاعرة وعزلتها الرومانسية وملكيتها لذاتها … إلى وجدان الآخرين ، وهي تقدّم عصارة فكرها وقلبها بلسما ً وأملا ً ، لتصبحَ للجميع … نموذجا ً ، ورمزا ، وقدوة .
عز الدين عيسى
20/12/2007
باحث في الفلسفة وعلم النفس والتراث / من سورية
***********************************************************

( مرحباً بكَ يا وطني….. مرحباً بكم يا أبناء وبنات وطني… الذين خرجتم اليوم إلى ساحات هذا الوطن الأغلى… لتعلنونَ انتماءكم إلى هذا الوطن الأغلى المزركش بكلّ ألوان الطيف الجميلة البديعة…. تعلنون – أكثر من أيّ وقتٍ مضى… وبثقةٍ أكبر من أيّ وقتٍ مضى.. وبقوّةٍ، أكثر من أّيّ وقتٍ مضى – أننا جمييييييعاً سوريّون بامتياز…. عروبيون بامتياز… مسلمون بامتياز… مسيحيون بامتياز…… مواطنون إخوة وأهلٌ وأصدقاء وأحبة.. بامتياز…. نشدّ أزرَ بعضنا بعضاً… ندافع عن أرضنا وأهلنا وقِيَمنا الإنسانية والوطنية والأخلاقية.. معاً.. يداً بيد.. وساعداً بساعد… نتكامَلُ… ولا نتعامل بتفاضُلٍ.. لا نفضّلُ مواطناً على آخرَ إلاّ بمقدار خدمته لهذا الوطن.. وتفانيه في الدفاع عنه ، أو بنائه على أسُسٍ ثابتة متينة، أقوى من كلّ العواصف… سوريون نحن يا أهلي.. ويا إخوتي.. ويا أبناء وطني…. عرَبٌ حقيقيون، بقِيَمنا السامية… نتكامَلُ مع الآخر… ولا نسمحُ لأحدٍ أن يُلغينا.. ولا نُلغي أحداً…. لا نعتدي على أحدٍ.. ولا نسمحُ لأحدٍ بالإعتداء علينا….. نصدً هجمةَ الباغي معاً….. لأنّ الله مع الجماعة.. يمنحها القوة إذا أرادت الخير.. خيرَ الجميع… لا خيرَ فردٍ دون آخر.. ولا أمّةٍ دون أخرى… لكنّ الأقربين أولى بالمعروف… بعدلٍ ، دون طغيان… مرحباً بكَ يا وطني… وقد انتفضتَ من عمقِ المأساة.. لتصنعَ ربيعاً يشبهنا…. ربيعاً عربياً سورياً إنسانياً حقيقاً…. لا مفروضاً من الآخر الذي أرادَ تشويه معنى الربيع الحقيقيّ.. وتشويهَ كلّ شيء جميلٍ في هذا الوطن الأغلى وباقي الأوطان.. بعنصريّةٍ طاغية، باغية… لكنكم.. ولكننا هزمناه…. طردناه وما زلنا نهزمهُ وننبذه ونطرده من طُهر هذا الوطن الغالي.. بهِمّتنا جميعاً… نحن أبناء هذا الوطن… من جيشٍ.. وشعبٍ.. وقيادةٍ حكيمة… يدعمنا أصدقاؤنا الشرفاء في كلّ مكان.. وندعمهم… نتكامَلُ معهم…. نصدّ الطغاةَ البُغاةَ معاً… نعيشُ معاً… نبني معاً… الوطن والمواطن…. تحيةً لكم يا أبناءَ وطني الشرفاء الأوفياء الطيبين.. تحيةً من القلب لمنْ يدعمنا في صَدّ هذه الهجمة الشرسة وهذا العدوان الأظلَم في تارخ البشرية……. أعرفُ أنّ المسيرةَ لم تنتهِ… أعرفُ ذلك………. لكنها بشارةُ الفجرِ القادم…… بشارةُ النصرِ المؤكّد……. بشارةُ النهوضِ والتعالي فوق الجراح………. لنبني غدنا الأفضلَ بأيدينا….. هيا يا أبناء وطني الأغلى…. الوطنُ بحاجةٍ إلى كلّ طاقةٍ وكلّ عقلٍ وكلّ جهدٍ نظيف… لبنائه من جديد… على أسُسٍ أقوى وأمتن……. والله وَليّ التوفيق..)

فاطمة…

على صفحتي على الفيسبوك بعد الرابعة عصر يوم الأحد.. 2/2/20014م

****************************************

بعد وفاتكِ يا أمي.. وبعد انتهاء مراسم العزاء، وعمل الأسبوع.. تقاسَمْنا.. ووزعنا ثيابكِ الحبيبة.. الجميلة.. الأنيقة.. وزُجاجات عطركِ.. سيبقى عطرُكِ يفوحُ في أرجاء البيتِ الذي يمتلئ بحضورك.. ويعبقُ في حنايا أرواحنا ماحَيينا.. سينتقلُ من جيلٍ.. إلى جيل.. حتى اللانهاية… منثوراً في أبَدِ الخلود……….

لكِ المجدُ يا أمي الطيبة………… و……………. إلى اللقاء يا أمي,………………..                                                                             إبنتك فاطمة

******************************************************************

(أمي .. صديقتي .. حبيبتي .. قدوتي …………. رحمك الله………… وأسعدك سعادة دائمة أبدية سرمدية .. ………… أمي .. غاليتي … حبيبتي …………. أيتها النقية …………….. إلى اللقاء يا أمي ………. ……….. بحبك ياأمي .. وبحب إسمك … ماريا إيلينا ……. إلى اللقاء يا أمي .. لمن سأهدي الورود بعدكِ ياغالية ..؟؟!!!! لمن

 

يا أمي …؟؟؟!!!)

**********************************************

 

وطني الصغير – الكبير، هو (المريقب ) من بزوغِ فَجْر ِيوم الأربعاء الرابع عشر من تشرين الأول “أكتوبر” عام ألف وتسعمئة وثلاث وخمسين ميلادية.. السادس من صفر عام ألف وثلاثمئة وثلاث وسبعون هجرية…….. ودفاتري.. وأقلامي……

فاطمة

********************************************************************

الحمد لله رب العالمين

أنهَيْتُ نقلَ هذهِ الرواية من الدفاتر، إلى اللابتوب..

في الساعة الثانية والربع من بعد ظهر يوم الجمعة الثالث عشر من شهر حزيران عام ألفين وأربعةَ عشرَ ميلادية.. المُوافِق للخامس عشر من شهر شعبان عام ألف وأربعمئة وخمس وثلاثين هجرية..

*********************************************************************

( فاطمة صالح سليم صالح صالح محمد رمضان الدّويليّة )

المريقب


الوسوم